يقال إنَّ أقدم رسم مضحك معروف هو رسم وجد على جدران المقابر
المصرية، وهو لغراب "فرعوني" يصعد السلم درجة درجة مستغنياً عن جناحيه، وقد أخذ الغراب السلّم معه هذه المرة إلى الأعلى، تاركاً الشعب في الأسفل من غير دفن، وكان الغراب يدفن قتلاه، ثم قال الغراب مهددا كل أحد: "اللي ح يقرب من السلّم ده ح أشليو من وش الأرض"!
الغراب من أغرب الكائنات، والسيسي من أغرب الطيور أيضاً، لولا أنه مثل البطريق لا يطير، وكثيراً ما يُرى الغراب وهو يرعى مثل البقرة في الحقول الخضراء، أقصد الغراب، كأنه ينسى أنه طائر، وأرى أيضاً
السيسي يرتع في السجادات الحمراء كأنه ينسى أنه بشر. وقول السيسي السابق فيه من قليل أو كثير من أخلاق الأغربة، والأغربة جمع قلة للغراب، فهو يشير إلى الكرسي الذي يجلس عليه، وكأنه ورثه عن عمه وأبيه، وكأنه في درس تشريح للتلاميذ في الفصل، ولا يستثني كأن يقول: إلا بالانتخابات "المزورة طبعاً"، أو يقول مجاملة: حرصاً على صحة المصريين السياسية وطبقات المصريين الجيولوجية، أو أنَّ الكرسي ده ملعون، لكنَّ الغراب طائر مضحك، ويقال في الأمثال: ياما جاب الغراب لأمه. وقد جاب الغراب الحنان، كثيراً من الحنان، مصر أم الحنان، حتى أنه يفيض على الجيران مثل ليبيا.
ذكر جمال حمدان في كتابه شخصية مصر أنَّ النكتة هي حزب مصر المعارض الوحيد، وقد يكون هو نفسه حزب الكنبة، فالمعارضة المصرية التي عناها حمدان تقاوم وهي على الكنبة، ولم يبق في مصر كنبات، ورأيت تقريراً عن تردّي أحوال النجارين وصناع الموبيليا، بسبب الاستيراد، كما أنَّ الشباب لا يتزوجون، سيعتكفون حباً للسيسي. الحكومة الظريفة أطلقت من قبعة الساحر زواجاً اسمه زواج التجربة، قلت: لو يطلقون رئاسة اسمها رئاسة التجربة، وزارة اسمها وزارة التجربة، ونيلاً اسمه نيل التجربة، وجيشا اسمه جيش التجربة.
المصري في درجة وسطى بين تغيير المنكر بالقلب، والضحك عليه باللسان، فالنكتة تغيير أيضاً من حال الموصوف أو الواصف بالضحك منه، وقيل في مدح مصر: أن بانيها حلواني، ولا بد أن الحلوى التي كان يبيعها عسلاً أسود.
ولم يُذكر تعليل للفكاهة المصرية سوى هذا التعليل، أو أني لم أطلع عليه، وأظنُّ وأنا أبحث مثل الغراب في الأرض، عن تعليل فوجدت أنَّ سبب ظرف المصريين هو أنهم استفاقوا من النوم فوجدوا الفرعون والأنهار تجري من تحته يقول: أنا ربكم الأعلى، فظنوا أنه يهذر ويروي نكتة فضحكوا، وردّوا عليه بالنكات أيضاً، وقال الشعب للكلب يا سيدي، لأنه له عند الكلب حاجة.
وقد كشف المؤرخون والشعراء أنَّ شعب مصر به خفّة قديمة، ألم يقل الله تعالى: واستخف قومه فأطاعوه؟ المصري يشتم أحيانا، ويقول للمشتوم: يا خفيف. الخفيف اسم من أسماء القرع. القرع فاكهة الرعب في الغرب، وهو فاكهة الضحك في الشرق.
القرع مظلوم أيها السادة، ويجب إنصافه من سيادة الباذنجان.
مثال الخفّة يظهر في بيت المتنبي الشهير، وكم ذا بمصر من المضحات. وقد زاد الحاكم بأمر الله الفاطمي الطين بلة، والخفيف خفة، أما قراقوش، فقد ظلم ظلماً بيّناً، وقد كتب عنه العلّامة على الطنطاوي مقالة ضافية في كتابه "رجال من
التاريخ". ونعلم أنَّ الإمام الشافعي غيّر الفتوى وهو يزور مصر، ضروري جداً أن يغيرها، فمصر كوكب آخر.
القرع يقول للخيار يا لوبياء هانم.
ولمَ لا يسخر الشعب المصري من حال مصر وفيها أكبر قبر على وجه الأرض، ويقال إنّه معجزة عمرانية، أي أنَّ معجزة مصر هي في القبور، يزورها آلاف السائحون الشقر، ويتعرون بين أيدي القبور، أو يتداوون ويشتفون بالأهرامات. أما قصة استقبال الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للمومياء الفرعون، كأنه ملك حيٌّ، بإحدى وعشرين طلقة مدفع، فهو يذكّر بقصة البريطاني المحتل الذي غضب من أجل البقرة الهندية التي كانت محاصرة بين السيارات، فأنقذها فأحبّه الهندوس حباً جماً لغيرته على آلهتهم!
ويزعم المصريون أن بأرضهم ثلث آثار الأرض، وبعبارة أخرى بها ثلث أوثان الأرض، وبها ثلث ظلم الأرض أيضاً، أما
سوريا ففيها ثلاثة أثلاث ظلم الأرض.
مساحة مصر مليون متر مربع لكنهم "سايبين الشقة وساكنين في أوضة واحدة"، الأوضة هي الدلتا، فهذا من ذاك، وكثيرون يزرون مصر من أجل الأمرين؛ زيارة القبور والضحك على الدستور مع الشعب المصري.
أما التحديثات الجديدة على النكتة والقبور والدستور والحكم والمعارضة بعد ثورتين، ثورة الشعب على النظام وثورة النظام على الشعب، فهي تتجاوز التحديثات إلى برنامج جرى تنصيبه من قبل النصّابين، فقد صادرت السلطة المعارضة وحبستها جميعاً، وتصدرت هي فنّ المعارضة المضحك، فبات الرئيس المصري هو سيد النكتة، والمذيعون المصريون سادة التنكيت، وجرى التنكيل بالمعارضة المصرية إلى حدِّ أنها غير قادرة على الضحك، فصارت وكأنها حالة عراقية.
وما دمنا ذكرنا
العراق المنكوب، فإنَّ العراق هو نقيض الحالة المصرية، فهو بلد البكاء واللطم والنواح، وهم أيضاً يقدسون الأضرحة، بل إن بعضاً منهم يعبدونها.
بدأت النواحة ندباً على الإله تموز في بابل، منذ القديم ونوح عشتار عليه، وتستمر المندبة اثني عشر يوماً كل سنة، وفي اليوم السابع من الندب تقام مسرحية موت الإله تموز وتنتهي في معبد مردوخ، لتعاد قصة بعث الخليقة.
ويقول باحثون كثر إن أسطورة تموز قد عادت في مواكب عاشوراء واللطم على الحسين، حتى إنَّ أرض العراق التي كانت تسمى أرض السواد لخضرتها، صارت تعني أرض الحداد الدائم، والحزن إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده وتحوّل إلى كوميديا. فكثيرون يجدون في مشاهد تمريغ الحجاج أنفسهم في طين النجف وصبغ أجسادهم بما لا يحمد ذكره هنا، مضحكاً.
تقع سوريا في درجة وسطى بين العراق وبين مصر، فشعبها يدفع ديّة الحسين، لأن يزيد الأموي متّهم بقتله، وشعبها أحفاد يزيد، ووزِرَ الابن جريمة الأب، والأب منها بريء. وكنا دفعنا دية صلب المسيح عليه السلام في الحروب الصليبية، وما زلنا، ونحن أولياء المسيح. العراقيون أتباع تموز يلطمون، وغراب مصر يضرب المثل محذرا الشعب المصري من الاقتراب من كرسي الغراب: حتى لا تصيروا مثل سوريا العراق، وقد انتقلت مأساة العراق إلى سوريا لأن بها قبراً فزع له العراقيون خوفاً من تدنيسه.
بدأت بمصر وختمت بسوريا والعراق وهي دول ستذوق الكأس نفسه، ووجدت بأن أختم فأقول إنَّ بعض النخبة العربية غضبت لنيل السيسي قلادة جوقة الشرف الفرنسي، أما أنا فأقول إنه يستحقها حق الاستحقاق. وكان الذي أنشأها أبو علي نابليون الذي غزا مصر وادَّعى الإسلام، وتهنئة للسيسي على الوسام، ألف مبارك على رتبة الصليب الأكبر التي كان بشار الأسد قد سبقه بها.
twitter.com/OmarImaromar