تحاول فرنسا تقديم ما أقدم عليه رئيسها قبل أيام من استقبال عدد من أحفاد المحامي الجزائري علي بومنجل واعترافه أمامهم بمسؤولية الجيش الفرنسي عن قتله بعد إصرار رسمي فرنسي على رواية انتحاره لمدة دامت ما يقارب سبعة عقود كاملة، وكأنه فتح مبين يبيض الصفحة السوداء للتاريخ الاستعماري الفرنسي أينما وصلت جحافل جيوشه وارتكبت المجازر والمذابح في حق السكان الأصليين العزل والمقاومين على حد سواء.
ماكرون الذي سبق له الاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن قتل عالم الرياضيات موريس أودان، الذي ناضل لتحرير الجزائر، بعد تعرضه للتعذيب بالرغم من اعتباره الأمر "فعلا منفردا قام به البعض"، يتصرف مع الجرائم الاستعمارية الفرنسية وكأنها مسائل عائلية تكفي زيارة زوجة أودان وتقديم اعتذار الدولة لها، أو استقبال أحفاد بومنجل للتغطية على بشاعتها باعتبارها سياسة دولة ممنهجة مورست في كل أرجاء المستعمرات الفرنسية وخلفت ملايين الضحايا اعتقالا وتعذيبا وإزهاقا للأرواح.
علي بومنجل محام جزائري لامع ذاع صيته على المستويين المحلي والدولي، رفيقا للمحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجين، في الدفاع عن الثوار الجزائريين الذين كان واحدا منهم. بعد اعتقاله من طرف سلطات الاستعمار الفرنسي سنة 1957، تم رميه، أسابيع بعد ذلك، من أعلى عمارة لتقيد وفاته انتحارا في الدفاتر الفرنسية المليئة بالأراجيف والأكاذيب.
أما موريس أودان فهو مثقف يساري فرنسي انضم للثورة الجزائرية قبل أن تختطفه قوات المظليين الفرنسيين من بيته في العاصمة الجزائرية، في نفس سنة اغتيال بومنجل، لتزعم بعدها تمكنه من الفرار، أثناء نقله من معتقل إلى آخر، بهدف التنصل من المسؤولية عن اختفائه القسري الذي يعني اغتياله والتخلص من جثته.
ولأن الحقيقة كان لا بد لها أن تظهر، فقد جاءت مذكرات مجرم الحرب بول أوساريس في العام 2000 لتزيل النقاب عن الرواية الحقيقية التي ظلت سرا من أسرار الدولة الفرنسية وتفضح همجية وإجرام جيش بلاد "الأنوار". الحقيقة، لمن يريد التدبر، لا يمكن إخفاؤها ولو طال الزمن أو تدخلت الحسابات السياسية والمقايضات وانتصرت المصالح على المبادئ، فهي إلى ظهور مهما طال الزمن أو أخفيت الأدلة وجثث المقتولين في غياهب السجون أو مراكز الاعتقال أو أروقة السفارات.
أما شعارات "كلنا... القاتل" فلن تنفع صاحبها أمام عدالة دولية لابد لها أن تنصر أو مساومات وابتزازات تجعل الحكم مجرد جمرة مشتعلة بين أيدي الطامح إليه بما لها من امتدادات لصورة البلد وحقوق المواطنين في الاستفادة من ثروات البلاد بدل إهدارها في حملات تحسين صورة خُدشت حتى قيام الساعة وبدء الحساب الإلهي.
إن كان ايمانويل ماكرون قد اعتبر الجرائم المرتكبة بالجزائر، قبل سنوات، "جريمة ضد الإنسانية" بل قارنها بـ"المحرقة النازية" واعتراف الرئيس الأسبق جاك شيراك بمسؤولية الدولة الفرنسية عن ترحيل اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فإنه قد تعلم الدرس من ردود فعل حماة "الذاكرة الاستعمارية الفرنسية"، فانبرى ينادي بعدم الاعتذار عن الجرائم الاستعمارية والاكتفاء بمبادرات رمزية لتخليدها.
ممارسة التعذيب حتى الموت من المحظورات في الرواية الرسمية الفرنسية كما هو أيضا من المحظورات في روايتنا المعاصرة في الدول العربية في مواجهة المعارضين والمشاركين في الحراكات المنتشرة هنا أو هناك، فـ "الحراك الأصيل" استجابت له الدولة قبل أن يتم تدنيسه بأصحاب الأجندات الخارجية والخونة المندسين. المناداة بحفظ الذاكرة وعدم التخلي عنها فلن يكون مبررا لدوام سيطرة الأنظمة القمعية على رقاب البلاد والعباد ورهن مناقشة الحاضر والمستقبل والحق في المساهمة في بنائهما ورسم معالمهما. فرنسا لا تريد للشعوب أن تأخذ زمام المبادرة ولأجل ذلك تبدي الدعم اللامشروط للطغاة وتفرش لهم السجاد الأحمر وتوشحهم بأوسمة "الشرف" وإن اضطرت لفعل ذلك على استحياء.
الجرائم الاستعمارية الفرنسية ليست سرا مكنونا أو دعاية أو مجرد استنتاج مبني على الشك، بل هي حقائق ساطعة لا تحجبها ادعاءات كتبة تاريخ "المنتصرين" ولا أيديولوجيا الإنكار اليمينية الغالبة على التاريخ الرسمي. وإن كان ايمانويل ماكرون قد اعتبر الجرائم المرتكبة بالجزائر، قبل سنوات، "جريمة ضد الإنسانية" بل قارنها بـ"المحرقة النازية" واعتراف الرئيس الأسبق جاك شيراك بمسؤولية الدولة الفرنسية عن ترحيل اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فإنه قد تعلم الدرس من ردود فعل حماة "الذاكرة الاستعمارية الفرنسية"، فانبرى ينادي بعدم الاعتذار عن الجرائم الاستعمارية والاكتفاء بمبادرات رمزية لتخليدها.
لقد كان حديث ماكرون عن المحرقة كافيا ليثير عليه مدافع اليمين الفرنسي وجبن وسكوت اليسار عن دعمه، فاعتبر كلامه "أمرا فاحشا" و"وقاحة" و"إساءة مزدوجة للجنود الفرنسيين الذين قاتلوا في شمال افريقيا وأضحوا بسب تلك التصريحات يشبهون جلادين من أبشع صنف". أما ماكرون نفسه فوصف على أنه "في قمة الانحراف".
الازدواجية في تقييم حياة البشر وتسليعها حسب اللون والعرق والديانة ليستأمرا طارئا على الغرب بل هي ممارسة ممتدة في التاريخ والجغرافيا وأنصارها اليوم بالملايين. أما شعارات حقوق الإنسان والمساواة والإخاء فمجرد خرق بالية لرفع الحرج حينا والابتزاز أحايين أخرى. فرنسا، وهي ترفض الاعتذار عن حرب الجزائر وبقية المستعمرات، إنما تؤكد لمن لا يزال بحاجة إلى تأكيد نظرتها الاستعلائية في مواجهة المستعمرات السابقة بل استمرارية تبنيها للعنف سبيلا لتكريس هيمنتها أو الحفاظ على ما تبقى منها. ولعل في حربها المتواصلة في مالي واستعراضها لعضلات، تعتقدها قوية لكنها أوهن ما تكون عن كسر عزيمة أصحاب الأرض، وهو ما أثبته حجم الفشل والإذلال الذي نالتهما هناك لدرجة الاستنجاد بالأوربيين والأمريكان ودول الجوار لإنقاذها من مستنقع الساحل بدعوى مواجهة الإرهاب.
التاريخ في حاجة لغربلة الرواية الرسمية التي طالما قدمت فرنسا رسولا للحضارة. لكن الأمر لن يتأتى بتقارير من نوعية تقرير بينيامين ستورا عن حرب الجزائر ولا اعتذارات ماكرون "العائلية" التي لا يفهم مغزاها الحقيقي، أو الاستنجاد بتصريحات مسؤولين في أعلى هرم دول شمال افريقيا لتبرير جرائم فرنسا الاستعمارية ببلدانهم واعتبار الأمر مجرد "حماية" لا احتلالا للأرض والعرض، واستغلالا للثروات لا يزال مستمرا، أو إمعانا في تزوير الذاكرة على جثث من ناضلوا يوما ضدها واعتقدوا أن الأبناء والأحفاد على الدرب سيسيرون.
ايمانويل ماكرون، ومعه الدولة الفرنسية، استكثرا على عائلة علي بومنجل اعتذارا، كما فعلت مع أرملة موريس أودان، واكتفيا، حسب بيان الايليزيه، بإخبارهم ب"الحقيقة" التي جاهدا على إخفائها سبعة عقود. بومنجل وأودان اثنان من لائحة طويلة من الضحايا والمختفين لا تزال قصصهم الحقيقية حبيسة مزاج الدولة الفرنسية وأجهزتها.
أما الإجرام الفرنسي فلا يزال أمرا واقعا يسعى مقترفوه إلى التغطية عليه ولو استدعى الأمر الضغط على محققين وإغرائهم بالمناصب كما فعل نيكولا ساركوزي لإخفاء أدلة تمويل العقيد معمر القذافي لحملته وحوكم بسبب ذلك بثلاث سنوات قبل أيام. ساركوزي كان يعتقد أن قتل القذافي وتصوير الأمر على إنه من فعل الليبيين في بالوعة صرف صحي، كفيل بأن يغطي على علاقاته المشبوهة بالعقيد. الرئيس الفرنسي الأسبق موعود بمحاكمة ثانية بعد أيام بتهمة تكوين "عصابة أشرار".
جرائم الحرب لم تكن يوما شأنا عائليا ينتهي بجبر الخواطر والتقاط الصور المخلدة وإصدار البيانات.