أفكَار

فيروس "كورونا" والفقه الغائب.. نقاش فكري هادئ

نورالدين الخادمي: الخطأ في إجراء صارم لحفظ حياة إنسان خير من الخطأ بما يؤدي إلى وفاته- (عربي21)

تواجه البشرية منذ عدة أسابيع فيروسا قاتلا عجز الأطباء والعلماء حتى الآن عن إيجاد الدواء الشافي له.. وقد استوجبت مواجهة هذا الفيروس بعض الإجراءات الصحية الصارمة، التي بلغت حد فرض المكوث في البيوت لعدة أسابيع، من دون ضمانات بأن ذلك سيكون العلاج الشافي والواقي من هذا الداء.

ولئن كان من المنطقي والمعقول الرهان على العلماء والأطباء وخبراء الأوبئة في كبرى مراكز البحث العلمي في العالم للتعجيل بتقديم الأجوبة الشافية لكل الأسئلة المتعلقة بهذا الفيروس، فإن تداعيات الانتشار السريع لهذا الفيروس وما فرضته من تغيرات جذرية في نمط حياة الناس، قد أثار أسئلة عديدة في مختلف المجالات المتعلقة بحياة الإنسان، وعلى رأسها المجال المتعلق بالعبادات بعد إغلاق المساجد وتعليق صلوات الجمعة والجماعة، بل وصل الأمر حد إغلاق الكعبة أمام مرتاديها من الطائفين والمعتمرين، وربما إذا لم يتم احتواء الفيروس، فإن حج هذا العام قد يتم إلغاؤه.

"عربي21"، تفتح ملف علاقة علماء الدين والفقه والإفتاء بالأوبئة عامة، وبوباء "كورونا" على وجه الخصوص، ونفتتحه بدراسة فكرية وفقهية يقدمها خصيصا لـ "عربي21"، وزير الشؤون الدينية التونسي السابق الأستاذ الدكتور نورالدين مختار الخادمي..

 

المدخل المقاصدي


تردّدت لعِدّة أيام في كتابة هذا المقال، واضطرب عندي مدخله ومنهجيته. والسبب الأكبر ضخامة نازلة الفيروس من حيث تعقيداتها ومعلوماتها وسرعة تداعياتها من جهة أُولى، وضخامة أقل من حيث التعامل الفقهي والإفتائي معها من جهة ثانية. 

وعزمت في بادئ الأمر على كتابة مقال يُبَيّن هذا التعامل الفقهي والإفتائي من منظور مقاصدي، وكتبت فقرات في ذلك، غير أنني توقفت لأمور ثلاثة:

الأمر الأول:
أنّ التناول المقاصدي لا ينبغي أن يكون بمستوى مُجمَلٍ مُكرّرٍ لا يباشر التحقيق المطلوب في المقاصد منزلة على واقعة الفيروس صغيرة الحجم عظيمة الحسم، ومن ذلك: مناقشة ترتيب حفظ الدين وحفظ النفس، وأيهما أولى بالتقديم، وما معيار ذلك وأثره وضابطه، وكيف يُنَزَّل ذلك في سياقاته المختلفة ومآلاته المضطربة المتداخلة. مع أنني أسجل بإعجاب ما جاء من بيانات مقاصدية دقيقة في الإشارة إلى هذا التحقيق المطلوب، غير أنّها وردت مقتضبة، ليقيني بأنّ أصحابها لهم قدم راسخ في المقاصد، غير أنهم أوردوها كذلك، لجريانها في مسار الإفتاء الفقهي والبيان العلمي؛ قصد التأطير السريع للتداعيات وضبط للسلوك التعبدي وتطويق لحالات الإفراط والانفلات المحتملين بموجب زيادة منسوب العاطفة الدينية الكبرى بتعليق الجماعة والجمعة في المساجد، وما قد يترتب على ذلك من الانسياق في أنماط وأحوال قد تُؤخر أو تُفوِّت مصالح الانتظام بالفتاوى المعتبرة والتقديرات العلمية والسياسية والصحية المطلوبة في زمن الجوائح ومباغتة النوازل.

 

والمأمول من التأطير المقاصدي لفتوى كورونا وأمثالها أن يؤسس لتجديد عميق لفقه مقاصدي لأرض طاهرة، وهو ما يلزم بحثه وتحقيقه وتثميره.

 


الأمر الثاني: أنّ التناول المقاصدي لا ينبغي أن يكون بمستوى معزول عن التناول الشرعي في أبواب التفسير والحديث والسياسة الشرعية والاختلاف والفروق والأشباه والنظائر وشواهد التاريخ والسير... وغيره مما يقتضيه المنهج الموضوعي للعلوم الشرعية، التي تُمثّل وحدة معرفية بتخصصات مختلفة وصلاحيات محددة وسياقات معتبرة، وهذا لا يناسبه التناول المقاصدي المعزول عن التناول القرآني مثلا، من حيث تقرير المقاصد بأصالتها في القرآن، واعتماد القرآن بآفاق المقاصد، ضمن جدلية الثابت القرآني المجرد في تقرير المقاصد كمقصد الاستصلاح بالسنن التكوينية والتكليفية التي جاء بها القرآن حكما قرآنيا موضوعيا ثَبَتَ باستقراء شواهده الكثيرة في الآيات بعباراتها وإشاراتها ومنطوقها ومفهومها وغير ذلك، وضمن المتحرك القرآني الموصول بتحقيق أهل النظر بتدبر وتجديد وتأثيث؛ بما يجلي تجدّد الإعجاز وأصالة الإنزال ومتانة المراد في إصلاح العباد. ولذلك يتأكد التفات التناول المقاصدي لمجموع التناول الشرعي القرآني والسني واللغوي والتاريخي...؛ بمستوى ذلك وبحسب ما يقتضيه ذلك من المعلومات والأدوات والمخرجات.

إنّ صِلة جمع التناول المقاصدي بالتناول الشرعي بواقعة الفيروس وطروحاتها الفقهية، يعني أن يكون التناول المقاصدي لها من منظور العلم القرآني الموضوعي المتعلق بحكمة هذه الجوائح في ارتباطها بأحكام السنن الكونية والأفعال الإنسانية، وهل يجوز لنا الحُكم القطعي بأنّ الفيروس يُخرّج على آية الكسب الإنساني {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، وأن مقصده {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، أو على آية ما كتبه الله بقدره المحتوم {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وأنّ مقصده التسليم للأقدار والتردد بين صورتيه؛ بالتسليم السلبي للأقدار من دون اعتبار واستثمار، أو بالتسليم الإيجابي للأقدار بالاعتبار والاستثمار والتطوير والتجاوز... إنّ مرد هذا كله، التناول المقاصدي الموصول بالتناول القرآني، وبسائر أنواع التناول للعلوم الشرعية ضمن وحدة معرفية وأساس منهجي واستدعاء وظيفي ومقاربات سياقية ونسبية يتولاها أهل الذكر في زمانهم وعند الابتلاء بنوازلهم. 

 

ومفاد هذا الجمع بين المقاصد والعلوم الشرعية تقرير المعنى الموضوعي الكلي للجوائح والأفعال الإنسانية، والاعتماد عليها في الفتوى وتقرير مخرجاتها في الواقع. ولذلك يُمكننا أن نتحدّث عن فقه فيروس كورونا، وفقه أصول وفقه تفسير وفقه حديث وفقه سياسة للفيروس، بإطار جمعي موضوعي كلي يكون من اختصاص العلماء، تتفرع عنه تفاصيله وفتاواه التي توجه إلى العامة، من دون صرفهم عن التمثل الكلي بمستوى ما يفهمون وما يفعلون.

 


الأمر الثالث: أنّ التناول المقاصدي في وصله بالتناول الشرعي لا ينبغي أن يكون خارج الإطار المرافق له والمتلبس به، وهو إطار العلم والقانون والواقع والعقل والنفس العاقلة العابدة النامية، فضلا عن الإطار الشرعي المذكور آنفا.

1 ـ فإطار العلم هو علم الطب والصحة وما إليها من علوم الأوبئة والجراثيم والأجهزة التنفسية وغيرها مما هي تخصصات دقيقة وصلاحيات مخصوصة، وتجتمع مع علم الصحة علوم لها ارتباطها بفيروس كورونا وبفقهها الشرعي ومعارفها المختلفة، كعلم النفس والعلاقة بالمناعة والتداوي من حيث الخوف والجزع والهلع، وعلم الاقتصاد والعلاقة بالتداعيات الضخمة المخيفة؛ بسبب تداعيات الوباء من حيث الحجر والعزل وتعطل الإنتاج وتكبد الخسائر وفوات المحاصيل وتزايد الديون... 

وأغرب ما قرأت في بعض التفاعلات الفقهية العامة تجاه الوباء وفتواه المتعلقة بالجماعة والجمعة، أنه يمكن ضبط الجماعة في المسجد وأخذ الاحتياطات الصحية اللازمة على نحو تنظيف الأفرشة بمواد التنظيف وتهوئة المسجد وتعقيم الفضاء وغيره مما يثير ملاحظتين: الأولى، صعوبة تحقيق هذا الإجراء أمام حالات تراجع منطق الانتظام الجمعي من حيث الاستجابة للتدابير والإرشادات سواء في المساجد أو في المجتمع والأسواق والمحطات... وكذلك ضمور الوعي بخطورة الوباء وسرعة انتشاره والاستخفاف بذلك مما يُوقع في المفاسد التي لا حصر لها. 

والملاحظة الثانية الأهم، وهي الجهل بطبيعة الفيروس نفسه وبطبيعة علاجه والأخذ بأسباب التوقي منه؛ فالقول بالتنظيف والتهوئة والتشميس مدعاة للتعجب والاستهزاء ومبعث على الجفاء والازدراء. وكأن مطاردة الفيروس يشبه مطاردة الصراصير والفئران والبعوض. كما أنّ تخصيص المساجد بمنع التجمعات وبعض الفضاءات الأخرى كالتجمعات العائلية والرياضية والترفيهية؛ إنما يأتي للتوقي من العدوى بناءً على التقدير العلمي الموضوعي، وليس بالضرورة بناءً على الازدواجية والتمييز في التعليق بين المساجد وغيرها من الفضاءات العامة، ولست هنا أسوغ لتعليق الجماعة في المساجد وعدم تعليق الاجتماعات الأخرى بما فيها الحانات والملاهي ودور السينما، و"العِلّة تدور مع المعلول وجودا وعدما" كما قال الأصوليون، فأي اجتماع يكون سببا في العدوى يلزم منعه من دون أي تردد، وذلك ينبغي أن يشمل جميع الاجتماعات، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى مما يقدره صاحب الاختصاص بعدالة وموضوعية، ومن دون توظيف أو تسييس. وهو ما يلزم منه الرجوع إلى الخبراء في العلاج من الأوبئة، ومعلوم ما لصعوبة البحث عن اللقاح لتعقد الوضع. ولا أقصد بهذا المثال تنسيبه وإضافته إلى الفقهاء الكبار والمفتين المحترمين، وإنما أقول بأنه قد لهجت به ألسنة عامة وألسنة لها شبهة الإفتاء مع شبهة الانتصاب الفوضوي في سوق الفتوى. وهو ما قد يُؤدي إلى التأثير على عامة الناس، الذي قد يحمل بعض العلماء ـ نتيجة لذلك ـ على المسايرة الجماهيرية والمجاملة التي كثيرا ما تفرضها ظواهر الغوغائية الشعبوية. والمقصود من هذا المثال تأكيد عدم التساهل في الاسترسال في هذه الشعبويات الفقهية الحماسية، بالتصدي العلمي الموزون بجرأة وحلم وكفاح بسلم.

2 ـ وإطار القانون، وهو مجموعة الأنظمة والتراتيب الملزمة لتقرير الانتظام ومنع الفوضى وتحديد الاستحقاقات والمسؤوليات في الوضع الطبيعي، وفي الوضع الاستثنائي مما يُعرف بقانون الطوارئ والضرورة. ومثال على ذلك فيما يتعلق بفتوى تعليق الجماعة والجمعة: القانون الذي يُلزم رواد المساجد بالتدابير الصحية ومنع العدوى والإضرار بالآخر، وهو ما جاءت به نصوص قانونية بعقوبات بدنية ومالية وجزائية، وباعتبار ذلك أمرا تقتضيه الحياة العامة والمصالح العامة، وباعتبار كون الانتظام المسجدي محكوما بقوانين الانتظام العام نفسه، كونَه أحد أنواع الانتظام كالصحة العامة والأمن العام والارتفاق العام، مع مراعاة الخصوصية التعبدية والدينية بأحكامها وهيئاتها وطبيعتها. 

فهل يجوز ـ بعد تأكيد الإطار القانوني للفتوى ـ الإفتاء في نازلة عامة موصولة بإطارها القانوني من خارج إطارها القانوني؛ مما قد يُوقع صاحبه تحت طائلة القانون الذي لا يُعذر الجاهلين ولا المتحمسين بجهله وعدم معرفته، ويُوقعه كذلك تحت طائلة الشرع من حيث اللوم والإثم بالنظر إلى عدم صواب العمل المطلوب كما في قاعدة "الأمور بمقاصدها"، ومفادها: صحة العمل بمقتضياته ومآلاته وتناسبه مع مرادا الشارع ومصالح الناس، وصحة القصد بصحة منطلقاته وأساسياته وانتفاء مبطلاته القلبية والغائية. وقد جاءت بعض الفتاوى بتأكيد المرجعية القانونية في التعامل مع فيروس كورونا الوبائي، بتأكيد فريضة التقيد بالاحترازات وتطبيق الإجراءات واعتبار المخالف والمتهاون واقعا في المحظور الشرعي والمساءلة القانونية والمسؤولية الأخلاقي.

3 ـ وإطار الواقع، وهو الحال الذي ورد فيه الفيروس وتكاثر وانتشر، وهو بمقامات مختلفة في الزمان والمكان ومساحات الانتشار وإمكانيات التوقي والعلاج وأوضاع السوق والنقل والتعليم والإعلام والخطاب.. وهذا الواقع له اعتباره في الفتوى كما تقرر في شروط الاجتهاد والإفتاء، في ابتدائيات العلم الشرعي والانتصاب الإفتائي، ولذلك جاءت بعض فتاوى النازلة تراعي تفاوت أحوال الناس والدولة، وأناطت التعليق بالتفشي الوبائي بحالاته ومآلاته، وبالجهات المرجعية التقديرية في مجال الصحة والقانون والدولة.

 

 

"الخطأ في إجراء صارم لحفظ حياة إنسان خير من الخطأ بما يؤدي إلى وفاته. فالخطأ في العفو والحياة خير من الخطأ في العقوبة والموت"


4 ـ إطار العقل والنفس، وهو إطار الإنسان المبتلى بهذه الفيروس ابتلاء خير وشر {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وهو الجدير بالاعتبار بالأصل من حيث الصحة والتوجيه والتفقيه والتوعية... والاعتبار بأحوال النفس في الفتوى المذكورة يلزم منه تقريرها؛ بما يُحقّق غرضها وينفي أو يُقلّل ما قد يقع فيه الناس من مفاسد بسبب أحوالهم النفسية المتعلقة بالفتوى، مثل حالة الخوف الشديد من غلق المساجد في تلبسها بسياسات الاستبداد، مما أثر على جريان الفتوى بين الناس، بين منكر لهذا الغلق على أنه سياسة مقصودة من السلطة، وبين متخوف من اتخاذها سابقة لإغلاقات أخرى لأي سبب، أو حالة التدين العام السطحي الذي ينظر إلى الغلق أو التعليق التعبدي الجماعي على محادة لله ورسوله ووقوع في الوعيد الإلهي لمن منع المساجد من أن يذكر فيها اسمه {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى? فِي خَرَابِهَا أُولَ?ئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]، والأغرب في هذه الحالات، الانتقال من حالات الخوف إلى حالات التمرد على الفتاوى والنيل من المفتين بفتوى التعليق، بإقامة صلاة الجماعة بمحيط المساجد تحديا لقرار التعليق، وباتهام مَنْ أفتى بذلك بأنّه عالم سلطة وشهوة، وبأنه إن مات فليمت إن شاء محاربا وإن شاء مضللا. وليس هذا القول تَقوّلا، وإنّما قد جاءت به تعليقات وكلمات من كثير من العامة وبعض الخاصة.

وقد كتبت تدوينة عبرت بها عن منهج بعض أهل العلم، حيث يحتاطون في الإفتاء بإبقاء المساجد مفتوحة، تمسكا بأصل الحكم التكليفي المتعلق بفتحها وتعظيمها، ومن دون الاحتياط بإبقاء النفوس محفوظة، عملا بأصل الرخصة والضرورة، أو بأصل الحكم الوضعي المتعلق بغلق المساجد أو تعليق صلواتها لانتفاء شرط القدرة وحصول مانع الجماعة وهو المرض الثابت بنصه في العبادة والخوف كذلك والوحل والطين، وبقي انتفاء السبب الذي يتعلق بدخول الوقت وقيام الحاجة، والوقت في زمن الأوبئة والجوائح زمن ضرورات عامة وأوضاع استثنائية ورُخص عامة بديلة عن العزائم العامة. ولست أدري لماذا آل الوعي بخطاب التكليف والوضع إلى ما آل إليه من حيث الاقتصار على العبادة الشعائرية وعلى المجالات الفردية. والله المستعان. وربما أعود لمقال آخر موسوم "فيروس كورونا والأصول الغائبة"، أعود وأقول بأن التدوينة التي كتبتها هي: "الخطأ في إجراء صارم لحفظ حياة إنسان خير من الخطأ بما يؤدي إلى وفاته. فالخطأ في العفو والحياة خير من الخطأ في العقوبة والموت".

 

 

 

رسالة العلماء كما قال المحققون حمل الناس على الأوسط وليس مسايرتهم في إفراطهم أو تفريطهم


وأمام هذه الحالة العقلية (الوعي الديني المختل) والحالة النفسية (التمثل الديني المهوس بالمحنة والاضطهاد)، ينبغي الاعتبار بهذه الحالات في الفتوى، بما يُقرّر التفريق بين الغلق العدواني للمساجد والغلق الانتظامي المصلحي، فـ "ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي"، في إشارة عُمَرية اجتهادية إلى التفريق بين الفتاوى بالتفريق بين مقاماتها وسياقاتها، وليس باستصحاب أحوال بانطباعية عقلية وأزمة نفسية، ومعاودة المألوف ومخالفة المعروف. 

ورسالة العلماء كما قال المحققون حمل الناس على الأوسط وليس مسايرتهم في إفراطهم أو تفريطهم. ومثال آخر في الضفة الأخرى المقابلة لحالة التدين، وهي حالة الازدراء بالتدين وعدم احترام أهله، فيما يُعرف بالحرية الفردية، التي قد يستغلها أصحابها في إطلاق الممارسة الشخصية في تجاوز صريح للحجر الصحي والعزل الذاتي، والغرض من ضبط الحرية الفردية وضبط حرية التدين، هو حمل الكافة على الانتظام وصون حقوق العامة وحرياتهم وأمنهم. فالوعي بهذا الواقع في نفوس رُوّاد المساجد ونفوس رُوّاد الفضاءات المختلفة، يحمل الجميع على الانتظام واحترام الإجراءات الوقائية والصحية، والعدل بين الفئتين يحمل على الامتثال لأنه إنصاف واعتدال، واعتماد في موضوعية النازلة خارج إطار التجاذبات والحسابات والتخوفات.

والمأمول من فقه فيروس كورونا أن يكون فقها بأصول ومقاصد وكليات وفروق... وفقها موصولا بالقانون والعلم والواقع والنفس. وهو ما ينبغي على المفتي المعاصر (المفتي الفرد والمؤسسة الإفتائية) أن يعمل به ويتدرب عليه. وهو ما يحفظ مقامه ديانة وقضاء، ويحفظ الإنسان بكلياته الخمسة، وأبعاده وأطر معاشه وانتظامه في القانون والعلم والواقع والعقل والنفس. وأما الإفتاء بالبسيط في غير البسيط فزلل وخلل. ونعوذ بالله من الخذلان والخسران. كما ينبغي على الدولة والمجتمع والنخبة احترام المفتين المحققين الذين يسهمون في الأداء العام لمجابهة وباء كورونا، ولتطويق فوضى الإفتاء وشواذ المفتين، تأمينا للمسار بمجموعه في الانتقال الصحي وطرد الداء والوباء.
  
عود على بدء

الفقه الغائب هو الفقه الذي لم يحضر في نازلة التعامل مع الفيروس؛ ربّما لأنّه تغيب للتوقي والاحتراز. ولكن غيابه لم يشفع له في تحقيق السلامة أو تكميلها. أو أنه الفقه الذي حضر باحتشام وإحجام، مع أن أصحابه كثر والحاجة إليه قائمة. وعليه نقول بأنّ حضور هذا الفقه يمثل بوابة كبرى لعلوم شرعية مجددة ومحينة ومفعلة، وعلوم شرعية منتظمة ومنخرطة ومؤثرة، في عالم التخصصات والصلاحيات والتعقيدات.

فما الذي حضر وغاب في فقه وباء كورونا وفتوى تعليق الصلاة في المساجد إلى حين زواله. والتشوق على أشده لمعانقة المساجد عاجلا والعودة إلى سنة الجماعة والمصافحة وسنة الصحة والعافية.

ويجدر بالتنبيه والتنويه أن الذي قلته لا أقصد به الذوات والهيئات، فلهم مني التقدير على تفاعلهم العلمي والفقهي مع هذه النازلة. وإنما قصدت به الأفكار والمواقف، ورصد الغائب العلمي في المقاربة العلمية، بحسب ما أظنه كذلك، بموجب حق التعبير وواجب البيان وأدب التواصل مع أهل العلم المكرمين وأصحاب الشأن المحترمين. وكلا وعد الله الحسنى. والحمد لله.

 

 

هوامش:

 

[1] ـ تعرف هذه القاعدة بلفظ "الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا". معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، 29/311، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة، مجمع الفقه الإسلامي الدولي، ط/1، 1434هـ ـ2013م.

 

[1] الأشباه والنظائر، السيوطي، ص 15، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة - الرياض، ط/2، 1418ه- 1997م، والأشباه والنظائر، ابن نجيم، ص 23، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط/1، 1419هـ - 1999م.