بعد شد وجذب وتصعيد، ورسائل
متبادلة عبر الإعلام ووراء الكواليس على مدى خمسة أشهر بين طهران وواشنطن، سواء
بعد الإعلان عن فوز الرئيس الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الأمريكية أو بعد
تشكيل الإدارة الأمريكية الجديدة وإلى اليوم، انطلقت أخيرا المباحثات النووية غير
المباشرة بين
إيران والولايات المتحدة الأمريكية في فيينا الثلاثاء الماضي، على أن
تستكمل الأربعاء المقبل الجولة الثانية وهي فعليا الجولة الثالثة، حيث لم تشارك
واشنطن في الأولى والتي انعقدت عبر الفضاء الافتراضي بين أطراف
الاتفاق النووي
وإيران الجمعة الماضية.
خلال الجولة الثانية، اتفقت مختلف الأطراف على
تشكيل فريقي عمل؛ الأول لدراسة
العقوبات الأمريكية التي يجب أن تُرفع، والثاني
لدراسة الالتزامات النووية التي على إيران العودة إلى تنفيذها. يتكون فريقا العمل
من خبراء الدول الأعضاء المتبقين في الاتفاق النووي، وهما ينكبّان على العمل خلال
هذه الأيام في جولات تفاوض بين إيران والولايات المتحدة طرفي الاتفاق النووي كل
على حدة، في ما يسمى بالتفاوض غير المباشر، ذلك أن طهران ترفض حتى اللحظة أي حوار
مباشر مع الجانب الأمريكي، ثم ترفع مجموعتا العمل تقاريرهما إلى اللجنة المشتركة
لمناقشتها.
تجري هذه
المفاوضات تحت ضغط معطيات وعوامل
عدة، أمريكيا وإيرانيا. فمن جهة، تستمر العقوبات الأمريكية الخانقة التي تفاقم
الوضع المعيشي في إيران. فإلى جانب ضعف السياسات الاقتصادية الداخلية، والتي تظهر
مفاعيلها يوما بعد يوم بشكل أقسى من اليوم السابق، مما يضع الحكومة الإيرانية أمام
حالة احتقان داخلي بسبب التدهور المستمر للحالة الاقتصادية، فإن البلاد مقبلة على
أحد أهم استحقاقاتها الداخلية، وهي الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها يوم 18
حزيران/ يونيو المقبل. إلا أن هذه العقوبات هي آخر ما في جعبة الإدارة الأمريكية،
خاصة مع استبعاد احتمالية اندلاع أي مواجهة عسكرية بين الطرفين، أقله في المستقبل
القريب.
لكن الجعبة الإيرانية ما زالت تبدو مليئة
بالسهام والمفاجآت. فالخطوات النووية مستمرة بشكل مطرد، وتقترب إيران يوما بعد يوم
من عتبة "الاختراق النووي" مع التهديد بتصعيد هذه الخطوات إن لم يحصل
انفراج برفع العقوبات عنها، علما أن هناك بنودا في قانون "الإجراء الاستراتيجي
لإلغاء العقوبات" لم يحن موعد تنفيذها بعد، مثل إنشاء مصنع "اليورانيوم
المعدني" ذي الاستخدام المزدوج، مدنيا وعسكريا، رغم تأكيد إيران المستمر على
سلميته، إلا أن الخطوة ستثير مخاوف معظم الغربيين، فضلا عن التلويح برفع نسبة
تخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة أيضا واتخاذ خطوات نووية أخرى، بالإضافة إلى
أنها اتخذت إجراءات نووية لافتة السبت (10 نيسان/ أبريل)، مثل العمل على اختبار
الجيل الأكثر تطورا من أجهزة الطرد المركزي IR9 وتشغيل كميات أخرى من
الجيلين الخامس والسادس، وهي خطوات تبعث رسائل في اتجاهات عدة، لعل أولها أن طهران
غير راضية عن نتائج مباحثات فيينا. ومن خلال هذه الإجراءات تسعى إلى تعزيز موقفها
التفاوضي وإرسال رسالة تحذيرية للطرفين الأمريكي والأوروبي بأنها ماضية في تطوير
برنامجها النووي إن لم ترفع العقوبات.
حتى اللحظة، تتحدث جميع الأطراف بإيجابية عن المباحثات،
تحديدا الجانبان الإيراني والأمريكي، مؤكدين أنها مباحثات "بناءة"، إلا
أن الحقيقة لا تزال "أسمع جعجعة ولا أرى طحينا".. فعلى أرض الواقع لا
يوجد أي تطور ملموس يمكن البناء عليه، سواء في ما يتعلق برفع العقوبات الأمريكية
أو بالخطوات النووية الإيرانية، فكلاهما مستمر وبدون توقف. في المقابل، هناك بوادر
حسن نية خجولة تلوح في الأفق، ترتبط بأنباء عن إفراج كوريا الجنوبية عن أرصدة
إيرانية مجمدة، ليس واضحا بعد كم من هذه الأرصدة والمقدرة بنحو سبعة مليارات دولار
تم أو سيتم الإفراج عنها.
وعلى ما يبدو، فإن للإفراج مؤخرا عن ناقلة
النفط الكورية الجنوبية المحتجزة في طهران منذ كانون الثاني/ يناير الماضي، علاقة
بتحرير هذه الأرصدة، فضلا عن أن الأمر له صلة أيضا بما يجري وراء كواليس السياسة
في فيينا. فعلى الأغلب أن الإفراج عن هذه الأرصدة سيأتي بضوء أخضر أو موافقة
أمريكية، ذلك أن الإدارة الأمريكية الراهنة كانت ترفض حتى وقت قريب السماح لسيؤول
بإعادة هذه الأرصدة التي هي بالأساس عوائد صادرات النفط الإيرانية، واحتجزت بسبب
العقوبات والضغوط الأمريكية، علما بأن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قال
صراحة قبل أسبوعين إن واشنطن ترفض الإفراج عن هذه الأموال. لكن تلقي طهران وعودا
قطعية بالإفراج عن هذه الأموال له معنى واحد، وهو أن سيؤول حصلت فعليا على
الموافقة الأمريكية. وتزامن ذلك مع زيارة رئيس الوزراء الكوري الجنوبي طهران الأحد.
النتيجة الوحيدة لماراثون المباحثات في فيينا
هي الاتفاق على استكمالها، وعلى الرغم من التفاؤل الذي تبديه مختلف الأطراف، إلا
أن هناك عقبات كبيرة تعتريها، ما من شأنه أن يفجر الوضع عند أي لحظة. فرغم المرونة
التي أبداها الجانب الأمريكي لإلغاء ما أسماها "العقوبات غير المتسقة"
مع الاتفاق النووي، إلا أنه عنوان فضفاض لا يحقق المطلب الإيراني الرئيس برفع فعلي
لجميع أنواع العقوبات. فهناك عقوبات غير منضوية ضمن الاتفاق لكنها فرضت تحت طائلة
مكافحة "الإرهاب"، وليس سهلا على إدارة بايدن إلغاؤها دون مراجعة
الكونغرس والحصول على موافقتها، ناهيك عن الابتزاز المباشر للحليف "الإسرائيلي"
عبر رسائل التهديد المستمرة من نتنياهو للإدارة الأمريكية بأنه سيستمر في إجراءاته
الرادعة لإيران بشكل أحادي. كما أنه وحسب التصريحات الإيرانية فإن أطراف المباحثات
في فيينا تعمل على إعداد قائمة بهذه العقوبات، على الرغم من أن القائمة واضحة.
ولأن الشيطان يكمن في التفاصيل، لا يستبعد أن
يفجر هذا الشيطان خلال المستقبل القريب المباحثات برمتها، خاصة أن المواقف لا تزال
متباعدة تماما، على الرغم من تأكيد الجميع على ضرورة إحياء الاتفاق النووي. فبينما
إيران تطالب بضرورة رفع جميع العقوبات بكافة أنواعها مرة واحدة وبالكامل، مقابل
التخلي عن جميع إجراءاتها النووية الضاغطة كتخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة،
نجد أن أمريكا غير مستعدة لخسارة ورقة العقوبات بالكامل قبل الحصول على تنازلات من
إيران في سياساتها الإقليمية وبرنامجها الصاروخي، اللذين تعتبرهما طهران
"خطوطا حمراء" لا ينبغي الاقتراب منها.