أفكَار

شيعة البحرين.. النشأة والصعود والمعاناة والمستقبل (2من2)

سعيد الشهابي: شيعة البحرين لعبوا دورا في احتجاجات العام 2011 المطالبة بالحرية- (الأناضول)

على خلاف تجارب حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، تمكن إسلاميو إيران الذين وصلوا إلى السلطة عام 1979 في ثورة شعبية، أسقطت حكم الشاه وأقامت نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من ترسيخ تجربة سياسية مختلفة، ولم تكتف فقط ببناء الدولة والتأسيس لنموذج في الحكم يستمد أسسه من المرجعية الإسلامية الشيعية، بل وتحولت إلى قوة إقليمية وامتد نفوذها إلى عدد من العواصم العربية.

ومع أن التجربة الإسلامية في إيران، قد أثارت مخاوف المنطقة العربية، التي وقفت ضدها في حرب الثمانية أعوام من خلال دعم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في تلك الحرب، فإنها لم تحظ بالاهتمام الفكري والعقلاني الهادئ، لفهم أسرار قوة هذه التجربة، وفهم آليات تمكنها من الحكم، وقدرتها على مواجهة الحرب مع العراق بالإضافة إلى الحصار الإقليمي والدولي.

وتزداد أهمية قراءة التجربة السياسية في إيران، هذه الأيام، بالنظر إلى صعود نفوذ طهران السياسي في المنطقة بشكل عام، ولا سيما في دول الربيع العربي، التي تمكنت طهران من أن تكون واحدة من أهم القوى النافذة فيها، إن لم يكن بشكل مباشر كما هو الحال في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فبمن خلال السياسة الناعمة كما هو الحال في علاقاتها مع باقي دول الربيع العربي.
 
"عربي21"، تفتح ملف التجربة الإيرانية، ليس فقط من زاويتها الدينية أو السياسية أو الدفاعية، وإنما أيضا من زاويتها الفكرية بهدف فهمها أولا، ثم معرفة أسرار نجاحها وتمددها في المنطقة، واستحالتها أخيرا إلى قوة إقليمية ودولية. 

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية للنهج الشيعي في الدين والسياسة والفكر.

يواصل اليوم الكاتب والباحث البحريني الدكتور سعيد الشهابي تسليط الضوء على شيعة البحرين النشأة والمسار والآفاق..

شيعة البحرين وإيران

لم يخف رموز الإسلام السياسي الشيعي تعاطفهم مع الثورة الإسلامية في إيران، فدعموها بالكلمة والموقف وزار بعض رموزهم الإمام الخميني في منفاه خارج باريس بقرية "نوفيل لوشاتو". وبعد انتصار الثورة ذهب وفد من العلماء والأعيان إلى طهران لتهنئة الإمام الخميني بانتصار ثورته، وكان من بينهم الشيخ عيسى أحمد قاسم، رمز تيار الإسلام السياسي الشيعي، والشيخ عبد الأمير الجمري وآخرين. 

حتى ذلك الوقت لم يكن هناك مواجهة بين الحكومة وهذا التيار. ويمكن تسجيل حدثين رئيسيين يمكن اعتبارهما بداية المواجهة. أولهما اعتقال الشيخ محمد علي العكري في أيلول (سبتمبر) 1979 لدى عودته من إيران عبر الكويت، وثانيهما: إعدام السيد محمد باقر الصدر في العراق. 

الحادث الأول كان بداية لتطبيق قانون أمن الدولة على النشطاء الإسلاميين بعد أن طبق على اليساريين قبل سنوات. (هذا القانون كان أهم ما توافق على رفضه الوطنيون والإسلاميون في تشرين أول (أكتوبر) 1974 في المجلس الوطني، وكان من أهم أسباب حل ذلك المجلس). أما إعدام الصدر فقد شجع تنظيم حزب الدعوة المواطنين على التظاهر احتجاجا عليه وذلك في نيسان (ابريل) 1980. ونجم عن ذلك اعتقال المئات وسقوط أول شهداء التيار تحت التعذيب: جميل العلي (أيار/مايو 1980) وكريم الحبشي بعد شهر من ذلك. ومنذ ذلك الوقت لم تتحسن العلاقة بين الطرفين، واستمرت حتى اليوم.

 

تدربوا على السلاح في الخارج 


رابعا: في غمرة المشاعر الثورية في مطلع الثمانينات، أعلنت حكومة البحرين عن إحباط محاولة انقلابية في كانون أول (ديسمبر) 1981. كانت أكبر حملة قمعية في تاريخ البلاد، إذ اعتقل أكثر من مائة من الناشطين من التيار الشيرازي، بعضهم من داخل البلاد، والبعض الآخر تم تسليمه من دول الجوار مثل دبي وعمان والكويت. كانت تلك الضربة شبه قاضية للتيار الشيرازي بعد أن روج النظام لها واستطاع استعطاف الدول الأعضاء بمجلس التعاون، الذي كان قد تأسس في مطلع ذلك العام (شباط/فبراير 1981). 

وليس معروفا بعد مدى واقعية القول بوجود محاولة انقلابية. الأمر المؤكد أن عددا من النشطاء عادوا إلى البلاد بعد أن تدرب بعضهم على حمل السلاح في الخارج. كانت تلك الحادثة ذات أثر كبير على مستقبل العلاقة بين الحكم وغالبية السكان من المواطنين الشيعة. وشهدت البحرين في الشهور اللاحقة حملة قمعية غير مسبوقة قادها إيان هندرسون وضباطه الأمنيون. ويمكن القول إن التيار الشيرازي لم تقم له قائمة بعد تلك الضربة الموجعة، وإن كان وجوده مستمرا داخل البحرين وخارجها، ولكن بدون أثر سياسي يذكر.

خامسا: تواصل الاستهداف السلطوي لتيارات الإسلام السياسي بعد ضربة 1981، من خلال الاعتقالات والتطبيق الصارم لقانون أمن الدولة الذي كان يخول وزير الداخلية باعتقال المعارضين وسجنهم ثلات سنوات بدون محاكمة. وخيمت على البلاد حالة من التوتر الأمني ادت لسقوط المزيد من الضحايا تحت التعذيب في السجون. 

 

استهداف قيادات حزب الدعوة


وفي كانون أول (ديسمبر) 1983 استهدفت الحكومة المجموعة الكبرى من تيار الإسلام السياسي بعد اعتقالات محدودة أدت لانتزاع اعترافات واسعة. هذه المرة استهدفت قيادات حزب الدعوة التي لم تكن قد أعلنت عن وجودها بعد، واعتقل العشرات منهم، الأمر الذي أدى إلى تداعي التنظيم وهروب بعض قياداته وتجميد التنظيم. وبعد شهرين من بدء الحملة الأمنية أصدرت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في الأول من نيسان (أبريل) 1984 قرارا بحل جمعية التوعية باعتبارها معقلا لنشطاء حزب الدعوة.

سادسا: إن تلك الاعتقالات قضت على تنظيمات الإسلام السياسي، كما فعلت مع تنظيمات التوجهات اليسارية والقومية من قبل، ولكنها لم تقتلع الرغبة في التغيير لدى قطاعات هذه التيارات. استمر التوتر الأمني والسياسي، ومعه الاعتقالات المتواصلة واستهداف المظاهر الدينية التي توفر للنشطاء أجواء مناسبة للتمدد والتوعية. 

وفي العام 1988 اعتقلت مجموعة اخرى اتهمت بالانتماء لما يسمى "حزب الله البحرين" وسجن أفرادها سبع سنوات. ومع نهاية الثمانينات بدا أن نظام الحكم في البحرين قد قضى على أغلب مناوئيه من كافة التيارات. ولكن ذلك لم يقض على التوجه نحو التغيير في البلاد.

 

اجتياح الكويت وتداعياته

سابعا: كان الاجتياح العراقي للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 حدثا مهما في تاريخ المنطقة، فبالإضافة إلى أنه وفر فرصة عودة القوات الأجنبية إلى منطقة الخليج بدعوى "تحرير الكويت" فإنه أدى لشعور حكام المنطقة بضرورة تخفيف القبضة الأمنية والاستماع للمطالبة بالإصلاح السياسي. 

ومع انتهاء حرب الكويت كانت سجون البحرين قد فقدت الكثير من نزلائها، ولم يبق سوى أقل من عشرين سجينا سياسيا. كما أدى إضافة البحرين لقائمة الدول التي تراقبها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ضمن "الاجراءات الخاصة Special procedure 1503 لاجبار نظام الحكم على تخفيف الوضع الأمني نسبيا. 

ومع حلول العام 1992 توفرت الفرصة للنشطاء من كافة التيارات السياسية، الإسلامية والليبرالية واليسارية، للتقارب والتوافق على مشروع سياسي مشترك يدعو لاعادة العمل بدستور 1973. فتم توقيع عريضة نخبوية تطالب بذلك، وقعها أكثر من 300 من الشخصيات الوطنية والإسلامية البارزة. يومها كان الوجود الأمريكي يحول دون اعتقال الموقعين. وتبعتها في العام 1994 عريضة شعبية وقعها 25 الف مواطن بالمطالب نفسها.

 

كان الاجتياح العراقي للكويت في 2 آب (اغسطس) 1990 حدثا مهما في تاريخ المنطقة، فبالإضافة إلى أنه وفر فرصة عودة القوات الأجنبية إلى منطقة الخليج بدعوى "تحرير الكويت" فإنه أدى لشعور حكام المنطقة بضرورة تخفيف القبضة الأمنية والاستماع للمطالبة بالإصلاح السياسي.


شعرت الحكومة بالحصار السياسي من كل مكان، فاستغلت معارضة بعض الإسلاميين لماراثون رياضي بشن حملة اعتقالات طالت عددا من الناشطين من بينهم الشيخ علي سلمان. أدى ذلك لاندلاع أكبر انتفاضة شعبية معاصرة استمرت خمسة أعوام. كانت عناصر الإسلام السياسي من أهم قادة تلك الانتفاضة، وفي مقدمتهم الشيخ عبد الأمير الجمري. وتواصل التوتر السياسي والأمني وسقوط الشهداء وتصاعد أعداد المعتقلين حتى وصل أكثر من 3000 سجين سياسي. 

وبعد وفاة الأمير السابق، عيسى بن سلمان آل خليفة، استلم نجله، حمد السلطة ليستمر في منصبه حتى اليوم. وتدخل الأمريكيون والبريطانيون لمساعدته لطرح مبادرة سياسية، فأعلن إطلاق سراح السجناء السياسيين والسماح بعودة المبعدين وإعلان العودة إلى ما سماه "الحياة البرلمانية". جاء ذلك بعد أن أقر المواطنون ميثاق العمل الوطني الذي طرحه الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة. 

تيار الاسلام السياسي الذي كان أغلب رموزه إما معتقلا أو منفيا استدرج لمشروع الحاكم، فأقر الميثاق ووجد نفسه لمسايرة ما يسمى "المشروع الإصلاحي" للأمير. ولكن تعقيدات الوضع ورفض الحكم العودة للممارسة الديمقراطية الحقيقية وفق الدستور التعاقدي القديم، أحدث انشقاقا في أوساط أقطاب الإسلام السياسي، فحدثت حالة من التشظي في الجسد الشيعي، الأمر الذي أضعفه كثيرا.

ثامنا: كما حدث في بقية بلدان الربيع العربي، جاءت ثورات الشعوب في 2011 لتحرك الآمال بالتوصل لحل سياسي لأزمات متواصلة في أغلب هذه البلدان. وفي البحرين انتفض الشعب في ثورة هي الكبرى في تاريخه، في 14 شباط (فبراير) 2011. ووجد تيار الإسلام السياسي قائدا لهذه الثورة، وقدم أكبر كم من التضحيات في التاريخ البحراني.

هل نجح الإسلام السياسي في البحرين أم أخفق؟ 

يمكن القول إن الوضع البحراني متميز عن بقية الشعوب لأسباب سياسية (خضوع البحرين للهيمنة السعودية والبريطانية)، ومذهبية (أكثرية شيعية ساحقة، محكومة من مجموعة صغيرة غير قادرة على التعايش مع قيم العصر وعاجزة عن التأقلم مع قيم العصر كالديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان). الإسلام السياسي في البحرين أصيب بضربة موجعة، كما حدث مع بقية فصائل تيار الإسلام السياسي خصوصا في مصر بشكل مباشر والعراق وتونس واليمن (بشكل غير مباشر). وستظهر الحقبة المقبلة مدى إمكان الاستمرار في مشروع الإسلام السياسي كبيدل للنظام السياسي العربي الذي لم يحقق الحرية أو الديمقراطية كما فشل في حماية حقوق الإنسان. إنها تجربة صعبة لكنها جديرة بالقراءة الفاحصة واستيعاب ديناميكية التغيير والتعرف على نمط الصراع بين الشعوب الباحثة عن الحرية والكرامة وقوى الثورة المضادة.

 

إقرأ أيضا: شيعة البحرين.. النشأة والصعود والمعاناة والمستقبل (1من2)