مقالات مختارة

مشاهد تونسية قبل أيام من الانتخابات

1300x600

تساءل بعض الظرفاء في بلادنا قائلا: ما دام لدينا ما شاء الله 200 حزب معترف بها جميعا، وعلى رأسها 200 زعيم، وما دام لدينا افتراضا أعضاء فيها ما بين قاعديين وقياديين بمعدل 1000 عن كل حزب يعطينا الحساب 200 ألف "مناضل"! فكيف نفسر والحالة هذه صمود الديكتاتورية وبقاءها لمدة 23 سنة؟ لعل في الأمر سرا يجب على علماء السياسة والاجتماع فك ألغازه، حتى يطمئن قلب المواطن العادي، ويعرف على الأقل كيف ينتخب يوم 15 أيلول/سبتمبر القادم ولمن يعطي صوته؟


أما المراقب الأمين لمشهدنا السياسي في تونس، الذي يرى بلادنا تتقدم خطوة نحو ممارسات المافيات والعصابات المتناحرة وتوظيف القضاء لتصفية الحسابات وخدمة الأغراض، فإنه يحاول استنطاق الواقع وتحليل الخطاب السائد هنا وهناك في حوارات الفضائيات، وعلى أعمدة الصحف وفي منابر المواقع الاجتماعية، ليدرك أن العديد من الزعامات فوجئت بالثورة عام 2010 وبعودة الوعي الديمقراطي للشعب عام 2019 واستعملت وسائل مختلفة لكي تواكب الظرف الطارئ.


سمعت ذات يوم في إذاعة جهوية تونسية أحد زعماء حزب انقلب على مؤسس الحزب نفسه، واحتل موقع الأمين العام وجمع حوله بعض أنصاره، وكان المذيع يستجوبه عن فترة 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1987 وأين كان وقتها؟ فكان الجواب طريفا وظريفا وهو كالتالي: "كنت عامها أشتغل في سفارة تونس بالعاصمة الفلانية (لا فائدة من ذكرها)، وفتحت الإذاعة فسمعت خبر انقلاب زين العابدين بن علي على الزعيم بورقيبة يوم 7 نوفمبر، فقلت إنها الكارثة؛ لأني أعرف أن بن علي سوف يتحول إلى ديكتاتور!" وهنا جاء سؤال ذكي وشقي من المذيع، لم يتوقعه السيد الأمين العام: "لمن قلت يا سيدي إنها الكارثة وبأن بن علي مشروع ديكتاتور؟ لأي وسيلة إعلام؟ وأين نشر هذا التصريح المبكر والخطير؟" فتلعثم السيد الأمين العام، ولكنه أجاب بعفوية وتلقائية وربما بصدق: "لا لا، لم ينشر هذا الرأي أبدا لأني صرحت به لزوجتي على مائدة العشاء!!!".


وبالطبع نستخلص من عفوية هذا الزعيم الجديد، أن كثيرين مثله من النخبة تأكدوا هم أيضا من أن وصول بن علي للحكم كان كارثة وينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، لكنهم تصرفوا مثل صاحبنا فأعلنوا في قرارة أنفسهم أو في سهرة عائلية ضمت زوجاتهم وأبناءهم بأنهم ضد الديكتاتورية! ثم أصابتهم لعنة الصمت المطبق وتحلوا بفضيلة الرضا بالقضاء (وهي رذيلة الأذلاء) على مدى 23 سنة، إلى أن استشهد المرحوم محمد البوعزيزي وثار شباب تونس، فاكتشفوا فجأة أنهم مشاريع زعماء وتذكروا مجلسا عائليا حميميا خريفيا، همسوا خلاله همسا بمواقفهم تلك.


وفي فضاء آخر، صادف أن شاهدت على شاشة تلفزيوننا التونسي، حوارا أجرته آنسة موهوبة ورقيقة لأحد الصحفيين الشعراء الهزليين الكاتبين باللغة الفرنسية، وهو بلا شك أحد ضحايا تكميم الأفواه، لكنه كان يستعمل أسلوب عنف لفظي لم يبلغه قلم سواه لا في تونس ولا في أية بلاد عربية، وأصابتني الدهشة حين طلبت منه الإعلامية المهذبة أن يعرف نفسه للسادة المشاهدين فقال: "أنا يا سيدتي كلب مكلوب" (هكذا حرفيا!) ولا أعترف لا بالنظام المخلوع ولا بالنظام الحالي ولا بالنظام القادم ولا بأي نظام. كما لا أعترف بالمعارضة يمينا ويسارا، ومهمتي ككلب مكلوب هي أن أعض الجميع!" هذا نموذج آخر من نماذج ما بعد الثورة.


ولا أخفيكم أيضا مدى عجبي من عمليات مسخ شامل أصابت بعض صانعي ومهندسي الاستبداد المعروفين، فتحولوا بقدرة قادر إلى ضحايا "النظام السابق"، ورسموا لأنفسهم لوحات وردية وهمية تقدمهم لشباب تونس على أنهم كانوا ناصحين للرئيس السابق، بل وادعى بعضهم أنهم تجرأوا فنبهوه إلى مواقع الفساد لدى زوجته وأصهاره، ولكن الرئيس عوض أن يقاوم الفساد قاومهم هم وأبعد بعضهم (لاحظوا أن الإبعاد لديهم هو تغيير الوزارة أو تعيينهم فيما كان يسمى بمجلس المستشارين براتب الوزير نفسه تقريبا). وأنا أقدر حق أقدارهم أولئك الوطنيين الذين كانوا بالفعل مضطهدين ومشتتين في أصقاع الأرض أو في السجون، وتراهم اليوم متعففين صامتين يمنعهم الحياء من تزعم الثورات أو حتى المطالبة باستعادة حقوق مشروعة تاركين مهمة إنصافهم للتاريخ.


بالطبع، فإن بعد كل انتفاضة شعبية، مرحلة من فقدان البوصلة أو غياب الرؤية، سوف تترك المجال لثورة عميقة؛ أي لإصلاح جذري وميلاد مؤسسات الدولة الحديثة العادلة، لكنني مؤمن أشد الإيمان بما كنت قلته عديد المرات في مناسبات مختلفة؛ وهو أن مخاطر الحرية أقل سوءا بكثير من مخاطر الاستبداد.

 

عن صحيفة الشرق القطرية