قضايا وآراء

في ذكرى وفاته.. هل فشل مشروع البنا؟

1300x600
في الثاني عشر من شباط/ فبراير 1949، لقي الإمام حسن البنا حتفه برصاصات رجال الملك فاروق في قلب القاهرة، كان ذلك قمة العقاب الملكي لمؤسس جماعة الإخوان بعد رفضه للعديد من سياساته ومواقفه.. ظن الملك أن رصاصات رجاله قتلت حسن البنا وأجهزت على جماعته، لكن الحقيقة كانت عكس ذلك، فتلك الرصاصات قتلت البنا لكنها أحيت جماعته وفكرته، ودفعت الكثيرين للسؤال عن هذا الرجل ومشروعه وجماعته، والانضمام إليها.

لا يمكن القول إن البنا جاء بمشروع إسلامي جديد بالكلية، لكنه أعاد إحياء مسلمات غابت، مثل وحدة الأمة، ومقاومة الاستعمار والاستبداد والمنكرات، وكلها مبادئ إسلامية عامة لطالما نادى بها أساتذة البنا الذين سبقوه والذين نهل من علمهم، مثل الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والشيخ رشيد رضا، ولكن الجديد الذي فعله البنا أنه أسس كيانا يحمل هذه الأفكار ويسعى لنشرها بين الناس، ولذا مثل الرجل وجماعته خطرا على عدة أطراف؛ منها الاستعمار سواء كان الإنجليزي الذي شارك في مقاومته في معسكرات القناة، أو الإسرائيلي الذي أرسل كتائب المجاهدين لمواجهته أيضا عام 1948، وكذا القصر الملكي وحتى خصوم القصر من الأحزاب التي كانت تحتكر المشهد السياسي في ذلك الوقت.
تلك الرصاصات قتلت البنا لكنها أحيت جماعته وفكرته، ودفعت الكثيرين للسؤال عن هذا الرجل ومشروعه وجماعته، والانضمام إليها

تحددت الملامح العامة لمشروع البنا في بناء الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالحكومة الإسلامية فأستاذية العالم. والمقصود بذلك التزام هؤلاء جميعا بقيم الإسلام ومبادئه وسلوكياته، وهو لم يفكر بفرض تلك القيم والمبادئ على غير المسلمين الذين ظلت علاقته معهم قائمة على الاحترام وفقا للقاعدة القرآنية (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، بل إنه اختار في حياته مسيحيا كأمين لصندوق جماعته. ورغم أن الجماعة قاومت عمليات التبشير، إلا أنه من المهم هنا التوضيح أن تلك العمليات كانت تقوم بها كنائس غربية ذات ملاءة مالية كبيرة، وذات ارتباط بالاستعمار، ولم تقم بها الكنيسة الوطنية المصرية.

والسؤال المثار: إلى أين وصل مشروع البنا بعد 72 عاما من استشهاده؟ وهل حقق كل ما دعا إليه؟ وهل كان الصدام حتميا مع الحكومات لتحقيق هذا المشروع؟ وهل هذا المشروع مقدس ومنزه عن المراجعة والاستدراك؟ وماذا يمكن أن تخسر مصر والأمة الإسلامية بغياب الإخوان؟

وفقا للأهداف التي حددها البنا لمشروعه، ووفقا للحسابات البسيطة، لا نستطيع القول إن المشروع نجح بشكل كامل حتى الآن، ولكن لا نستطيع أيضا القول إنه فشل بشكل كامل، فمن النجاحات التي حققها سرعة الانتشار بين الشعب المصري والشعوب الإسلامية حتى وصلت دعوة الإخوان إلى 80 قُطرا، وهو ما لم تنجح فيه أي جماعة أخرى إسلامية أو علمانية. ووصلت دعوة الإخوان المسلمين إلى الجامعات والنوادي الرياضية والاجتماعية وإلى المدن وعمق الريف المصري، ووصل عدد أعضائها في مصر فقط في حياة البنا إلى نصف مليون، وتجاوزت المليون عضو في مراحل لاحقة، وهو عدد لم يتوافر حتى لأكثر الأحزاب شعبية في مصر مثل حزب الوفد في عصره الذهبي، ولا لأي جمعية دينية أو اجتماعية أخرى أقدم من الإخوان، مثل الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة والجمعية الخيرية وجمعية الشبان المسلمين. ويمكن هنا فقط أن نذكر أن الحزب الذي تجاوزها عددا هو الحزب الوطني في أواخر أيام مبارك، إذ زعم الحزب أن عضويته تجاوزت الثلاثة ملايين، لكنها كانت عضوية زائفة سرعان ما تبخرت عند أول اختبار أي مع قيام ثورة يناير وحل الحزب. كما أن الجماعة التي تضارعها في العدد هي الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية وهي حركة شقيقة للإخوان فكرا، وتنظيما، ولكنها لم تتجاوز حدود القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلادش).
وفقا للأهداف التي حددها البنا لمشروعه، ووفقا للحسابات البسيطة، لا نستطيع القول إن المشروع نجح بشكل كامل حتى الآن، ولكن لا نستطيع أيضا القول إنه فشل بشكل كامل

وفي الوقت الذي تحدث فيه البعض عن شيخوخة الجماعة، فإنها كانت قد دخلت لتوها البرلمان بـ88 نائبا لأول مرة، بما يعادل خُمس البرلمان مشكلة الكتلة المعارضة الأكبر منفردة. وكان أبناؤها قد حازوا غالبية مجالس النقابات المهنية وبدأوا الانتشار في النقابات العمالية، والنوادي الاجتماعية والمجالس المحلية، وصولا إلى مشاركة الجماعة في ثورة يناير منذ لحظاتها الأولى، وتمكنها لاحقا من الحصول على أكثرية البرلمان وإيصال أول رئيس مدني منتخب لمصر بعد 60 عاما من الحكم العسكري، وهو ما لم تستطع أي جماعة أو حزب آخر تحقيقه.

على المستوى الدعوي، نجحت الجماعة في نشر المظاهر الإسلامية بالتعاون مع غيرها من الجماعات والجمعيات الإسلامية، فانتشر الحجاب في المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية والإسلامية، واكتظت المساجد بالمصلين، وبحلقات القرآن والدروس الدينية، ونجحت في مواجهة بعض المنكرات الاجتماعية مثل تعاطي المخدرات (الذي انتشر في مصر بعد الانقلاب بصورة كبيرة)، وربت جيلا من الشباب الملتزم دينيا المحب لوطنه الراغب في إصلاح أحواله، وإن تعرض هذا الشباب لانتكاسة وإحباط بعد الانقلاب العسكري.

على المستوى الخدمي، نجحت الجماعة في الوصول بخدماتها إلى أعماق المجتمع المصري، حتى لفقت لها السلطات تهم "التغلغل في المجتمع" التي تسببت في محاكمات عسكرية منذ منتصف التسعينيات. ولا يخفى على متابع الفراغ الكبير الذي تركه غياب الإخوان عن المجتمع المصري في وسط المعاناة المعيشية التي يحياها منذ الانقلاب، فقد كانت خدماتها تسد الحد الأدنى للكثير من المعدمين والفقراء، وكانت خدماتها الصحية ومستشفياتها ذات التكلفة الرمزية ومدارسها المميزة تنتشر في العديد من الأحياء الشعبية والمحافظات.

هذه النجاحات السياسية والدعوية والخدمية لم تقتصر على مصر بل انتشرت في كل الأقطار التي انتشرت فيها دعوة الإخوان المسلمين، بدرجات متفاوتة، بل إن بعضها كان أسبق من إخوان مصر في المجال السياسي، حيث وصل إخوان سوريا إلى الوزارة لأول مرة أواخر عام 1949، كما دخلوا البرلمان عام 1947 بثلاثة نواب ثم عام 1961 بعشر نواب، ودخل إخوان الأردن الوزارة عام 1991، كما دخل إخوان اليمن الوزارة عام 1993، بينما كانت أول مشاركة برلمانية للإخوان المصريين في عام 1984 بثمانية نواب فقط ثم تطورت في عام 1987 بـ36 نائبا، وفي 2005 بـ88 نائبا، ثم بعد ثورة يناير بأكثرية نيابية في غرفتي البرلمان.

مع اتساع انتشار دعوة الإخوان في الأقطار المختلفة كان من الضروري وفقا لتعقيدات الأوضاع أن يكون لكل جماعة قُطرية بصمتها الوطنية الخاصة، بالتوازي مع رؤيتها الأممية، من هنا حرصت العديد من الفروع على تمييز نفسها عن الجماعة الأم ولو بأسماء ولافتات مختلفة، وتحولت الرابطة الإخوانية في الأغلب إلى مجرد مدرسة، تعلم فيها البعض ثم تخرج منها وشق طريقه وفقا لما تعلمه نظريا وما خبره عمليا. ومن هنا ظهرت تباينات في بعض المواقف تجاه التعامل مع الحكام وخاصة الملوك وبعض القضايا الكبرى الإقليمية، وتحولت بعض التباينات إلى انشقاقات في بعض الفروع، منها ما ظل يحمل اسم الإخوان ومنها ما ابتعد تنظيميا وفكريا عنها، ومع ذلك ظلت الجماعة هي الأكثر حضورا بين كل التنظيمات على المستوى العربي والإسلامي.
ظهرت تباينات في بعض المواقف تجاه التعامل مع الحكام وخاصة الملوك وبعض القضايا الكبرى الإقليمية، وتحولت بعض التباينات إلى انشقاقات في بعض الفروع، منها ما ظل يحمل اسم الإخوان ومنها ما ابتعد تنظيميا وفكريا عنها، ومع ذلك ظلت الجماعة هي الأكثر حضورا بين كل التنظيمات على المستوى العربي والإسلامي

شاركت الجماعة بقوة في مقاومة الاحتلال الإنجليزي لمصر، وانضم أبناؤها إلى معسكرات الفدائيين في منطقة القناة، كما شاركت بكتائب الفدائيين في حرب فلسطين عام 1948، ولا يقدح في هذا الموقف حصولها على تبرع مالي بقيمة 500 جنيه من شركة قناة السويس لإقامة مسجد للعاملين في الشركة. فقد كان ذلك أمرا روتينيا في إطار ما يسمى بالمسئولية الاجتماعية للشركات، وقام فرعها الفلسطيني (حركة حماس) باستكمال مهمة المقاومة حتى الآن، ولذلك فقد كان الكيان الصهيوني أحد الرعاة الرئيسيين للانقلاب على الرئيس مرسي في 2013، ولا يزال هذا الكيان هو الراعي الأكبر والأهم لنظام السيسي في مصر حتى الآن.

ومما يحسب لجماعة الإخوان أنها جنبت مصر الانزلاق إلى حرب أهلية عقب وقوع انقلاب تموز/ يوليو 2013، حيث صدح مرشدها الدكتور محمد بديع بشعار "سلميتنا أقوى من الرصاص"، ورغم ما تعرض له هذا الشعار من سخرية من البعض، ورغم ضغوط البعض سواء من داخل الجماعة أو من بعض الحلفاء لاستخدام السلاح في مواجهة السلطة، إلا أن الجماعة تصدت بحزم لذلك، ما عرضها لأزمة داخلية لا تزال تعاني آثارها، لكن هذا الحزم الذي أنقذ مصر من الحرب الأهلية أنقذ الجماعة أيضا من التصنيف الإرهابي الذي دفعت لأجله مليارات الدولارات للمملكة المتحدة و للولايات المتحدة.

لم يكن تصدي الإخوان لمسار العنف عقب الانقلاب هو الأول من نوعه، فقد سبقه تحرك لمواجهة ظاهرة التكفير والتي كان يصاحبها بطبيعة الحال العنف في الستينات وداخل أقبية السجون، فأصدر قادتها كتابهم المشهور "دعاة لا قضاة"، وكتبا أخرى لاحقا، وقام دعاتها الكبار أمثال الشيخ القرضاوي والغزالي وسيد سابق وغيرهم بالرد على دعاة التكفير في السبعينات وحتى الثمانينات، ومع ذلك تواصل الأذرع الإعلامية للنظم المستبدة في وصم الإخوان بالعنف بهدف تشويه صورتهم، وصنع حواجز بينهم وبين الشعوب.

يقودنا هذا الأمر إلى سؤال: هل كان الصدام مع الأنظمة المتتالية في مصر وفي دول أخرى حتميا؟ والإجابة أن هذا الصدام يتم عادة حين تشعر الأنظمة القمعية بخطر كيان أو تنظيم أيا كان لونه السياسي، فقد وقع صدام النظام الملكي مع الوفد والشيوعيين أيضا، وتكرر الأمر بين النظام الناصري وكلا من الوفد والشيوعيين أيضا إضافة إلى الإخوان، ووقع الصدام بين الرئيس السادات والشيوعيين في السبعينات، ومع تنظمي الجماعة الإسلامية والجهاد، والذي انتهى بمقتله، ثم استمر الصدام بين نظام مبارك والجماعة الإسلامية حتى أعلنت الجماعة تراجعها عن العنف، وبالتالي لم يكن الصدام سمة مميزة للإخوان فقط، ولكن لأنها جماعة كبيرة، وقديمة فقد كان الصدام يأخذ شكلا كبيرا، ودعاية أكبر.
تسجيل تلك النجاحات للجماعة عبر تاريخها لا يعني براءتها من أي نقيصة، فهي تجمع بشري، تخطئ وتصيب، وقد وقعت الجماعة في أخطاء سواء في عهد مؤسسها أو بعد وفاته

تسجيل تلك النجاحات للجماعة عبر تاريخها لا يعني براءتها من أي نقيصة، فهي تجمع بشري، تخطئ وتصيب، وقد وقعت الجماعة في أخطاء سواء في عهد مؤسسها أو بعد وفاته، وقد اعتذر الإمام البنا بنفسه عن اغتيال النقراشي وأحمد ماهر، ووصف من ارتكبوا الجريمة بأنهم "ليسو إخوانا وليسو مسلمين". وفي أزمة 1954 لم تتصرف الجماعة بالحكمة التي تجنبها الكارثة، وهي بالمحصلة تتحمل بعض الأعمال المسلحة التي ارتكبها بعض أعضائها حتى لو تم ذلك بدون علم القيادة أو إذنها.

وفي النصف الثاني من السبعينات حيث كانت العلاقة مع السادات ودية لم تغتنم الجماعة تلك الفرصة للعمل القانوني، رغم أن السادات عرض عليها ذلك وإن كان تحت سقف منخفض. كما أن الجماعة تأخرت كثيرا في محاولة تأسيس حزب سياسي خاصة حين كان لها 88 نائبا في البرلمان، وتأخرت أكثر في امتلاك وسائل إعلامية مؤثرة خارج مصر مع ظهور الفضائيات الخاصة، وظل أداء منابرها الإعلامية هو الأضعف حتى بعد وصولها إلى الحكم، وبعد الانقلاب عليها، وأخفقت الجماعة في صناعة تحالفات قوية، وفي حسن إدارة المشهد السياسي بعد الثورة وهو ما سهل الانقلاب عليها لاحقا.

مشروع الإخوان هو مشروع بشري، يخطئ ويصيب، وتجري عليه سنن الله في الكون، ويحتاج لتطوير نفسه دوما بما يواكب التطورات والتحديات المستجدة، فمن لا يتجدد يتبدد، وقد أكد الإمام البنا رحمه الله قبيل استشهاده، وبعد أن تم حل الجماعة وحبس قياداتها واقتحام دورها أنه لو عاد به الزمن لعاد بالإخوان إلى عهد المأثورات (أي إلى التربية فقط)، كما أن الجماعة خاضت تجربة المراجعات في سجون الستينات في مواجهة انتشار ظاهرة التكفير، وعادت إليها مرة أخرى في منتصف التسعينات لتعلن رؤى جديدة في قضايا التعددية الحزبية والمرأة والأقباط.. الخ، بعضها مثل استدراكا على فكر الإمام المؤسس، وهي بحاجة اليوم لمراجعة وتقييم سياساتها ومواقفها خصوصا منذ الانقلاب العسكري، حيث أن عددا كبيرا من قادة هذه المرحلة متاحون خارج السجون بل خارج مصر. إن مثل هذه المراجعة والتقويم ستمنح الجماعة فرصة لتطوير أدائها وتعديل بعض المسارات التي يثبت خطؤها، وستعيد الجماعة إلى مكانها اللائق والذي ينتظره أبناؤها واصدقاؤها وعموم الشعب.

twitter.com/kotbelaraby