"ﻏَﻤَﺭَﺘﻨﻲ متعةٌ ﺤﻘﻴﻘﻴﺔٌ ﻭﺃﻨﺎ ﺃﻋﻠﻭ ﻭﺃﻋﻠﻭ ﺇﻟـﻰ ﺴـﻘﻑ ﺍﻟﻐﺭﻓﺔ، ﺯﺍﻟﺕ ﺘﻠﻙ ﺍﻟﺭﻫﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻻﺯَﻤَﺘﻨﻲ ﻁـﻭﺍلَ ﻋﻤﻠﻴـﺎﺕِ ﺍﻟﺼﻌﻭﺩِ ﺍﻟﺴﺎﺒﻘﺔ، ﻜﻨﺕُ ﺃﺸﻌﺭُ ﺒﻔﺯﻉٍ ﻭﺠﺴﺩﻱ ﻤﻤﺩّﺩٌ ﺃﻤﺎﻤﻲ ﻋﻠﻰ ﺴﺭﻴﺭِ ﺍﻟﺠَﺭﻴﺩِ، ﺒﻴﻨﻤﺎ ﺃُﺤَﻠّﻕُ ﻤُﺴﺘﻤﺘﻌًﺎ ﺍﻵﻥَ ﺒﻬﺫﻩ ﺍﻟﺨﻔﺔ، ﺨﻁﺭ ﻟﻲ ﻓﻲ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﻠﺤﻅﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺠﻤﻴﻌا ﻴﻤﺘﻠﻜﻭﻥ ﻤﺜﻠﻲ ﺍﻟﻤﻘﺩﺭﺓَ ﻋﻠـﻰ ﺍﻟﻁﻴﺭﺍﻥ ﺒﻤﺠﺭﺩِ ﻨﻭﻤِﻬﻡ ﻟﻜﻨﻲ ﻟﻡ ﺃﻗﺎﺒل ﺃﻴًﺎ ﻤﻨﻬﻡ ﺃﺜﻨﺎﺀ ﺘﺠـﻭﺍﻟﻲ ﻓﻲ ﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻘﺭﻴﺔ، ﻭﻟﻬﺫﺍ ﺠﺯﻤﺕُ ﺒﺨﻁﺄ ﺍﻋﺘﻘﺎﺩﻯ.
ﺃﻤّﻲ ﺃﻏﻠﻘَـﺕ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﻤﺜﻠﻤﺎ ﻴﺤﺩﺙ ﻜل ﻤﺭﺓ ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﺩﺍﺌﻤﺎ ﺘﻨﺴﻰ ﺃﻥ ﺘﺴﺩّ "ﺍﻟﻁﺎﻗﺔَ" ﺠﻴّﺩﺍ. ﺘﺒﻘﻰ ﻤﻨﻬﺎ ﻤﺴﺎﺤﺔُ ﻤﻠﻠﻴﻤﺘﺭﺍﺕٍ ﺘﻜﻔﻲ ﻟﻜﻲ ﺃﻋﺒﺭ.
ﻤﻨﺤَﻨﻲ ﺍﻟﻬﻭﺍﺀُ ﺍﻟﺒﺎﺭﺩُ ﻤﺯﻴﺩًﺍ ﻤِﻥ ﺍﻟﻤﺘﻌﺔ. ﺍﻟﺸﻭﺍﺭﻉُ ﺸﺒﻪ ﻤﻅﻠﻤﺔ، ﺨﺎﻟﻴﺔ ﻤﻥ ﺍﻟﻤﺎﺭﺓ، ﺍﻟﻠﻬﻡ ﺇﻻ ﺍﺜﻨﻴﻥ ﺃﻭ ﺜﻼﺙ ﻤﻥ ﺍﻟﻌﺎﺌﺩﻴﻥ ﺒﺒﻬﺎﺌﻤِﻬﻡ ﻤِﻥ ﺍﻟﺤﻘﻭل.
ﻴﻤﻜﻨﻨﻲ ﺃﻥ ﺃﺘﺠﻭل ﻓﻲ ﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻘﺭﻴﺔ، ﻟﻜﻥ ﻻ ﺃﺴـﺘﻁﻴﻊ ﺘﺠﺎﻭﺯﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺭﻯ ﺍﻟﻤﺤﻴﻁﺔ. ﻫﺫﺍ ﺸﻲﺀ ﺼﻌﺏ ﻟﻠﻐﺎﻴﺔ. ﺜﻤـﺔ ﺃﻤﻭﺭ ﺘﺠﺭﻱ ﻻ ﺃﺴﺘﻁﻴﻊ ﺘﻔﺴﻴﺭﻫﺎ، ﺤﻴﺙ ﺃﺸﻌﺭ ﺒﺄﻨﻨﻲ ﻤﻠﺘﺼـﻕ ﺒﻤﺴﺎﺤﺔ ﺼﻐﻴﺭﺓ ﻻ ﺃﻏﺎﺩﺭﻫﺎ، ﺸﻲﺀ ﻤﺎ ﻴﻌﺘﺼﺭﻨﻲ."
في هذه الفقرةِ من روايتِه (عين القِطّ) الصادرة في طبعةٍ جديدةٍ عام 2019 - والحاصلة على جائزة ساويرس للرواية عام 2005 - يصفُ (حسن عبد الموجود) خبرةً من خبراتِ الخُروج من الجسد Out of Body Experience (OOB).
ولِنَكونَ واضِحِين، لزم التنويه بأنّ هذا التعبيرَ الذي يعني رؤيةَ الشخص للعالَم من موقعٍ خارجَ جسدِه الفيزيقيّ، هذا التعبيرَ المُحايِد تبنّاه بعض الباحِثين في الباراسيكولوجي ودراسات الوَعي في منتصف القرن الماضي كبديلٍ لتعابيرَ أخرى مُستقاةٍ مِن أنظِمةٍ عَقَدِيَّةٍ تؤمنُ بالرُّوح، تلافيًا لإثارة حَفيظةِ مَن لا يعتقدون في شيءٍ مُفارِقٍ للجسدِ المادّيّ. وما يقرِّرُه العِلم في هذه الخِبرةِ أنَّها قد تحدثُ نتيجةً لبعض إصابات المُخّ، وفي حالة الاقتراب من الموت، وفي بعض اضطرابات النَّوم، وأثناء الأحلام أو الإثارة الكهربية للمُخّ، بين أسبابٍ أخرى.
لكن ما يميّز هذه الخِبرةَ في رواية عبد الموجود أنّها مرحلةٌ عابرةٌ تسبقُ اتّحاد الرُّوح الإنسانيّة بجسد قِطّ!
الفكرة التي تقوم عليها الرواية تمنحُها فرادةً حقيقيةً، وهي خرافةٌ فلكلوريّةٌ تستوطنُ صعيد مصر، مفادها أنَّ التوأم الأصغر تفارقُه رُوحُه أثناء النوم لتَحُلَّ في جسد قِطّ، وهو ما يَدفَعُ الآباءَ إلى تسمية التوأم الأصغر دائمًا (قِطّ)!
الأخ والأب والإلهة بست!
في روايتِنا هذه لا نعرفُ عن الأخ الأكبر إلاّ أنّ اسمه (محمود)، وأنه يذكُر هذه الحكاية أمام الناس باعتبارها أسطورةً، ويعلّق الراوي بأنّ (محمود) "يريدُ أن يتحدث بمفرده ولا ينتبه أبدًا إلى ما يقوله الآخَرون."
ومِن ثَمَّ لا تذكر النوفيلاّ هذا الأخَ الأكبرَ مرّةً ثانيةً طيلة صفحاتها التي تربو قليلاً على السبعين. يُسقِطُهُ كاتبُنا من حساباتِه فلا يكون له أيُّ دور! هذا بعَكس الأب الذي يُصِرُّ هو الآخَر على أنّ الأمر لا يعدو كونَه أسطورةً، لكنّ ذِكرَه منتشِرٌ بطول الرّواية، سواءٌ في علاقتِه المباشِرة المتوتِّرة بـ(قِطّ)، أو بباقي العائلة (الفضايلة) أو بأحداث القرية.
ولِذا يبدو لي أنّ هذا الإغفالَ لمحمود جاء متعمَّدًا، كشكلٍ من أشكال الانتقام الواعي من (عبد الموجود)/ ربّما اللاواعي من البطل الراوي (قِطّ). وقد توجَّه هذا الانتقام إلى الأخ باعتبارِه المَسارَ الممكن للانتقام، حيثُ يسهُل تجاهُلُه بدرجةٍ ما، بينما العلاقةُ بالأب أساسيّةٌ في رسم الشخصية، ولا مفَرَّ من وصفِها هنا.
في الصفحة الأولى، بعد ذِكر الخُرافةِ وموقف (محمود) منها، يقول الراوي: "يروقُ للناسِ في الشارع أن ينادوني باسمِ (بِس). هذا هو اللقب الشائع الذي يُطلَق على القِطّ عمومًا في الصعيد. الأنثى تُسمَّى بِسَّة.
عرفتُ أن (بست) كان أحد آلهة الفراعنة، رأسه على وجه قِطّ." ولا يعود الرّاوي لذِكر الإلهة (الأنثى) خلالَ الرِّواية. يكتفي بهذه الإشارة الوحيدة إلى نمطٍ من القداسة يكتنِفُ حالتَه الفريدة.
النمَطُ الأساسيُّ من المغامراتِ التي يخوضُها (قِطٌّ) يتعلّق باكتشافِه فضائحَ القريةِ أثناء تجوالِه الليليِّ في جسد قِطّ، من الخيانات الزوجية (سَنيّة زوجة صلاح مع السائق عبّاس) إلى تدبيرِ (حِنّاوي) الخفير النظامي تزييفَ نتيجة الانتخاباتِ لصالح مُرَشَّحٍ بعينِه، إلى تعاقُدِه مع غُرباء على ترويج المخدِّرات في القرية.
اقرأ أيضا : قراءة في مجموعة "الجَمَل الإنجليزي" لنبيل عبد الكريم
ومغامراتُه دائمًا لا تؤدّي إلى أية نتيجة، فسَنيّة وعبّاس ماضيان فيما بدآه، وحِنّاوي سيكتسح القرية بالمخدِّرات في النهاية. إلاّ أنَّ ثَمَّة خوفًا غامضًا يغلِّف تعامُل هؤلاء الخُطاة مع (قِطّ)، فالخائنةُ وعشيقُها وحتى الخفيرُ الصارمُ متبلِّدُ المَشاعِر يُظهِرون جميعُهم درجاتٍ من القلق والانزعاج حين يَرَون (قِطّ)، ولا يهدأون إلاّ حين يختفي من أمامِهم.
ولعلّ هذا الخَيط يُظهِرُنا على مزيجٍ من الاحترامِ والكراهية والخوف يتعاملُ به أهل القرية مع (قِطّ)، حيث نجد له تَجَلّيًا آخر حين يحدِّثُنا (قِطّ) عن منزلته الاجتماعية الموروثة في القرية "الشباب الذين يعاملونني على أنني شَبَه الأجانب، مسترسل الشَّعر، أبيض، نظيف الملابس، حذاؤه لامع في الوقت الذي لا يرتدي فيه ثلثا أهالي القرية أحذية".
في تقديري أنّ هذا المزيج من المشاعر يتجاوبُ والسطرَين العابِرَين اللذَين أُشيرَ فيهما إلى الإلهة المصرية القديمة، فوقوعُ أهل القرية في الخطيئة يجعلُ نظرتَهم المرتبكةَ إلى (قِطّ) تبدو نظرةً إلى إلهٍ ساقِطٍ أو ظِلٍّ مُقَدَّسٍ للإله يسعى في قريتِهم.
إنهم يخافونه ولا يُريدُون أن يشعُروا بمراقبَتِه إيّاهم، ومنهم مَن يجرؤُ على رَكلِه إذا ما تجسَّدَ ليلاً في قِطّ، حتى إنّ (حِنّاوي) يتوعَّدُه بإحراقِ كُلِّ قِطَط وكلاب القرية!
وأعتقدُ أنّ هذه الرؤيةَ يَدعَمُها السطرُ التالي لذِكر الإلهة (بَست) مباشَرَةً، حيث يقول الراوي: "حِنّاوي الخفيرُ النظاميُّ أوّلُ مَن ناداني بِـ(بِسْ). كان يتودَّدُ إلَيَّ كثيرًا في الآونةِ الأخيرةِ بشكلٍ لم أفهمه"، أخذًا في الاعتبارِ أنَّ (حِنّاوي) شَرٌّ مُطلَقٌ في الرواية. هذا الشَّرُّ المُطلَق هو أوّل مَن يحتفي بهذا الإله الساقِط ويتودّدُ إليه ويخشاهُ ويرغَبُ في إحراقِه!
* كيف ترى القِطَط؟!
هناك خاصّتان لعَين القِطِّ في الرواية، تظهر أولاهما حين يتحدث الراوي عن تلصُّصِه على سميرة وزوجها (عبد السميع) الجزّار أثناء علاقتهما الحميمة، حيث يقول: "كان يشغلُني سؤالٌ عن لون الجلاّبيّة التي تلبسُها. في الواقعِ لا تشُاهِدُ القِطَطُ العالَمَ إلاّ مِن خلالِ لَونٍ واحدٍ هو الرّماديّ". أمّا الثانيةُ فتَظهَرُ حِينَ يتحدثُ أولَ مرّةٍ عن علاقتِه بأبيه: "غيَّرَ أبي نظرتي إلى الظَّلام. كان يسلِّطُ ضوءَ المصباحِ على منتصفِ الشارعِ ويُبعِدُني بقسوةٍ عنه حينَ ألتصقُ به خوفًا من عتمةِ الجانِبَين. حينَ أحُلُّ بجسَدِ قِطٍّ لا يُصبِحُ للظلامِ مَعنى، فكُلُّ شيءٍ يكونُ واضحًا من خلالِ عُيونِه وإن كان باللونِ الرّمادِيّ."
إذَن فـ(قِطٌّ) حِين يتحوّلُ إلى قِطٍّ حقيقيٍّ ينتفي عنده الظلامُ فيَرَى كُلَّ شيءٍ، لكنّه لا يرى إلاّ باللون الرّمادِيّ. هكذا يتّسِع مجالُ رؤيتِه ليشملَ كُلَّ ما في القرية كما يَليقُ بإله ساقطٍ مثلِه، لكنّه كذلك يَرَى الأشياءَ بشكلٍ مُحايِدٍ تمامًا كما يَشِي بذلك الرّمادِيّ، والحِيادُ بدَورِه لازمةٌ كثيرًا ما تُناطُ بالألوهيّة، فلا شيءَ ممّا يشهَدُهُ (قِطٌّ) من الأحداثِ يؤثِّرُ كثيرًا في مشاعِرِه، ولعلَّ هذا الحِيادَ يتجاوبُ والنبرةَ الساخِرَةَ التي تتخلّلُ السَّردَ مِن دفَّةِ الكِتابِ إلى دفَّتِه، فالرّاوي منفصِلٌ شُعوريًّا عمّا يحكيه، فلا أثرَ للمأساةِ على وعيِه، أو ربّما هو يحاولُ الهَرَبَ مِن مشاعِرِه بهذه السخرية اللاذِعَة.
فحتى حين يحكي عن خيط بيت (بطرس) الحلاّق الذي يروِّج (حنّاوي) إشاعاتٍ عن إغواء زوجتِه لشبابِ القرية متذرِّعًا بذلك لإغراء أهل القرية بطَردِه وأسرتِه من بينِ ظهرانيهم، وعن وقوعِه في غرامِ (نُورا) ابنة (بطرس)، ثمّ دخولِه بيتَ (بطرس) ورؤيتِه لزوجتِه الشابّة أمِّ (نُورا) التي تظهرُ أمامَه وتحدِّثُه بطريقةٍ مُغوِيةٍ بالفعل، ثم صداقتِه لـ(إيليّا) ابن (بطرس) بعد خوفِه منه، ثم تآمُر أهل القريةِ بتحرض (حِنّاوي) على إغراق (نورا) وموتِها، حتى أثناءَ حَكيِه هذا الخَيطَ لا يُظهِرُ كثيرَ أَسَىً، وإنّما يَمُرُّ على الأحداثِ كأنها لا تعنيه إلاّ قليلا.
والحَقُّ أنّ خيط الصداقة التي جمعَت الراوي بإيليّا يبدو مقطوعًا بشكلٍ غامض، رغم أنه الخيطُ الوحيدُ الذي يُتيحُ لنا قفزةً زمنيةً إلى المستقبَل فنرى الراوي وقد أصبح شابًّا يسافر إلى القاهرة مع صديقِه لمتابعة دراستِهما الجامعيّة، ويتعرّف إلى (أيمن إسماعيل) الأستاذ الجامعيّ الذي أصبح صديقَهما.
في هذا الخيط لا يوجد ما يستحقّ الذِّكر باستثناء الطرَق التي ابتكرَها (إيليّا) للاستمناء، وحياتِه القصيرة في بيت خالتِه (عواطف) مع ابنتها التي ترتد ملابس قصيرةً، ومغامراته الجنسية في بيت (أيمن إسماعيل). ورغمَ أنّه خيطٌ بدا واعِدًا جِدًّا لأنه يتحدثُ عن حادثة طرد قبطيٍّ مِن قريتِه بالصعيد – وهو أمرٌ حدثَ واقعيًّا أكثرَ مِن مرّةٍ للأسف في صعيد مصر – وكان بإمكاننا أن نرى تفاصيلَ أكثرَ ممّا يخفَى علينا بعين القِطّ، إلاّ أنه لم يُستَغَلَّ الاستغلالَ المتوقَّع.
ولعلَّ الضوء الوحيدَ الذي تُلقِيه عَينُ القِطِّ على الحادثةِ يفضحُ نمطًا خاصًّا مِن الشّرّ، هو الضِّيقُ بالمُخالِفِين، فهو في حكاية أسرة (بطرس) ضِيقٌ بالمُخالِفِين في الدِّيانة، وفي خيطٍ آخَرَ متأخّرٍ في الرواية – هو خيطُ حكاية (شِقِّ الحَلَب) – ضِيقٌ بالمُخالِفِين في العِرق، حيث تُشيرُ الأوصاف القليلةُ إلى ملامح الأستاذ (صبري) مدرّس الجغرافيا إلى انحدارِ أهل شِقِّ الحَلَب من أصولٍ شاميَّةٍ كما يَشي بذلك اسمُ مِنطقتِهم.
ربّما حرص (عبد الموجود) على التوسُّع قليلاً في تفاصيلِ اضطهاد أهل القرية – وعلى رأسهم (حِنّاوي) أيضًا – لأهل شِقّ الحَلَب ليؤازِرَ تلك الإشارةَ إلى الضِّيقِ بالمختِلِفِين، لكنّه بعد أن أسالَ لُعابَنا لتفاصيلَ أكثرَ واستكشافٍ أعمقَ لحكايتَي (بطرس) و(شِقِّ الحَلَب) حرمَنا ببساطةٍ هذه التفاصيلَ، مُثبِتًا إخلاصَ راويه لرماديّة وحِيادِ (عَين القِطِّ) التي لا تحفِل بالتفاصيلِ كثيرا. هل تتّضِحُ فكرتُنا أكثرَ إذا استعنّا بالعِلم وقُلنا إنّ حِدَّةَ إبصار القِطَط تقعُ بين نسبَتَي (20/100 و20/200) مِن حِدّة إبصار الإنسان؟! لقد أخلَصَ (قِطٌّ) لسطحيَّةِ الرؤيةِ واستسلَمَ لها، ومَرَّ على أحداثِ قريتِه مُرورَ الكِرامِ البانوراميِّ الذي يستعرِضُ ولا يَحفِلُ بالعُمق. ولنا أن نقولَ ياليتَه لم يُخلِص لاسمِه وخصائصِه البيولوجيّة هذا الإخلاص!
قِطُّ حسن عبد الموجود وقِطّ ماركيز:
لدى (ماركيز) قصّةٌ عنوانُها (حوّاءُ داخلَ قِطِّها)، وهي مغامرةٌ سرديّةٌ بالغةُ الغرابة، تعان فها امرأةٌ الأرَقَ وتتبرّم بجَمالها الطاغي، وتحاولُ وهي حبيسةٌ في بيتِها أن تتملّصَ مِن وجودِها.
تكتشفُ تدريجيًّا أنها تخلّصَت من هذا الجسد، وتبحث عن قطِّها لتسكُنَ جسدَها برُوحها التي تحررت، لكنها لا تعثر على القِطّ رغم محاولاتِها، لتكتشفَ ضمنيًّا أنّها بالفعل قد تحوَّلَت إلى قِطٍّ، وأنَّ زمنًا طويلاً جدًّا (يقترب من ثلاثة آلاف عام كما يقول السطر الأخير من القصة) قد مرّ على هذا التحوُّل!
في الحالَين هناك ذلك الضِّيقُ بالوُجود، لكن بينما تدورُ أحداثُ قصة ماركيز بشكلٍ أساسيٍّ داخِلَ عقل المرأة في إطارٍ من السّرد الثقيل البطيء الإيقاع عَمدًا، تدورُ أحداثُ (عين القِطّ) في العالَم الخارجيِّ في إيقاعٍ سريعٍ يكادُ يكونُ لاهِثًا، ولا يُطلِعنا كاتبُنا على ما يدور في عقل (قِطّ) إلا على فتراتٍ متباعِدة.
والواضِحُ أنّ راوي (عين القِطّ) غالبًا صبيٌّ ربما على أعتاب المراهقة، وهو لا يفارقُ هذه السِّنَّ إلاّ في القفزة الزمنيّة الوجيزة التي تُطلِعُنا على القليل من أحداث مرافقتِه لإيليّا في القاهرة.
ثُمَّ إنّ الراوي يظلّ يشُكُّ في حقيقة ما يحدثُ له طيلة الرواية، هل هو حُلمٌ متكررٌ أو كابوسٌ أم أنّ رُوحَه حقًّا تفارقُ جسدَه كل ليلةٍ لتسكُنَ جسد قِطّ؟!
تقول الفقرة الأخيرة من الرواية: "في لحظات الخوف أحسم تردُّدي وأستطيعُ أن أجيب عن تساؤلاتي الخاصةِ بي.
أتمنى الآن أن أَحُلَّ في جسد قطٍّ يعتزُّ بنفسه، يتعاملُ بكبرياء، لا يهرب بفزعٍ أمام تلويحات الصبيان بالطُّوب، وأحيانًا بالقبضات الفارغة، ويأكلُ فقط داخل المنزل الذي يحيا به. خروجُه إلى الشارع يكون للتأمل وبحثًا عن حياةٍ خاليةٍ من المشاهد الواحدة.
كانت ضالّتي تتوفّر في قِطِّ الشيخ علي طه، ولكن دهَسَته منذ أيامٍ عربةُ المطافئ التي جاءت من نجع (السنّاوي) لإخماد حريقٍ أشَعَلته حمامةٌ في عددٍ من البيوت. كان يسيرُ أمام العَجلات بالكبرياء ذاتِه حتى سوَّته العَجَلَةُ القاسيةُ بالأرض!"
هنا يواجِه الراوي حقيقةَ أنَّ اتحاداتِ رُوحِه بالقِطَط كانت محكومةً دائمًا بضغوطٍ قبيحةٍ لم يكن أمامه مَفَرٌّ منها، وكان يعاني إذلالاً على أيدي الجميع، بشَرًا وقِطَطًا، وابتداءً مِن أبيه الذي يُعنِّفُه لأتفَهِ الأسباب ويفتعلُ المبرراتِ لتأديبِه، ويحلُم بخروجٍ من جسدِه إلى قِطٍّ بشُروطٍ خاصّةٍ يتحقّق له فيها ذلك الجانبُ الغائبُ مِن ألوهيّة (بَست) التي لم يذكُرها إلاّ مرَّةً واحدة، أي العِزَّة، لكنّه حُلمٌ محكومٌ بالخيبة، وليس أمامَه إلاّ أن يستمرَّ في تقمُّص القطط الذليلة، واقعًا أو حُلمًا، لا يُهِمّ!
في رأيي أنّ كاتبَنا قد وقع على كنزٍ فلكلوريٍّ حقيقيٍّ، وقد كان مُخلِصًا بشكلٍ كبيرٍ لمقتضَيات التعبير من وجهة نظرِ صبيٍّ على أعتاب المراهقة، يعاني علاقةً مرتبكةً بأبيه، وتخرُجُ رُوحُه لتتحِد بأجساد تلك الكائنات الغامضة المُثيرةِ للخيال والمُسطَّحَة الرُّؤية في آنٍ، لكنّ هذا الإخلاصَ قد أجهضَ إمكاناتٍ شديدةَ الثراء تحتشِدُ بها الفِكرةُ الفريدة.
وبَعدُ، فالعملُ ينطوي رغم ذلك على مغامرةٍ سرديّةٍ جديرةٍ بالتأمُّل، لاسيّما في انحيازِ الكاتبِ لوجهة نظر راويه الصبيِّ/ القِطّ، على حساب ما يمكن أن يدفعنا لاكتشافِه معه من خَبايا نفوسِ أبطالِه ومجتمعِهم الغامض.
قراءة في مجموعة "الجَمَل الإنجليزي" لنبيل عبد الكريم
عبد الله رضوان الشّاعر المسكون بوطنه