أفكَار

بين "أسلمة الحداثة" و"تحديث الإسلام" هل من مسارات أخرى؟

مأذنة

في الوقت الذي تدعو فيه اتجاهات إسلامية محافظة إلى "أسلمة الحداثة" بإخضاع منتجاتها بشقيها المادي والثقافي لأحكام الإسلام وتشريعاته، تطالب اتجاهات علمانية وتنويرية بضرورة "تحديث الإسلام"؛ بتقديم قراءات جديدة لتعاليمه وتشريعاته تتماشى مع روح العصر الحداثية.

ومع توالي المساجلات التي تدور رحاها بين منظري وأتباع الاتجاهين المذكورين، تُثار أسئلة عديدة حول إمكانية إيجاد خيارات أخرى، وشق الطريق لمسارات مختلفة، تجمع بين مسلكي "الأسلمة والتحديث"، وتسعى لبلورة رؤى مغايرة للأنساق الفكرية السائدة.

يُشار في هذا السياق إلى رؤية المفكر المغربي، الدكتور طه عبد الرحمن الموضحة في كتابه (روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية) والتي فرق فيها بين روح الحداثة وواقعها المنتج عبر سياقات تاريخية معينة، كما انتقد فيها أتباع الاتجاهين السابقين، واصفا إياهما بـ"فئة المقلدين، الأول يقلد المتقدمين من المسلمين، والآخر يضم الذين يقلدون المتأخرين من غير المسلمين (الغرب)".

وبحسب عبد الرحمن، فإن "مقلدة المتقدمين يتعاطون إسقاط المفاهيم الإسلامية التقليدية على المفاهيم الغربية الحديثة كأن يُسقطوا مفهوم (الشورى) على مفهوم (الديمقراطية).. أما مقلدة المتأخرين، فيتعاطون إسقاط المفاهيم الغربية المنقولة على المفاهيم الإسلامية المأصولة كأن يُسقطوا مفهوم (العلمانية) على مفهوم (العلم بالدنيا)، ومفهوم (الحرب الدينية) على مفهوم (الفتح)، واعدا أنه سيقدم اجتهادا مغايرا لمقلدة المتقدمين والمتأخرين كليهما.  

ووفقا للأكاديمي والباحث الأردني، الدكتور معتز الزيتاوي، فإن "الكثيرين فرحوا عندما نشر طه عبد الرحمن كتابه المذكور، وحُقَّ لهم ذلك، واتخذوه ممرا للعبور الحداثي، وأننا لسنا مجبرين على تمثل حداثة الآخر، فلنا أن ننطلق من روح الحداثية لا تطبيقاتها التاريخية المتصرفة بالواقع الكوني اليوم".

وأضاف: "لكنني لا أرى أن هذا الكتاب أصلا في باب الحداثة، بل توقفت عند كتاب آخر له، رأيته يصلح ممرا ومعبرا ثابتا للاستئناف الحداثي، ألا وهو كتاب (الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري)، وأخص فيه مفهوما واحدا وهو "التعارف".

وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "فلو أردنا التوسل بالحداثة من جديد لقيامنا ونهوضنا فعلينا بـ"التعارف" بابا لذلك، لأن الحداثة اشتباك مع الواقع والآخر -أشخاصا وأشياء- تبليغا واستفادة، تبادلا في المفاهيم والأحكام والقيم، ومحاولة اقتراب من أجل العيش والتعاون على البِرِّ، ومفهوم التعارف هو الأقدر على دفعنا بقوة في هذا الطريق الموصل".

من جهته، رفض الباحث الفلسطيني المتخصص في الدراسات الإسلامية، ناجح سلهب، فكرة "تحديث الإسلام"، واصفا المطالبين بها بأنهم قد تأثروا كثيرا بمضامين ومسارات الإصلاح الديني في أوروبا، وبالتالي يريدون تطبيق ذلك كله في المجال التداولي الإسلامي، لأنهم اقتنعوا أن أوروبا لم تتقدم إلا بعد التحرر من سلطة الدين والكنيسة، وحررت العقل من أغلال الدين وقيوده، وهو ما يطالبون به في البيئة الإسلامية".

وأرجع سلهب أسباب رفضه لتلك الفكرة إلى كون "الإسلام في ذاته يتضمن كل تلك القيم والتعاليم، كإعلاء قيمة العقل، ورفض التقليد، وتعظيم قيمة المصلحة، وإطلاق يد الإنسان الحر والمفكر والفاعل، والحرية والعدل، وكل ما نحتاجه هو إظهار تلك القيم، بما يليق بها"، مضيفا: "ثمة نظريات واجتهادات إسلامية مؤصلة في هذا المجال، نحتاج إلى إبرازها، إضافة للقراءات العقلانية لتشريعات الإسلام وأحكامه".

وشدد سلهب في حديثه لـ"عربي21" على أنه "لا يوجد في الدين الإسلام ما يحول بين المسلمين وبين التقدم، والأخذ بأسباب الحداثة، بل كل ما في الإسلام يحثهم على ذلك، تماما كما كان المسلمون في سابق عهدهم أساتذة للعالم".

بدوره، أشار الكاتب المصري، الباحث في الفكر الإسلامي، عمرو عبد المنعم، إلى أن تحدي الحداثة الوافدة أفرز ثلاثة تيارات أساسية في تعامل العرب معها، أولها: تيار العودة إلى الجذور الرافض للحداثة، كعموم التيارات الإسلامية (إخوان، أنصار السنة..)، وثانيهما: تيار القبول بالحداثة والاقتباس من الفكر الغربي كطه حسين وسلامة موسى وغيرهما، وثالثهما: التيار الوسطي الموائم بينهما كخير الدين التونسي وآخرين.

وأوضح عبد المنعم أن التيارات الرافضة للحداثة في الوقت الذي ترفض فيه كثيرا من الأفكار والرؤى الحداثية، غير أنها تقبل بمنتوجاتها المادية والتكنولوجية، ولا تجد حرجا في ذلك، مع أنها تتردد كثيرا في قبولها بداية الأمر، بل تسارع إصدار الفتاوى بتحريمها، ثم تعود عن تحريمها فيما بعد لتصبح “حلالا زلالا".

وأضاف لـ"عربي21": "ثمة إشكاليات كبرى في التعامل مع المستجدات المعاصرة، وظهر لي ذلك جليا من خلال بحث تتبعت فيه عشرات الفتاوى المحرمة لكثير من منتجات الحداثة الغربية الصناعية والتقنية، ففي بداية ورودها إلينا تكون حراما تحت عنوان (سد الذريعة)، ثم سرعان ما تتحول الفتاوى إلى إباحتها وتجويز الأخذ بها".


وأكدّ عبد المنعم في رده على سؤال حول مدى حاجتنا إلى تأسيس حداثة إسلامية تخرج عن نسقي مقلدة المتقدمين (السلف) والمتأخرين (الغرب)، على "أننا بالفعل بحاجة إلى تأسيس حداثة إسلامية يقوم على إنتاجها علماء وفقهاء ومفكرون مسلمون، تأخذ بروح الحداثة، ثم يطبقونها بمقتضى تعاليم الإسلام وأحكامه".