كتاب عربي 21

كيف تنجح تركيا وإيران في ما يفشل به العرب؟!

1300x600

لا يقصد من هذا المقال تقديم رأي سلبي أو إيجابي من سياسات إيران وتركيا، بل المقصود هو محاولة الإجابة على تساؤل مباشر وبسيط: "لماذا تنجح إيران وتركيا بفرض سياسة خارجية شبه مستقلة فيما يفشل العرب في ذلك؟ على الرغم من أن العرب يملكون إمكانات أكبر من الدولتين مجتمعتين!


هل سياسة تركيا إيران فعلا ناجحة؟!


يفترض السؤال المطروح أن إيران وتركيا تمتلكان سياسة خارجية ناجحة، فهل هذا الافتراض صحيح؟ 

إن المتابعة الحثيثة لسياسة الدولتين من زاوية "مصالحهما القومية" تؤكد أنهما تمتلكان سياسة خارجية نشطة، وناجحة إلى حد ما، دون أن يعني ذلك عدم وجود إخفاقات هنا وهناك.

لقد استطاعت الدولتان فرض وجودهما كقوتين إقليميتين في المنطقة على كل اللاعبين الإقليميين والدوليين، ولهذا فإن الدول الكبرى تتعامل معهما بندية، فهما إما حلفاء أو خصوم أو أعداء للدول الأخرى، فيما تتعامل القوى الكبرى مع الدول العربية بكل أسف باعتبارها دولا تابعة، أو في أحسن الأحوال مجرد "زبائن" للأسلحة، كما وصف الرئيس الفرنسي علاقة بلاده بالسعودية مثلا أثناء أزمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي.

وعلى صعيد السياسة الخارجية لهاتين الدولتين، فإنهما في الغالب ينفذان سياسات مبنية على مصالحهما القومية أولا وأخيرا، فيما تلعب معظم الدول العربية أدوارا هامشية في السياسات الإقليمية، باعتبارها مجرد انعكاس لسياسات "الحلفاء" الأقوياء في المنطقة وخصوصا الولايات المتحدة وأوروبا، وهذا يؤكد أن إيران وتركيا نجحتا في هذا المجال فيما لم ينجح به العرب.

أما على صعيد النفوذ، فإن طهران وأنقرة تمتلكان نفوذا "معقولا" في عدة دول بالمنطقة، بل على مستوى العالم، وتمتلكان أيضا تأثيرا في ملفات إقليمية ودولية كثيرة عبر حلفاء أو "وكلاء" محليين، فيما تكاد الدول العربية تفتقد لأي نفوذ، سوى بعض القدرة على التأثير الهامشي في سياسات المنطقة عبر المال والإعلام أحيانا.

 

وحتى مصر التي كانت تلعب دورا هاما في إفريقيا والشرق الأوسط في فترات سابقة، فإنها باتت دون نفوذ، بل إنها الآن عاجزة عن حل أزماتها مع إفريقيا مثل أزمة حصة المياه في النيل وسد النهضة الإثيوبي.

لماذا تنجح تركيا وإيران ويفشل العرب؟

لا يمكن لأي دولة أن تنجح صدفة في فرض نفسها وصياغة سياسة خارجية مستقلة قدر الإمكان عن تأثيرات الخارج، بل إن هناك عوامل واقعية هي التي تصنع النجاح أو الفشل في السياسة الخارجية، وهذه العوامل هي فقط ما يمكن أن يفسر النجاح التركي والإيراني بمقابل الفشل العربي.

إنه الاقتصاد يا "غبي"!

إن العامل الأول في نجاح سياسة كل من تركيا وإيران الخارجية هو الاستفادة من الموارد في صناعة اقتصاد مستقل نسبيا يساعد الدولة في عدم الارتهان للخارج. لا شك بإن الاستقلال الاقتصادي أو السياسي الكامل أصبح شبه مستحيل في عالم اليوم، بسبب الإكراهات التي صنعتها العولمة، ولكن النجاح في السياسة الخارجية يتطلب استقلالا اقتصاديا نسبيا. 


وعلى الرغم من امتلاك كثير من الدول العربية موارد ضخمة تفوق ما تملكه إيران وتركيا بأضعاف، إلا أنها فشلت في بناء اقتصاد انتاجي وتنموي، واكتفت بالاعتماد على موارد الطاقة من غاز وبترول كمصدر شبه وحيد للدخل القومي، ولذلك فإن هذه الدول العربية تبقى مرهونة للخارج، في حين استطاعت إيران تحمل حصار اقتصادي مستمر منذ عقود، وتمكنت تركيا من توزيع مصادر الدخل، ما أهلها لتحمل هزات سياسية واقتصادية كثيرة، ومكنها بالتالي من ممارسة سياسة خارجية شبه مستقلة.

سياسة تركية وإيرانية نشطة مقابل سياسة عربية "محافظة"

ثمة عامل آخر لا يقل أهمية عن الاقتصاد في صناعة سياسة خارجية ناجحة، وهو التحرر من قيود السياسة التقليدية المحافظة، وقراءة الخارطة السياسية الإقليمية والدولية بشكل مستمر لاتخاذ المواقف والقرارات بناء عليها.

 

وبينما تعتمد كل من تركيا وإيران على قراءة الواقع العالمي والإقليمي المتغير لبناء سياستها الخارجية، فإن غالبية الدول العربية تبني سياستها على عامل ثابت ووحيد، وهو الالتزام بما "تعتقد" أنه محددات السياسة الأمريكية، على الرغم من أن هذه المحددات غير ثابتة وتتغير مع الوقت بشكل دراماتيكي، ولكن السياسة "المحافظة" للدول العربية تعجز عن قراءة هذه التغيرات.


وكنتيجة لالتزام الدول العربية بسياسة خارجية محافظة، فإنها تضع نفسها دائما تحت سقف "الخطوط الحمراء الأمريكية المتخيلة"، وهي غير قادرة على زحزحة هذا السقف أو حتى الاستفادة من الهوامش المتاحة تحته، بينما تناور كل من إيران وتركيا بعيدا عن الالتزام الحرفي بالرغبات الأمريكية، وتدركان أن السياسة مغالبة و"مقامرة" وتعلمان أن كون الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم لا يجعلها "إلها" متحكما تماما بسياسات ومصائر الدول.

وفي نفس إطار السياسة المحافظة، فإن إيران وتركيا توسعان من تحالفاتهما الخارجية، ولا تفرضان على نفسيهما سياسة خارجية بتحالف أحادي، بينما تلزم معظم الدولة العربية نفسها بتحالف واحد ووحيد مع المحور الأمريكي الغربي.

 

لقد وسعت إيران من تحالفاتها مع روسيا والصين ودول أمريكا اللاتينية، وهي مع ذلك منفتحة لعلاقات جيدة مع أوروبا وحتى مع الولايات المتحدة، فيما تقيم تركيا علاقات جيدة وإن كانت حذرة مع واشنطن، وتحافظ على انتمائها لحلف الناتو، ولكنها في الوقت نفسه توثق علاقاتها مع الصين وروسيا والباكستان، وتتعامل مع روسيا كبديل محتمل للولايات المتحدة، فيما تضع الدول العربية كل بيضها في سلة واشنطن والعواصم الأوروبية، وإن كانت تحافظ على علاقات جيدة مع روسيا والصين، ولكنها لا تقدمهما باعتبارهما بديل محتمل لواشنطن.

تحالفات موثوقة أم "صداقات" عابرة؟


استطاعت تركيا وإيران بناء تحالفات موثوقة مع لاعبين غير حكوميين في المنطقة، وهو ما مكنهما من بناء نفوذ في عدة دول، ومنحهما القدرة على التأثير في ملفات عديدة ساخنة في الإقليم. قدمت إيران دعما ماليا وسياسيا وعسكريا لحلفائها غير الحكوميين لعقود، واستطاعت بذلك إقناعهم بأنها حليف يمكن الثقة به، فيما بدأت تركيا بصناعة تحالفات شبيهة خصوصا بعد انطلاق الثورات الشعبية العربية عام 2011، واستطاعت هي الأخرى إقناع حلفائها الجدد بأنها حليف يمكن الاعتماد عليه. 


بالمقابل، فإن الدول العربية الكبرى فشلت في منح الثقة لحلفائها غير الحكوميين، بل إن بعضها عمل على إهانة حلفائه كما فعلت السعودية مثلا مع رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وكما تفعل مع الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي وحكومته الشرعية وحلفائه من التجمع اليمني للإصلاح.


وبينما بنت إيران وبصورة أقل تركيا علاقات مستدامة مع حلفائهما غير الحكوميين، تعامل الدول العربية مع هؤلاء الحلفاء باعتبارهم أدوات "موسمية" يمكن شراؤهم بالمال لفترة، بدلا من بناء علاقات استراتيجية دائمة معهم. لقد أدت مقاربة إيران وتركيا مع المنظمات والجماعات غير الحكومية إلى منحهما نفوذا كبيرا في المنطقة، وأعطتهما القدرة على استخدام هذه المنظمات كأوراق ضغط في صراعاتها مع دول الإقليم والعالم، فيما تقف الدول العربية خالية الوفاض من أي أوراق ضغط.

نجاح تركيا وإيران في سياستهما الخارجية هو ليس مجرد صدفة، بل هو قائم على حسابات وتحالفات وقراءة للعوامل المؤثرة في سياسة العالم والإقليم، وهذه الحسابات والتحالفات قادرة أيضا على صناعة سياسات خارجية عربية ناجحة وشبه مستقلة، هذا لو أرادت هذه الدول فعلا أن تكون مستقلة، ولو فكرت بأمنها القومي بدلا من التفكير بأمن "سلطتها"!