رواندا أرض المأساة والمعجزة، مليون قتيل في حرب أهلية همجية دامت 100 يومٍ بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. جبالٌ من جثت الرجال والنساء والأطفال تكدَّست في الشوارع والوديان والمزارع وطفت فوق مياه الأنهار والبحيرات. لم يصل صراخ الضحايا إلى آذان الدنيا، ولم تهتز الضمائر التي لا تعرف خرائط الفقراء المنسيين. قبيلتان جمعتهما الأرض، وفرّق بينهما العرق والملامح والمهنة. التوتسي قبيلة عاشت على الرعي، تتحرك خلف مواشيها التي تعبر من وادٍ لآخر بحثا عن الكلأ، فهي تكوين اجتماعي لا مكان له. وقبيلة الهوتو تمتهن الزراعة التي تعني الاستقرار والارتباط الدائم بالمكان.
تحرك مصير القبيلتين مع مسار السياسة باكرا، فقد كان الألمان المستعمر الأول للبلاد، ثم خلفهم المستعمر البلجيكي الذي استخدم التوتسي لقمع الهوتو؛ حيث رأوا في الرعاة الذين لا يخضعون لقيد المكان كالمزارعين، القدرة على المواجهة والقتال. لكن المستعمر البلجيكي غيّر بوصلة الاستقطاب وشرع في استقطاب قبيلة الهوتو الزراعية، التي توفر ما يحتاج إليه المستعمر والناس من المواد الغذائية، وجيشوا القبيلة ضد التوتسي التي شككوا في هويتها الرواندية، دافعين بأنها قبيلة وافدة إلى البلاد ولا أصل لها في الأرض، وأنها جاءت إلى رواندا بحثا عن المرعى فقط، لكن رغم ذلك بقيت قبيلة التوتسي تملك القوة على الأرض، ولها الهيمنة شبه الكاملة.
بتحريض من المستعمر، قامت قبيلة الهوتو بثورة شاملة ضد التوتسي، وأحرقت بيوتهم وقتلت ماشيتهم التي لم تصل لها أيادي النهب، وأرغمت القبيلة على الرحيل الجماعي من البلاد، ففرّت إلى أوغندا والكونغو وتنزانيا وبوروندي. أخذت القبيلة وطنها معها، ورغم تفرقها في الشتات ظلت محافظة على روابط الاتصال بين أبنائها، ومع مرور الزمن نضجت في صفوفها نخبة واعية تتابع ما يجري في بلادها رواندا. بعد الاستقلال ظلت البلاد تعاني من الفقر والصراع السياسي، لكن المنعطف الذي رسم خريطة مستقبلها كان مع وصول الضابط هابياريمانا إلى السلطة في انقلاب عسكري سنة 1973، فحكم البلاد بقبضة حديدية. اعتقد الهوتو أن القبيلة الغريمة التوتسي قد غابت نهائيا عن أرض رواندا، ولم يعد لها أي مستقبل فيها، في حين كان التوتسي ينظمون أنفسهم في كيان عسكري بأوغندا؛ استعدادا لدخول البلاد في الوقت الذي يرونه مناسبا. كانت محاولتهم الأولى في هجوم سنة 1991، قاده زعيمهم فريدرويغاما، لكن تم صده وقُتِل.
الفشل والموت، كثيرا ما يكونان الرحم الذي يلد المصير الآخر، الذي يرسم مستقبلا يفوق قراءة الحاضر وتوقعاته، الذي قد يكون حجابا يخفي ما وراءه. ذلك ما حدث في بلد المأساة والمعجزة؛ رواندا. فشل هجوم سنة 1991 وقتل قائده، ليخلفه شاب نحيل اسمه بول كاغامي، ليعيد تنظيم التوتسي في الجبهة الوطنية الرواندية من جديد، ويوسع دائرة التواصل بين أبناء قبيلته في بلدان الشتات، ويقيم علاقات سياسية مع دول الجوار، وبعد أن أهّل كوادر عسكرية وسياسية للجبهة وأعاد هيكلتها، قاد هجوما كاسحا هزَّ نظام لاريمانا بقوة. تدخلت الأمم المتحدة لعقد اتفاقية سلام بين الطرفين، عرفت باتفاقية «أوشا»، لكن الرئيس تراجع عنها بعد ذلك. لم يكن الشاب النحيل كاغامي مجرد قائد مجموعة قبلية مسلحة تقاتل من أجل العودة إلى وطنها الذي طردت منه بالقوة، بفعل قبيلة أخرى رأت أن البلاد لها وحدها سياسيا واقتصاديا وهوية، بل كانت له رؤية تخالف من سبقه في قيادة جماعته ومن يحكم البلاد. كان يقود حلما مسلحا من أجل وطن جديد.
الأقدار الدامية كانت القلم الذي خطَّ مصير رواندا في نقلات، غاب عنها كل شيء سوى القتل الذي غذّته نزعة الحقد الطائفي على امتداد البلاد. في سنة 1994 سقطت طائرة الرئيس لاريمانا ولقي حتفه، وكانت تلك الحادثة الغامضة بداية لسقوط رواندا في مستنقع الحقد الدامي الرهيب. شبَّ حريق الجنون العنصري في كل مكان، وتعالت أصوات الهوتو التي تتهم التوتسي بإسقاط طائرة الرئيس وقتله، وارتفعت أصوات الكراهية العنيفة التي تحرض على إبادة التوتسي واجتثاثهم من على ظهر الأرض الرواندية، واشتعلت نيران مأساة القرن العشرين الرهيبة. تدافعت الجموع الهائجة من الهوتو في كل الأنحاء، تحمل سيوفها وفؤوسها وخناجرها في موجات ذبح وتقطيع للتوتسي، وتلقي بجثثهم في البحيرات والشوارع والوديان، وكان أفراد قبيلة التوتسي يُبدون مقاومة يائسة في مواجهة طوفان الفناء الدامي. لم يكن أمام الشاب بول كاغامي قائد الجبهة الوطنية الرواندية إلا الهجوم على العاصمة كيغالي لإنقاذ بني جلدته، ونجح في الاستيلاء عليها وإسقاط الحكومة، وتم تعيين كاغامي نائبا لرئيس الحكومة. تغير المشهد وبدأت قبيلة الهوتو في مغادرة البلاد خوفا من الانتقام، واستقال الرئيس.
بعد أن تولى كاغامي رئاسة البلاد سنة 2000 بدأ مباشرة في تنفيذ خريطة حلمه الوطني التي رسمها وهو في المنفى. الحقد والكراهية والعقلية القبلية الطائفية، هي الداء الذي أسال الدماء وكدس الجثث وهجَّر الناس، والفقر كان اللعنة التي أشعلت نيران الحرائق.
إزالة آثار المأساة هي البداية لاستعادة الوطن، فكانت دروس التآخي في المدارس. والمصالحة بين الطرفين والعفو العام، ثم الانطلاق في رحلة التنمية عبر خطة 2020 فأرسل الخبراء إلى سنغافورة لدراسة تجربتها البديعة الفريدة في التنمية. وكانت تجربته هي خطة الرجل الواحد للوطن الموحد. نجح في تجاوز أكبر محنة إنسانية شهدها العالم في القرن العشرين، وحوّلها إلى أكبر معجزة يشهدها العالم. حققت رواندا أعلى نسبة تنمية حيث بلغت 12.2 في المائة، وانتشر التعليم بمستوى غير مسبوق. ومن تفرد خريطة حلمه نسبة تمثيل النساء في البرلمان التي تتجاوز ثلث الأعضاء، فهو يرى أن المرأة هي الأقدر على بثّ روح المصالحة والتسامح في المجتمع، وهي الدرع التي تقاوم العنف وتنتج جيل الحياة وفرحتها بالتعايش والتسامح.
تحدث العالم عن نيلسون مانديلا، ومدرسته في المصالحة، والتسامح في جنوب أفريقيا، لكن الشاب الرواندي النحيل بول كاغامي قدّم درساً فريدا وهائلا في المقاومة والتسامح والترفع فوق الكراهية والانتقام، واستطاع في سنوات قليلة أن يجعل من الدم والقتل الهمجي الجماعي، قوة للحياة والنهضة في بلاد ما يزال كثير من جيرانها يعاني داء الصراع العرقي والتخلف. نعم، لقد قفزت رواندا من الدم إلى النهضة، بفضل رجل، حلم، وقاتل من أجل حلمه، وبناه على أرض وطنه.
(الشرق الأوسط اللندنية)