مقالات مختارة

واقعة «الآيس كريم» بين بوتين وأردوغان

1300x600

لا شيء يحدث بالصدفة في لقاء الكبار، وكل ما يحدث له رمزية خاصة مقصودة ويحمل رسائل في كل الاتجاهات. وقد احتفلت وسائل الإعلام الروسية ومعها وسائل إعلام كثيرة أخرى بواقعة الآيس كريم بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس التركي الزائر رجب طيب أردوغان، حيث اغتنم بوتين الزيارة لاصطحاب الزعيم التركي إلى معرض ماكس للطيران في موسكو. وقد أظهرت الكاميرات صورتين لافتتين الأولى للرئيسين الروسي والتركي وهما يتفقدان طائرة روسية خارقة جديدة. ومن المؤكد أن ظهور أردوغان وبوتين على متن الطائرة الروسية ليس مجرد فُرجة، بل هو رسالة روسية وربما تركية للغرب تقول: لقد نجحنا في اختراق حلف الناتو من خلال بيع صواريخ أس 400 لتركيا العضو الفاعل في الحلف الغربي، وها نحن الآن نجتذب تركيا ربما لشراء طائرات روسية تنافس طائرات أف ستة عشر الأمريكية. وقد أبدى أردوغان فعلا رغبة واضحة في اقتناء الطائرة الروسية الجديدة، بعد أن أوشك على إتمام صفقة الصواريخ المضادة للطائرات التاريخية بين تركيا وروسيا.

 


بالتأكيد كان مشهد أردوغان وهو بداخل الطائرة الروسية سوخوي 57 صادما للغرب. ولكن، هل تتطور الأمور إلى أكثر من ذلك؟ هل تشتري تركيا سوخوي 57؟ وماذا ستفعل الولايات المتحدة إذا حدث ذلك؟ لا شك أن منظر أردوغان وبوتين في معرض الطيران في موسكو مؤشر على الانزياح الذي يشهده النظام العالمي، وليس مجرد زيارة عابرة إلى معرض حربي.


أما المشهد الثاني الذي لم يكن مجرد أكل آيس كريم، فهو شراء الرئيس الروسي مثلجات وتقديمها لأردوغان في أثناء زيارة معرض الطيران. وقد رأى فيها المراقبون أكثر من رسالة، فالآيس كريم قادر على تبريد الجوف وتهدئة الأمور. لقد ذهب أردوغان إلى موسكو على عجل في زيارة غير مقررة مسبقا للقاء بوتين بعد سقوط مدينة خان شيخون، وبعد أن أصبحت مدينة إدلب السورية التي كانت تعتبرها تركيا تحت وصايتها في مرمى النيران الروسية، ناهيك عن نزوح مئات الألوف من سكانها. لقد توقع الكثيرون أن ينجح أردوغان في تبريد الاندفاعة الروسية باتجاه إدلب، فإذا ببوتين يبرّد الاندفاعة التركية باتجاه إدلب بإصبع آيس كريم. وقد وصل الحد ببعض الساخرين السوريين إلى القول إن أردوغان باع إدلب بقطعة «دوندورما»، وتعني آيس كريم.


كل شيء كان مرتبا من قبل بوتين لزيارة أردوغان. حتى بائعة الآيس كريم كانت جزءا من اللعبة ولم تكن بائعة حقيقية. لا يمكن أن يترك الرئيس الروسي بوتين أي شيء للصدفة، مستحيل. هكذا هم رجال الاستخبارات. لا يمكن أن يثقوا بأحد، وهم يحسبون كل خطوة مهما كانت صغيرة وبسيطة، ولا شك أنهم يشكون في ظلهم أحيانا، وبعضهم يموت وهو يعاني من أمراض نفسية كالوهم والخوف الشديد والرهاب؛ لأنهم أمضوا حياتهم في لعبة الخوف ذاتها.


وبما أن فلاديمير بوتين بالأصل قادم من جهاز الكي جي بي السوفياتي الرهيب، الذي أرعب العالم على مدى أكثر من سبعين عاما، فلا شك أنه يتصرف كرجل أمن في كل خطواته وليس كرئيس. وقد شاهدناه في مرات كثيرة وهو يلتقط صورا مع عمال نظافة، لنكتشف لاحقا أن عمال النظافة الذين التفوا حوله والتقطوا الصور معه ليسوا بعمال نظافة، بل لبسوا لباس عمال النظافة لمهمة محددة في مرافقة الرئيس وحمايته. وفي مرة أخرى شاهدناه يلتقط صورا مع البحارة أيضا، لنكتشف فيما بعد أن الأشخاص نفسهم الذين كانوا يرتدون لباس البحارة، هم من مرافقيه الشخصيين أو من جهاز الأمن الروسي.


لكن هذه الألاعيب الصغيرة لم تعد تنطلي على الناس في هذا العصر، حيث أصبح بمقدور أي شخص أن يسجل صور الذين كانوا بجوار الرئيس كناس عاديين مزعومين، ثم يقارن صورهم بصور المسؤولين أو المرافقين حوله، فيكتشفون أن الوجوه هي ذاتها، لكن اختلفت الملابس فقط للتمويه. وهو تمويه أصبح ساذجا جدا في عصر الصورة والموبايل ومواقع التواصل الاجتماعي التي تفضح كل شيء.


لقد ظهر بوتين بطريقة عادية عفوية وهو يشتري الآيس كريم ببساطة كما يشتريه بقية الناس العاديين، لكن هل يمكن فعلا لبوتين أن يثق بأكل الآيس كريم وتقديمه لضيفه إذا لم يكن متأكداٍ مائة بالمائة من نوعيته ومن هوية البائع أو البائعة التي قدمته له؟ مستحيل. لقد تمكن أحد الخبثاء أن يقارن بين صورة بائعة الآيس كريم التي باعت الآيس لبوتين وأردوغان، وصورة لسيدة روسية تظهر دائماٍ وراء بوتين في حله وترحاله، فاكتشف أن بائعة الآيس كريم ما هي إلا من أهل البيت الكرمليني، ومن أحد مرافقي الرئيس واستخباراته الخاصة.


لا بأس في ذلك أبدا، فمن حق الرؤساء والاستخبارات أن تلجأ إلى كل الطرق والأساليب والحيل الخادعة للتمويه والحماية، لكن من حق الخبثاء أيضا أن يكشفوهم، ويقرأوا الرسائل المشفرة التي يريدون إيصالها من وراء أفعالهم التي تبدو عادية وعفوية، لكنها في الواقع محسوبة بالورقة والقلم من الصعود إلى الطائرة في معرض الطيران مرورا بلعق الآيس وانتهاء بشخصية البائعة.

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية