أفكَار

باحث تونسي: "الدولة" مفهوم قرآني أصيل وهذه أسانيده

الدكتور محمد الرحموني: الدولة مفهوم قرآني أصيل- (عربي21)

على الرغم من صعود عدد من قادة الحركات الإسلامية إلى رأس السلطة في العديد من الدول العربية والإسلامية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم نماذج ذات خصائص محددة يمكن أن نطلق عليها مصطلح الدولة الإسلامية.

من إيران إلى السودان مرورا بباقي الدول العربية التي تنص أغلب دساتيرها على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، ظل هيكل الدولة الحديثة هو الوعاء الذي اندرجت فيه مختلف الاجتهادات السياسية. 

ومع أن المكتبة الإسلامية تزخر بآلاف الكتب التاريخية التي توثق مختلف مراحل تطور المنطقتين العربية والإسلامية قديما وحديثا، إلا أنها في الجانب الدستوري والقانوني المتصل بالدولة ظلت في أغلبها أقرب إلى الترجمة والنقل من التجربة الغربية منها إلى النحت الإسلامي. كما هيمن عليها الاصطفاف الأيديولوجي الذي قسم المنطقة العربية والإسلامية، بين شق وطني يعتقد بثراء المكتبة الإسلامية وتقدمها عن غيرها من الاجتهادات الفكرية، وبين نخبة تعتقد بأن العلم لا وطن له، وأن التلاقح الفكري والثقافي من أهم أسباب التطور في مختلف المجالات.

ولكن الحاجة إلى مفاهيم وآليات دستورية وقانونية لإدارة الدولة لم تظهر بشكل جلي وواضح، إلا مع ثورات الربيع العربي، التي أعادت صياغة المشهد السياسي بالكامل، وفتحت الباب على مصراعيه أمام مختلف التيارات السياسية الوطنية للبروز وتصدر المشهد، وكان من بينها تيار الإسلام السياسي الذي ظل ينظر للدولة الإسلامية منذ مطلع القرن الماضي.

"عربي21"، وفي سياق متابعتها للحراك الفكري الذي تعرفه المنطقة العربية والإسلامية، تعيد فتح ملف الدولة الإسلامية كمفهوم وآليات، وتطرحه على قادة المجتمع السياسي والفكري في العالمين العربي والإسلامي.

اليوم يناقش أستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة المنار التونسية الدكتور محمد الرحموني، في ورقة أعدها خصيصا لـ "عربي21"، الأصل اللغوي والديني للدولة. 

المقدمة

ارتبط مفهوم الدولة الإسلامية بما سيسمى لاحقا حركات الإسلام السياسي. ولكن أغلب الذين يثيرونه اليوم ويعرضونه على النقاش والمراجعة هم خصوم الإسلام السياسي وأعداؤه. ولعل صعود نجم الإسلاميين بعد ثورات الربيع العربي ساهم في تغذية هذه النقاشات وتطويرها لتشمل التاريخ الإسلامي ونظرية الحكم في الإسلام. والحقيقة أن موضوع "الدولة في الإسلام" ليس هو جوهر الجدل الدائر بل هو عرضه، فالجوهر يتعلق بمسألة العلمانية في صورتها اليعقوبية الفرنسية والحديث عن وجود تصوّر إسلامي للدولة من عدمه إنما هو حصيلة الموقف من العلمانية، فالعلمانيون يصرون على أنّ الإسلام ـ والدين عموما ـ إنما هو مسألة إيمانية شخصية ولا دخل له في إدارة الشأن العام فالحكم مسألة تعاقدية  يحددها أفراد المجتمع. 

وأما الطرف المقابل فيصر على أن الإسلام دين ودنيا وأنه نظام شامل لكل مجالات الحياة ويتجسد ذلك في "الشريعة". ولذلك فالدولة الإسلامية هي التي تطبّق الشريعة، ولمّا كان مفهوم الشريعة مكتظ المعاني وغزير الدلالات اختلف في شأنه.

من هذا المنطلق نعتقد أنّ تناول موضوع الدولة في الإسلام يفترض تناول جوهر المشكل وهو هل الإسلام / الدين مسألة روحية وحسب أم له بعد سياسي. 

ونظرا لضيق المجال والمقام سنقتصر في هذه الورقة على تبيّن المسألة من خلال القرآن الكريم باعتباره النص التأسيسي وعلى اللغة باعتبارها خزّان التجربة التاريخية للأمة.

تمهيد

في البدء نرى من الضرورة المنهجية التذكير بأمرين:

1 ـ وفقا لكقثير من الدراسات الجادة شرقا وغريا (كتاب المدينة العتيقة La Cité antique  للمؤرخ الفرنسي فيستال دي كولانج Fustel De Coulanges (1880 ـ 1889) ومقدمة ابن خلدون فإنّ الدين هو أصل الدولة.

2 ـ لمّا كان القرآن قد أعلن أخلاقية جديدة دخلت في صراع مع المعايير القبلية السابقة والمعاصرة له كان خطابه محكوما بالتضاد المفهومي: مسلم/ جاهلي، نور/ ظلمات، جنة / نار..الخ. ولعل أهم ثنائية لها علاقة مباشرة بموضوع الدولة هي ثنائية مؤمن/ كافر.

"الدولة".. مفهوم أصيل في القرآن 

الإيمان والدولة

للإيمان في القرآن أركان لم يتوان عن التذكير بها في كلّ حين على مدى نزول الوحي على النبي. وقد استقر عددها في كتب الفقه على ستة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه وأنبيائه ورسله وباليوم الآخر وبالقضاء والقدر. وهذه الأركان هي غير أركان الإسلام التي حصرها الفقهاء في خمسة (الشهادتان ـ الصلاة ـ الزكاة ـ الصوم ـ الحج). ولكن الأمر ليس كذلك في القرآن فأركان الإيمان والإسلام أكثر مما ذكر وأهمّ، وتتجاوز الفرد إلى المجموعة، فالإيمان في القرآن لا يقتصر على الإقرار بوحدانية الله والإيمان بملائكته وكتبه..الخ وعلى الشهادتين أي ليس هو شأن فردي يهم علاقة الفرد بالله بل هو يتجاوز ذلك ليشمل الموقف من المجتمع والدولة. وهكذا فلا إيمان حقيقي دون صلاة وزكاة وهجرة والتزام بالولاء والطاعة التامة في السلم والحرب (فكرة العهد أو الميثاق)، ودون الانخراط في جهد المجموعة المؤمنة لبناء مجتمع المؤمنين ودولتهم.
 
وليس من باب الصدفة أن يلح القرآن على "إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة" كشرط من الشروط الأولى والأساسية للإيمان، فإذا كانت الصلاة هي عماد الدين فإنّ الزكاة هي عماد الدولة؛ والتفريق بينهما يخرج صاحبه من دائرة الإيمان كما حصل في حروب الردة. بل إنّ في الصلاة بعدا سياسيا واضحا فصّل فيه القول أحد فلاسفة القرن الرابع الهجري (أبو الحسن العامري): "... ثمّ المتحرّم بها يأتي من أركانها الشيء بعد الشيء، على هيئة شبيهة بخادم تَقَدَّم إلى ملك عظيم، فوقف بين يديه، مستشعرا هيبته، مثنيا عليه؛ حتى إذا استدناه كفّر له بمطامنة ظهره، حتى إذا زاد في الاستدناء منه عفّر وجهه ـ لفرط الخضوع ـ بالأرض، حتى إذا أذن له في الجلوس جثا على ركبتيه بين يديه، ملازما في أشكاله الأربعة لإقامة حقّ إحماد الثناء والتمجيد على أتمّ المبالغة.. وليست هذه الفضيلة لشيء من صلوات أهل الأديان الأخرى". 

ثم يضيف بشأن صلاة الجمعة التي "يسعى أهل كلّ مملكة إلى سرّتها ليجتمعوا في البقعة الواحدة، ويخرج إليهم سائسهم بشعاره من أبواب الأسلحة، ويختص لنفسه مرتفعا يشرف على رعيته منه؛ فيقبل عليهم بالوعظ والإرشاد، والوعد والوعيد، ويذكّرهم مصالح داريْهم". 

 

إنّ في حمل القرآن على الأعراب واعتبارهم الحالة القصوى للكفر (التوبة:97) ما يؤكد علوّ منزلة الدولة وعلاقتها العضوية بالإيمان والإسلام.


وقد أكّد الرسول هذا البعد عندما توجه بالصلاة أولا نحو بيت المقدس ثمّ حوّل القبلة إلى مكة. ولقد كان القرآن واضحا في ربط توبة الكفار أي عودتهم إلى "حضن" الدولة بالصلاة والزكاة: ?فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?(التوبة:5)، كما كان واضحا في استهداف "مؤسسة الميسر" التي كانت إوالية سياسية مانعة لتوّحد القبائل في جسم سياسي واحد، أي مانعة لنشوء نصاب مستقل عن المجتمع يتولى تصريف الشأن العام هو الدولة، واستبدالها بـ "مؤسسة الزكاة" وبذلك يتم تحويل الإذعان إلى القبيلة بالإذعان إلى الدولة. (محمد الحاج سالم: من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية).

ومن الشروط الأخرى الهجرةُ إلى يثرب. وقد ظهر أمر الهجرة في القرآن أول ما ظهر في أواخر الفترة المكية باعتباره سبيلا لمن اضطهدوا في مكة: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ? ?ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ?(النحل:41 و110)، ولكن الهجرة سرعان ما أضحت في الفترة المدنية مقياسا للتمييز بين المؤمن والكافر وبين المؤمن الملتزم بالعمل مع الجماعة وللجماعة والمؤمن الضعيف: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?(الأنفال:72). بل أضحت لا تذكر إلا مقترنة بالإيمان والجهاد بمعنى القتال الذي اقترن بدوره بتأسيس الدولة في المدينة. وإنّ في حمل القرآن على الأعراب واعتبارهم الحالة القصوى للكفر (التوبة:97) ما يؤكد علوّ منزلة الدولة وعلاقتها العضوية بالإيمان والإسلام.

ولعلّ الآية 177 من سورة البقرة تلخص ما كنا بصدده من كون الانخراط في دولة المؤمنين شرط أساسي للإيمان: ?لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ?. إنّ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في البأساء والضراء أي في الحرب والقتال. إنها، لعمري، شروط الاعتراف بالدولة والانخراط في منطقها. 

الكفار هم مجتمع اللادولة 

?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ?(المائدة:102). 

بمثل هذا الجواب كان الكفار يعللون رفضهم طاعة الرسل وما جاؤوا به من قيم وشرائع. إنهم يرفضون كل سلطة فعلية يمارسها الأحياء عليهم ويكتفون بسلطة الآباء والأجداد باعتبارها سلطة رمزية. إنهم يعتبرون أنفسهم خارج السلطة أو هم منتهى السلطة. إنهم يرفضون كل نصاب سلطوي مستقل عنهم (الدولة). إنهم لقاحيون، أي يرفضون الخضوع للملوك. 

وفي سبيل الحفاظ على هذه اللقاحية تمسكوا بشركهم، والشرك في بعده السياسي هو الضامن لعدم انبجاس سلطة توحد جميع القبائل. ولذلك ربط الكثير من الباحثين والدارسين ظهور الأديان التوحيدية بتطوّر المجتمعات من التشتت إلى المركزية. ويقيم القرآن علاقة واضحة بين القرية باعتبارها رمزا لتشتت السلطة والحرب باعتبارها وسيلة للحفاظ على هذه السلطة المشتتة: ?لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ?(الحشر:14).

لقد كشف الكفار منذ المرحلة المكية عن رفضهم القاطع لأي سلطة فعلية من خارجهم يمكن أن يكون لها عليهم سلطان. هذا الرفض المبدئي سمّاه القرآن المبكر الاستغناء والطغيان. واعتبر ذلك نزوعا طبيعيا من الإنسان نحو رفض السلطة والطاعة: ?كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى? ?أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى? (العلق:6 ـ 7). والاستغناء هو شعور الإنسان بأنه غير محتاج إلى غيره، وأمّا الطغيان فهو التعاظم والكبر. والصفتان تدفعه إلى الخروج عن حدّه. هذا التجاوز سماه القرآن في سورة عبس كفرا: ?قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ?(الآية:17) أي جهلا وحقارة وتعاسة. وفي القرآن المكي الأول صفة أخرى لهؤلاء الكفار هي الكند: ?إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ?(العاديات:6)، والكنود في كتب التفسير هو العاصي والمنعزل عن الجماعة.

 

الشرك في بعده السياسي هو الضامن لعدم انبجاس سلطة توحد جميع القبائل. ولذلك ربط الكثير من الباحثين والدارسين ظهور الأديان التوحيدية بتطوّر المجتمعات من التشتت إلى المركزية.


هذا الربط بين الإنسان والكفر الذي شاع في القرآن المكي الثاني والثالث أيضا يجعل الكفر طبعا إنسانيا أو هو "عارض يعرض لكل إنسان.. ينشأ عن إيثار المرء نفسه.. وهو أمر في الجبلّة لا تدفعه إلا المراقبة النفسية وتذكّر حق غيره" كما يرى محمد الطاهر ابن عاشور.

في المرحلة المدنية تحوّل الطبعُ إلى فعل فأضحى التكذيب شقاقا: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ?(محمد:32) والاستغناءُ تجاوزا للحدود، وأضحى العصيان مسلحا.. ونحن نجد هذه الدلالة الحربية للكفر في خطبة الوداع، حيث خاطب الرسول جموع المؤمنين قائلا: "لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ومن ثمّ نجدها في المعاجم العربية إذ من معاني الكفر حمل السلاح، ومن معانيه كذلك "أرغى وأزبد وخرج".

وفي التاريخ يذكر ابن حبيب في المحبّر أن الأعراب كانوا يؤرخون بالحرب في حين كان المسلمون يؤرخون بالهجرة. وخلاصة القول: للكفار في القرآن ثلاث خصائص فهم أقوام بلا عقيدة وبلا سلطة وبلا شريعة وهي لعمري خصائص مجتمع اللادولة كما حدّدها بيار كلاستر، فقد انتهت بحوث بيار كلاستر إلى ضبط ثلاث خصائص لمجتمع اللادولة، فهو مجتمع بلا سلطان وبلا شريعة وبلا عقيدة:Société sans roi, sans loi, sans foi . 

الدين والدولة في اللغة

بيّن فوستال دي كولانج ومن قبله ابن خلدون وجود علاقة تأسيسية بين الدين والمدينة، فالدين هو الذي علّم الإنسان كيف يبني منزلا وبالتالي مدينة ومن ثمّ دولة. هذه العلاقة التأسيسية بين الدين والمدينة والدولة تركت أثرها في اللغة.
 
بخصوص اللغة اللاتينية نكتفي بالإحالة على دراسة إيميل بنفينيست Emile Benveniste التي حلل فيها بدقة العلاقة بين الثنائيتين اللاتينية واليونانيةpolis - politès , civitas – civis   (المدينة والمديني). تمثل الثنائية الأولى صورة مبتذلة للثانية التي تعد أكثر أصالة وحفاظا على صلة الولاء والدّيْن التي تربط المواطن بالأرض. ذلك أنّ  civitas تعني مجموعة العلاقات بين الأشخاص في حين أنّ polis هي شىء مستقل عن الإنسان، هي فضاء والـ politès هو عضو في هذا الفضاء عن طريق عقد.( «  Deux modèles linguistiques de la cité », In, Problèmes de linguistique générales, TII, ed. Gallimard 1974. pp.265-573)

وأمّا بخصوص اللغة العربية فيؤكّد الكثير من اللّغويين والباحثين أنّ للدّين والمدينة أصلا اشتقاقيّا واحدا هو د ي ن، فقد " سُئل أَبو عليّ الفَسَوِيُّ عن همزة مدائن فقال: فيه قولان، من جعله فَعِيلة من قولك مَدَنَ بالمكان أَي أَقام به، ومن جعله مَفْعِلة من قولك دِينَ أَي مُلِكَ". ولهذا الجذر معان تعود إلى أصل واحد هو السلطة والطاعة، فـ"الدال والياء والنون أصل واحد إليه يرجع فروعه كلّه. وهو جنس من الانقياد والذل. فالدين: الطاعة، يقال دان له يدين دينا، إذا أصحب وانقاد وطاع. وقوم دِين: مطيعون منقادون. والمدينة كأنها مفعلة، سمّيت بذلك لأنّها تقام فيها طاعة ذوي الأمر". ولهذا الجذر وشائج دلالية بجذور أخرى شأن ع ق د و س ل ط.

جاء في لسان العرب: "الدّيّان: من أسماء الله عز وجل، معناه الحَكَم القاضي. وسُئل بعض السّلف عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فقال: كان دَيّانَ هذه الأمة بعد نبيّها أي قاضيهَا وحاكمَها. والدّيّان: القهّار.. يقال: دِنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا، ومنه شِعر الأعشى الحرمازي يخاطب سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا سيّد الناس وديّان العرب. وفي الحديث: لا تسبوا السلطان فإن كان لا بد فقولوا اللّهم دِنهم كما يدينونا أي اجزهم بما يعاملوننا به. والدِّينُ الحساب، ومنه قوله تعالى: ?مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ?، وقيل: معناه مالك يوم الجزاء. وقوله تعالى: ?ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم?ُ أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي. والدّينُ: الطاعةُ. وقد دِنته ودِنت له أي أطعته. ودنته أدينه دينا: سُستُه. ودنته: ملكته. وديّنته أي ملكته. وديّنته القومَ: وليته سياستهم. يعني ملكت، ويروى: سوست... وناس يقولون: ومنه سمي المصر مدينة. والديان: السائس".

 

الدّيّان: من أسماء الله عز وجل، معناه الحَكَم القاضي. وسُئل بعض السّلف عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فقال: كان دَيّانَ هذه الأمة بعد نبيّها أي قاضيهَا وحاكمَها.


ويؤكّد ابن منظور في مواضع أخرى هذه العلاقة بين الدين والمدينة، فالدّيّان هو الله لأنه يحكم بين الناس من خلال الدين الذي أنزله إليهم، والدّيّان كذلك هو السلطان لأنه يسوس الناس ويحكم بين الناس. ومجال الدين والسلطة هو المدينة؛ فقد ورد في مادة صعر: "وفي الحديث: يأْتي على الناس زَمان ليس فيهم إِلاَّ أَصْعَرُ أَو أَبْتَر؛ يعني رُذالة الناس الذين لا دين لهم.. وقال ابن الأَثير: الأَصْعَرُ المُعْرِض بوجهه كِبراً"، فالدين هنا بمعنى السلطة إذ الأراذل هم الذين لا يطيعون السلطة بل يُعرضون عنها.  

وورد في مادة فوج: "الفائِجُ والفَوْجُ: القَطِيعُ من الناس، وفي الصحاح: الجماعة من الناس. وقوله تعالى: ?هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ? ؛ قيل: إِنّ معناه هذا الفَوْجَ هم أَتباعُ الرُّؤساء، والجمع أَفْواجٌ وأَفاوِجُ وأَفاويجُ، وحكى سيبويه فُؤُوج. وقوله عز وجل ?يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا? أي جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا". الأفواج إذن هم الذين يدخلون دين الله ويخضعون للدّولة في آن واحد (أتباع الدين وأتباع الرؤساء). 

وورد في مادة قيم: "وقوله تعالى: ?وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?، أَي دين الأُمةِ القيّمة بالحق، ويجوز أَن يكون دين المِلة المستقيمة؛ قال الجوهري: إنما أَنثه لأَنه أَراد المِلة الحنيفية. والقَيِّمُ: السيّد وسائسُ الأَمر. وقَيِّمُ القَوْم: الذي يُقَوِّمُهم ويَسُوس أَمرهم". إنّ الدين القيّم هو الذي يسوس الناس، ولا يكون ذلك إلا في المدينة، والمدينة من "مَدَنَ بالمكان: أَقام به.. والمدينة هي "الحِصْنُ يُبنى في أُصطُمَّةِ الأَرض... ويقال للأَمَة: مَدِينة أَي مملوكة". وهكذا" سميت المدينة مدينة لأنّها تقام فيها طاعةُ ذَوِي الأمر" سواء أكانت هذه الطاعة عن اقتناع أو عن كره : ("دِينَ الرّجُل يُدان، إذا حُمِل عليه ما يَكره").

الدين اعتقاد. لذلك نظرنا في مادة عقد فوجدنا "والعِقْد: الخيط يُنظم فيه الخرز، وجمعه عُقود. والعُقَدُ الوِلاياتُ على الأَمصار، والعَقْد: العهد. وقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ?؛ قيل: هي العهود، وقيل: هي الفرائض التي أُلزموها؛ قال الزجاج: أَوفوا بالعُقود، خاطب الله المؤمنين بالوفاءِ بالعقود التي عقدها الله تعالى عليهم، والعقُودِ التي يعقِدها بعضهم على بعض على ما يوجبه الدين". من هذه العقود عقد النكاح، وعقد البيع، وعقد اللواء، وتعني:

ـ التملك أي انتقال "ملكية" المرأة من أبيها إلى زوجها. لذلك سمّيت العملية إملاكا، وانتقال ملكية الأشياء من البائع إلى المشتري. والتملك هو من جنس المُلك أي السلطة خصوصا وأنّ مثل هذه العقود لا تتم إلا في المدينة.

ـ الاتفاق بين طرفين أو أكثر: الاتفاق على بنود العقد والوفاء بمضمون العقد أو العهد. فالعقد في معناه الأصلي شدٌّ ووثاقٌ: "واعتَقَد الشيءُ‏:‏ صَلُب‏.‏ واعتَقَد الإخاءُ‏:‏ ثَبَتَ‏.‏ والعَقِيد‏:‏ طعام يُعْقَد بعسل‏.‏ والمَعَاقِد‏:‏ مواضع العَقْد من النِّظام‏" فالعقد يعقد صاحبه أي يربطه ويلزمه بتنفيذ الاتفاق الوارد فيه. وعليه فالعقيدة هي تسليم العبد أمره لله (وهذا هو معنى الإسلام)، واتفاق بين الطرفين أو هو بلغة القرآن عهد بين الخالق والمخلوق.

ـ الطاعة: عقد فلان لفلان اللواء.

 

ـ الانحباس: اعتقد الرجل أي لزم بيته، عقد الشيء أي ضمه إلى شيء آخر حتى لا يتحرك كأن يشد الرجل رجلا إلى رجل فيصبح لا يقدر على المشي.
  
جميع هذه المعاني تلتقي عند بؤرة دلالية واحدة مشتركة هي: الحزم والربط والالتزام والعلاقة والجمع والسلطة. وكأنّ الاعتقاد هو ما يشدّ الوجود برمتّه سواء تعلّق الأمر بعلاقة الإنسان بالإنسان في مجرى الحياة الاقتصادية والسياسية والمدنية بوجه عام أم تعلق بعلاقة الإنسان بالله، وكأنّ ذهاب الاعتقاد يعني انفصام عرى الوجود.

أستاذ في جامعة تونس المنار ـ تونس