تتعرض
حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً لضغوط متزايدة ومتتالية، بشأن وقف عملياتها العسكرية لاسترداد المدن والمناطق التي يسيطر عليها مجرم الحرب خليفه
حفتر، خاصة مدينة سرت ذات الموقع الجغرافي والاستراتيجي، والتي تقع بمنتصف المسافة بين شرق
ليبيا وغربها، فسرت تشرف على منطقة الهلال النفطي الليبي، والذي يعد أغنى المناطق بالنفط.
هذه الضغوط أثمرت إعلان البعثة الأممية في ليبيا انخراط وفدي الوفاق وحفتر في محادثات 5+5 العسكرية. ولا يخفى على أحد أن تلك الضغوط التي تتعرض لها حكومة الوفاق من قبل بعض الدول الكبرى لوقف عملياتها العسكرية، تتعلق تحديداً بسرت بمنطقة الهلال النفطي، وأوباري لعلاقتها بحقلي الشرارة والفيل اللذين أقدمت مجموعات مسلحة تابعة لحفتر على إغلاقهما بعد يومين من إعلان المؤسسة الوطنية للنفط تشغليهما.
ما يهم الدول الكبرى الآن هو منع قوات الوفاق من السيطرة على سرت، وفي هذا الإطار سارع رئيس المنظومة الانقلابية في مصر عبد الفتاح السيسي بإعلان ما سماه المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في ليبيا، والتي ولدت ميتة، في وجود حفتر وعقيله صالح رئيس برلمان طبرق. وكما هو متوقع سارعت الدول الداعمة لحفتر (الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا وروسيا والأردن والبحرين) بالترحيب بها، وكذلك أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الترحيب أيضا، في الوقت الذي رفضتها حكومة الوفاق وتركيا رفضا قاطعا.
المراقبون يؤكدون أن المبادرة المصرية لا قيمة ولا وزن لها لأن السيسي وسيط غير محايد، لانخراطه في دعم حفتر. ويسعى السيسي لإعادة تدوير تلك المبادرة التي سبق وأطلقها عقيله صالح قبل أسابيع. ولا تعدو مبادرة السيسي كونها بروباغندا إعلامية ورهان الوقت الضائع بسبب غياب حكومة الوفاق عنها.
أيضا يسعى السيسي لتسويق عقيلة صالح كبديل محتمل حال التخلي عن حفتر. ومع طرح السيسي هذا فإن ذلك يدفعنا للقول بأن هناك شبه تأكيد بأن الملف الليبي الآن تحت إشراف الموساد الصهيوني، والذي ينسق عملياته وسياسته المتعلقة بحفتر من خلال مدير المخابرات المصرية عباس كامل. فالعلاقة بين السيسي والموساد ليست بالجديدة أو المستغربة، حيث التقى عباس كامل مع مبعوثين من الموساد في الفترة ما بين 2017 و2019، ومع حفتر بالقاهرة في أكثر من مناسبة. وأسفر ذلك عن عدد من الدورات التدريبية لقادة حفتر الرئيسين على أيدي ضباط صهاينة، في أساليب الحرب، وجمع المعلومات، وكذلك إجراءات القيادة والتحكم. أيضا ساهم الموساد في تسهيل شراء مناظير ليلية وبنادق قنص، وهي التي حرص حفتر على إخفائها كي لا تقع بأيدي قوات الوفاق.
إن التدخل الصهيوني في ليبيا ليس بجديد فالعلاقة تعود لعهد معمر القذافي عقب تخليه عن المشروع النووي الليبي عام 2004، في تلك الفترة غازل القذافي الكيان، ووصل الأمر ذروته عندما طرح القذافي عددا من المبادرات السياسية، واقترح تسوية بين فلسطين المحتلة ودولة الكيان الصهيوني المحتل الغاصب؛ تقوم على دولة واحدة أسماها "اسراطين".
إذا الكيان الصهيوني منغمس بشكل كامل في ليبيا، تساعده في ذلك المخابرات المصرية والتي لها باع طويل داخل ليبيا. وازداد هذا الانغماس المصري الصهيوني عقب ظهور الدور التركي والذي أصبح اكثر تأثيرا في منطقة البحر المتوسط، خاصة بعد توقيع الاتفاقية التركية الليبية، مما أدى لإرباك الخطط الصهيونية القبرصية لإنشاء خطوط غاز لليونان وإيطاليا، وهو الأمر الذي كشفه وأكده مؤخراً نائب رئيس وزراء حفتر عبد السلام البدري، الموالي للكيان، والذي قال: "نحن لسنا أعداء لتل أبيب"، وطالب صراحة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بتقديم الدعم لهم في مواجهة حكومة الوفاق، ودعا لاتفاق ترسيم حدود بحرية مع الكيان على غرار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، لمواجهة تحالف "الوفاق-
تركيا" وذلك وفقا لصحيفة "ماكورريشون" العبرية.
وفي ذات السياق أشار موقع "ميدل إيست آي" البريطاني في تقارير متتالية بأن الموساد يتولى تدريب عناصر من مليشا حفتر بتمويل إماراتي. أيضا تجب الإشارة إلى أن حفتر المسيطر على شرق ليبيا ومينائه الرئيسي بنغازي؛ يحمل الجنسية الأمريكية، وله علاقات قوية مع المخابرات الأمريكية (CIA) كذلك.
ويجب عدم إغفال لقاء السفير الألماني إلى ليبيا مع خليفه حفتر في العاشر من الشهر الجاري بالقاهرة.
خلاصة القول، فإن الدور الصهيوني في ليبيا مرتبط ارتباطا وثيقا بالمحور الإماراتي السعودي المصري، وهو ما أشار إليه مؤخرا تقرير للتلفزيون العربي حول توفير الإمارات أنظمة دفاع جوي متقدمة صُنعت في الكيان الصهيوني، وتم نقلها إلى ليبيا عبر الحدود البرية مع مصر، وذلك لمواجهة الطائرات المسيرة التركية.
ومن جانبي لا أستبعد أن تكون الطائرات الإماراتية التي حطت مؤخراً في مطار اللد (بن غورين)، بحجة تقديم مساعدات طبية للسلطة الفلسطينية على الرغم من إعلان السلطة الفلسطينية عدم وجود تنسيق مسبق مع الإمارات، هي التي نقلت تلك الأنظمة.
إن معادلة التهديد الذي يخشى منها الكيان الصهيوني في سوريا وليبيا ومصر إنما تأتي في هذا السياق؛ تلك المعادلة التي بدأ عملها منذ عام 2012 عندما رفعت إيران الراية البيضاء أمام الثورة السورية المباركة، عندها أفسح الكيان الصهيوني المجال للمرتزق الروسي حتى يملأ الفراغ العسكري والأمني في سوريا، ولوقف التهديد الوجودي الذي فرضته الثورة السورية على الكيان ومشروعه. إذا العنصر الروسي ما هو إلا عنصر مرتزق لدى الكيان الصهيوني، ولا يغرنكم تلك الملاحظات والإشارات التي تعطيها أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مما يطلقون عليه "قلقا" من الوجود الروسي في ليبيا.
إن الربيع العربي وساحاته الملتهبة فرض تغيرا جذريا في معادلة النظام الدولي في الشرق الأوسط، وعلاقة الأقطاب الدولية بعضها ببعض. دليل ذلك عندما بدأ السوريون يشكلون تهديدا وجوديا للصهاينة ومشروعهم، وتزامن ذلك مع الانهيار والانسحاب الأمريكي في عهد أوباما إثر فشل هدفه في أفغانستان، فما كان للكيان الصهيوني بتلك اللحظة إلا إفساح الطريق لنوعين من المرتزقة، الأول هو الدولة الصفوية الإيرانية، والثاني المرتزق الروسي.
لكن يبقى السؤال: هل يستطيع المرتزق الروسي مواصلة دوره في ليبيا كما هو الحال في سوريا، خاصة أن للروس امتداد تاريخي في سوريا بينما في ليبيا لا يملكون هذا الامتداد؟ إذا من سيعوض هذا النقص؟
الإجابة هم أبناء زايد وابن سلمان والسيسي. لكن هل تستطيع ميزانية الخليج الصمود أمام هذا التحدي المستمر الذي تفرضه الشعوب العربية الثائرة، والتي أثبتت أن عشر سنوات عندها ما هي إلا استعداد لما هو آت؟
إن الدور العربي المعادي لثورات الربيع العربي ما هو إلا تجل لمستوى الاختراق الأمني الصهيوني الذي ضرب أوصال الأنظمة العربية وتوظيفها هذا التوظيف المتوحش. ومما فهمناه من الثورة المضادة أن تلك الأنظمة الأمنية تعمل في ليبيا على شيطنة فئة ما بين تنظيم الدولة والقاعدة والإخوان المسلمين، ونظرا لعدم وجود فعلي للقاعدة وتلاشي تأثير تنظيم الدولة بفضل حكومة الوفاق، فلم يبق لديهم إلا الإخوان المسلمين وشيطنتهم. وبغض النظر عن اختلاف البعض مع استراتيجية الإخوان، فلسنا بصدد مناقشة هذا الأمر.
ما يعمل عليه الحلف العربي الصهيوني هو هدم المرجعية السياسية لحكومة الوفاق، والمجلس الرئاسي، واتفاق الصخيرات، من خلال بعض الأصوات في الساحة الليبية، تلك الأصوات العالية التي دخلت فجأة لشيطنة الإخوان. وهنا يلوح سؤال آخر عن الأجندة التي يدعمونها في تلك اللحظات الفارقة في الثورة الليبية ومستقبل ليبيا!
إذن ستبقى مستلزمات الصراع العقائدي قائمة؛ لا تحرفه الأحداث عن مساره المرسوم سلفاً، وبالتالي يجب علينا عدم تمنية النفس بأن التدخلات الدولية ستكون إيجابية لصالح الثورة. وبالنسبة للعرب سيبقى تدخلهم الأمني والحرب النفسية والشرعية التي صنعوها بأيديهم كبرلمان طبرق، والانقلابات في مصر واليمن، ولا ينبغي أن نقع في هذا الفخ بعد كل هذه السنوات والتجارب، ولا نقع فريسة للحرب النفسية التي يشننونها الآن.
وتبقى النقطة البيضاء المضيئة وسط كل هذا هو دخول تركيا بثقلها في تلك المعادلة من أوسع الأبواب، وبما تملكه من تاريخ وحضور جيوسياسي، وما اتصال كل من بوتين و ترامب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفي هذا التوقيت إلا دليل على أن مركز القرار بيد تركيا، ولا يملك بوتين وترامب، على ضخامة دورهما، إلا أن يكونا تبعا للمنطقة التي يقف عليها أردوغان، فما بالكم ببقية اللاعبين من الأقزام كمحمد بن زايد وابن سلمان والسيسي؟