كتب

تاريخ مصر الحديث والمعاصر.. قراءة في تجربة هيكل (1من2)

كتاب يكشف أسرار علاقة الكاتب محمد حسنين هيكل بجمال عبد الناصر ثم بأنور السادات (أنترنت)

على كل شهرة محمد حسنين هيكل، كصحفي التصق بالرئيس جمال عبد الناصر، وكان المعبِّر عنه، فإن هذا كله لم يحل دون أن يجعل من هيكل شخصية مثيرة للجدل، ولعل في هذا وذاك، ما دفع المهندس يحيى حسن عمر إلى اختياره موضوعا لأطروحة ماجستير، قدمها في نحو سبعمئة صفحة فولسكاب، اختزلها عمر، عند نشرها في كتاب، في مجرد 416 صفحة من القطع المتوسط.

في الفصل الأول، ألقى عمر حزمة من الأضواء على سيرة هيكل، وكتاباته. بينما تعهَّد الفصلان، الثاني والثالث، بدراسة مدى تطابق ممارسات هيكل مع الواقع، الذي ينقله، أو يُشكِّله. وقد فصل المؤلف بين مفهومي الموضوعية والمصداقية؛ وخصَّ أولهما بالفصل الثاني، بينما تولى الفصل الثالث أمر المصداقية. وتولى الفصل الرابع دراسة تطور أساليب هيكل في الكتابة. قبل أن يختم المؤلف كتابه بالنتائج.

من مناصر للحكم الملكي إلى منافح عن عبد الناصر

بيَّن عمر كيف استمرأ هيكل تبني مواقف الحكومات المصرية المتعاقبة، ضد الشوعيين، خاصة حكومات إسماعيل صدقي باشا، وحزب السعديين، كما دأب الصحفي نفسه على التحذير مما أسماه "التغلغل السوفييتي"، متغافلا عن التغلغل الاستعماري(ص29).

على الرغم من تحيُّز هيكل الكامل للنظام الملكي المصري، فإنه سرعان ما نقل بندقيته إلى الكتف الآخر، وتحيَّز  لحركة الجيش (23 تموز / يوليو 1952)؛ حتى إنه لم يخجل بأن يوجِّه كلامه إلى رجال العهد الملكي: "اسكتوا أنتم، ودعوا غيركم يتكلم!" وأتبعها بمقال عن ضرورة "تطهير الصحافة"، ما يؤكد تعجُّل هيكل لتوثيق علاقته بالعهد الجديد، وتقديم نفسه كمتحدث باسمه.

 



معروف بأن هيكل كان وثَّق علاقته بالأمريكيين، بمجرد أن بزغ نجم الولايات المتحدة الأمريكية، كزعيم للمعسكر الإمبريالي، غداة الحرب العالمية الثانية، وقد سهَّل لهيكل أمر توثيق هذه العلاقة، عمله في "دار أخبار اليوم"، التي أقامتها واشنطن في القاهرة، العام 1944. وأكدت ثلاثة كتب لاثنين عملا في "المخابرات الأمريكية المركزية" ارتباط هيكل المبكِّر بهذه المخابرات؛ أولهما مايلزكوبلاند، في مذكراته "اللعبة واللاعب"، وثانيهما هو ويلبورإيفيلاند، في كتابه "حبال من الرمال". وإن اكتفى بالمرجع الثاني، دون الأول.

حدث أن أرسل مصطفى أمين تلميذه هيكل، إلى اللواء محمد نجيب، بغرض التقاط أي خيط، لمعرفة من يحضِّرون لانقلاب عسكري، ظهرت تباشيره في الأُفق (19/7/1952)، وحدث أن وصل إلى منزل نجيب كل من عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر؛ فلاحظ هيكل بأن البكباشي (المقدم) عبد الناصر هو رأس الانقلاب، وليس نجيب؛ فسارع هيكل إلى الالتصاق بعبد الناصر؛ الذي رحب بالأول؛ لتعطُّش عبد الناصر "إلى معرفة أسرار السياسة، وكواليس الحكم، والمعلومات المهمة، عن الداخل والخارج؛ الأمر الذي يبرع فيه هيكل. و قد كان" (صفحة 31).   

لطلما أكد هيكل بأن له الدور الأكبر في صنع القرار السياسي في مصر، في عهد عبد الناصر. بينما رفض مرارا وتكرارا، شغل أي موقع وزاري (ص 34).

استمرأ هيكل تسويق الرؤية الناصرية للأحداث، والسياسات الخارجية والداخلية، وإكسابها أبعادا  تنظيرية وفكرية وتاريخية؛ حتى إنه كتب بأن النظام الذي لا يريد أن يُغيِّر، فلا بد أن يتغيَّر (ص 35 ـ 36).

كل هذا أقحم هيكل في صراع مع بعض المحيطين بعبد الناصر، مثل علي صبري، ومجموعته، وهو الصراع الذي تصاعد، بشكل ملحوظ، بعد هزيمة 1967.

قصة سجن هيكل في عهد السادات

حين احتدم الصراع بين الرئيس السادات، ومن أُطلق عليهم صفة "مراكز القوى"، انحاز هيكل للسادات علنا. لكن، بعد أن أخرجه السادات من جريدة "الأهرام"، في شباط (فبراير) 1974، وقُتل السادات، شكك هيكل بوطنية الأخير، ثم عاد واتهمه بقتل عبد الناصر، بالسم!

بعد أن أخرج السادات هيكل من "الأهرام"، سارع الأول إلى إلغاء الرقابة على الصحف؛ أغلب الظن حتى يعطي السادات انطباعا  بأن هيكل هو من كان العقبة أمام هذا الإلغاء. ولم يكتف السادات بذلك، بل أحلَّ علي أمين، الخصم اللدود لهيكل، محل الأخير في "الأهرام" (ص42).

في محاولة لتفسير إطاحة السادات بهيكل، رأى المؤرخ التقدمي المصري، صلاح عيسى، بأن السادات ـالذي كان يطمح أن يكون آخر الفراعنةـ، أراد "كهنة" لم يرتبطوا في وجدان الناس بأحد سواه، وخاصة عبد الناصر.

 



ما بين خروج هيكل من "الأهرام"، وحتى نهاية عصر السادات، عمد هيكل إلى إصدار مجموعة من الكتب، أولها "عبد الناصر والعالم"، عدا الكتب التي جمع فيها مقالات سابقة له، وأتبع الكتاب الأول بآخر "الطريق إلى حرب رمضان". وفي آذار (مارس) 1976، بدأ هيكل بسلسلة مقالات "لمصر لا لعبد الناصر"، قبل أن يجمعها في كتاب، اتهم فيه مدبِّري الحملة على عبد الناصر بالرغبة في التربُّص بتجربة الأمة بأسرها، ووصل الأمر بهيكل حد تجميل سلبيات العهد الناصري.

تلقى هيكل التشجيع من "انتفاضة الخبز" في مصر (كانون الثاني / يناير 1977)، وبادر إلى توجيه انتقاد شديد إلى السادات، عقب تنفيذه وعيده بالصلح مع إسرائيل. وجمع هيكل مقالاته، في هذا الصدد، في كتاب "حديث المبادرة"؛ فأُحيل إلى المدعي الاشتراكي، مع أربعة صحفيين آخرين، بتهمة "التشهير بمصر، وتهديد سلامتها الداخلية". ومُنع الخمسة من السفر خارج مصر. 

في كتابه "البحث عن الذات"، اتهم السادات هيكل بتحريض عبد الناصر على التنكيل بالعائلات الكبيرة، لعُقد قديمة في نفس هيكل على تلك العائلات (ص48).

 


هذا الصحفي المصري، محسن محمد يُنقِّب في الوثائق الأمريكية، إبان العهد الملكي في مصر، فيعثر على تقرير، يؤكد بأن هيكل قدم تقريرا مطوَّلا إلى السفارة الأمريكية في القاهرة، حول التغيير الوزاري المفاجئ في مصر (تموز / يوليو 1949). و لم يرد هيكل على هذا الاتهام!

في العام 1979، بدأ هيكل في نشر سلسلة مقالات، في صحف عربية، عن التحقيقات معه في مصر، ثم جمعها في كتاب "وقائع تحقيق سياسي أمام المدعي الاشتراكي" (ص 49 ).

في مساء 3 أيلول (سبتمبر) 1981، أُلقي القبض على هيكل، في الإسكندرية، ضمن حملة اعتقالات، شملت نحو 1500 من الرموز، السياسية، والفكرية المصرية. وكانت المرة الأولى التي يذوق فيها هيكل مرارة السجن، وإن أُفرج عنه، عقب اغتيال السادات، وحلول حسني مبارك محله، بعد أقل من ثلاثة أشهر من حملة الاعتقالات. وقد أورثت هذه الفترة القصيرة هيكل مرارة "ما كانش العشم!" (ص50)

لاحظ المؤلف بأن كتابات هيكل التاريخية لطالما تأثرت كثيرا بالعلاقات والتحالفات السياسية! فهو الذي وصف اختيار عبد الناصر للسادات نائبا له ـبعد أن أصبح الأخير رئيسا للجمهوريةـ كأن عبد الناصر "كان يُرتِّب نفسه، استعدادا ليوم الرحيل". وبعد غياب السادات، كتب هيكل أن "اختيار عبد الناصر للسادات كان مؤقتا، لفترة أسبوع" (ص115)، ثم انشغل عبد الناصر، ونسي! "أي إن وجود السادات كان في موقع نائب رئيس الجمهورية مجرد محض مصادفة!

 



استمرأ هيكل كيل المديح للمقربين، واتخذ المؤلف من د. محمد فوزي، والعقيد معمر القذافي نموذجين في هذا الصدد (ص 117). مقابل تشويه الخصوم. ولما اعتُقل هيكل، وأفرج عنه، كال المديح لقتلة السادات (ص121) .
 
لأنه ظل يحمل ضغينة ضد "الوفد"، وقادته؛ لذا وجدناه يعمد إلى الطعن الأخلاقي، والعرض الكاريكاتيري لشخصية مصطفى النحاس باشا، رئيس الوفد (ص121). 

عن رئيس "مجلس قيادة الثورة" المصري اللواء محمد نجيب، زعم هيكل بأن الأول لم يحضر إلا اجتماع ا  أو اجتماعين لمجلس قيادة الثورة (ص 122). بينما ما كان لحركة الجيش أن تنجح بضباط صغار، ومتوسطين، وبدون نجيب، الضابط الكبير الحائز على شعبية واسعة، وهيبة المركز داخل الجيش. 

 

على الرغم من الهزيمة المؤكدة، التي حاقت بالقوات المسلحة المصرية، في حرب 1956، فإن هيكل رأى "انتصارها كاملا"؛

 
رأى المؤرخ رؤوف عباس بأن هيكل، بنفيه صفة المؤرخ عن نفسه، إنما يحاول أن يحرر نفسه من الانتقاء عند بناء روايته للحدث. أما المؤرخ والقانوني طارق البشري، فقد لاحظ التوازن المفقود في الطرح التاريخي عند هيكل (ص 123).

على الرغم من الهزيمة المؤكدة، التي حاقت بالقوات المسلحة المصرية، في حرب 1956، فإن هيكل رأى "انتصارها كاملا"؛ وإن كان صحيحا أن المعتدين أخفقوا في تحقيق معظم أهدافهم السياسية، عدا انتزاعهم حرية ملاحة إسرائيل في مضيق تيران، ومرابطة "القوات الدولية" على الحدود، بين مصر وإسرائيل؛ ما أفقد مصر القدرة على تحقيق المفاجأة، في أي حرب تالية. وحتى حين احتلت القوات الإسرائيلية سيناء، في حرب 1967، فإن هيكل استخف بهذا الأمر، متسائلا: "كم احتل العدو والمهاجم من إرادتنا؟!" مهوِّنا من أهمية الأرض.

حسب د. عماد عبد اللطيف، الخبير في تحليل النصوص، وتحت عنوان "مساحات الصمت"، فيما يتعلق بدور القوات المسلحة المصرية في هزيمة 1967، خصوصا تلك النتائج التي ترتبت على الهزيمة (ص 126 ـ 127)، إلى استخدام المبني للمعلوم، والمبني للمجهول، كطريق  للإظهار، والإخفاء؛ فضلا عن اختلال التوازن، بين حجم تناول الأحداث وأهميتها، كما فعل هيكل، حين همَّش دور المقاومة الشعبية في بورسعيد، في تصديها للعدوان الثلاثي (ص130 ـ 131).

ناهيك عن الكيْل بمكياليْن، بدل الحرص على المعايير الموحَّدة أو المتوازانة، أو المتقاربة لسوء الأحداث التاريخية، وتقييمها. وفي هذا المجال حجب هيكل قائمة الآثار التي قُدمت في العهد الناصري، للعديد من زوَّار مصر، وضيوفها؛ بينما بالغ هيكل فيما فعله السادات في المجال نفسه (ص132 ـ 133). 

أما قراءة هيكل لتأييد الشعب لموقف الرئيس، فهي قراءة مختلفة بين عبد الناصر، والسادات؛ حين رفض الشعب المصري تنحي عبد الناصر، غداة هزيمة 1967، وإعادة هيكل تأييد الشعب المصري لمبادرة السادات إلى غسيل المخ، الذي تعرَّض له الشعب من التغطية التليفزيونية المكثَّفة للحدث.

يحدث أن يضع هيكل بنفسه قواعد تقييم الحدث التاريخي، ثم يحتكم إلى هذه القواعد، فتخرج النتيجة موافقة لما أراد؛ ومن ذلك تقييمه لمعايير النصر، والهزيمة. (ص 137). بينما إذا ما جرَّد المؤرخ الأحداث من سياقها التاريخي، فإنه سيقود القارئ إلى نتائج مغايرة، أو محاكمة عصر بمقاييس عصر آخر.

يشكِّك هيكل في الدوافع التي أدت بالمثقفين إلى معارضة نظام عبد الناصر، ويعيد هيكل هذه المعارضة إلى الصراع الطبقي، الذي تسبَّب بأزمة المثقفين، وأن الزعيم الأوحد يمثل الكادحين، ويفكر لهم، وينوب عنهم. (ص140) وكأن المثقفين طبقة قائمة بذاتها، لها مصالحها المتميزة عن مصالح الجماهير؟! والأنكى أن هيكل انتهى إلى دعوة المثقفين لتأييد سلطات الثورة (ص 140).

يؤكد هيكل بأن "الذين يعيشون الحوادث هم، في أغلب الأحيان، آخر من يصلح لتأريخها؛ ذلك لأن معايشتهم للحوادث تعطيهم، على الرغم منهم، دورا. بينما يقول غونار ميردال إن "الموضوعية هي أن تعلن عن ذاتيتك، منذ البداية". أما المؤرخ المصري، د. عماد أبو غازي، فرأى بأن "كل العاملين في حقل الإنسانيات، والدراسات الاجتماعية، لهم انحيازاتهم؛ وهذا الانحياز لا يعيب بحثهم، ولا ينتقص منه، طالما أن هذا الانحياز لا يؤثِّر على الموضوعية، ولا يدفع بهم إلى إخفاء وثيقة، أو اختلاق واقعة. وتكمن الضربة القاضية لموضوعية الكتابة التاريخية لهيكل، في استخدامه التاريخ لخوض معارك الحاضر، بكلمات المؤلف. وهذا هيكل نفسه يعترف: "أستدعي التاريخ، لمعركة، أو قضية سياسية؛ لوجهة نظر سياسية" (ص 146 ـ 147).

في السياق نفسه، وصم هيكل كل ما بعد عبد الناصر بالقائمة السوداء. كما ظل هيكل منحازا للمشروع القومي، ولإثبات عروبة مصر. أما انحيازه الأيديولوجي لليسار (ص 150)، الذي أشار إليه المؤلف، فليسمح لي بمخالفته هنا. 

 

*كاتب فلسطيني