ينساق الكثيرون إلى النظر
لانتخابات الرئاسة الإيرانية بوصفها انتخابات حقيقية، و يكرر الجميع سردية الصراع
بين المحافظين والإصلاحيين في ايران باعتبارها مظهرا لهذه الحقيقة لما يمكن أن
تنتجه تلك الانتخابات من تغييرات في السياسة الإيرانية، الخارجية على وجه التحديد،
والواقع أنهم يغفلون حقيقة جوهرية هي أن انتخابات الرئاسة الإيرانية قد حسم مجلس
صيانة الدستور نتائجها مسبقا، وأن هذه النتائج محكومة بمصالح النظام نفسه، بعيدا
عن إرادة الجمهور، وأن هذه النتائج لا تغير من حقيقة أن دور رئيس الجمهورية يبقى
محدودا إلى حد بعيد، تحديدا فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية!
أعطى الدستور الإيراني لعام 1979 لمجلس صيانة
الدستور صلاحية الإشراف على انتخابات رئيس الجمهورية (المادة 99) وهو مجلس يتشكل
من 12 عضوا، 6 منهم من الفقهاء العدول يختارهم القائد/ الولي الفقيه، و6 آخرين من
ذوي الاختصاص في مختلف فروع القانون يختارهم رئيس السلطة القضائية، وينتخبهم مجلس
الشورى، يعني ذلك أن مجلس صيانة الدستور الذي أشرف على الانتخابات الأخيرة (التي
جرت يوم 18 حزيران/ يونيو الجاري) قد ضم 6 أعضاء اختارهم الخامنئي نفسه، و3 أعضاء
اختارهم إبراهيم رئيسي نفسه في آخر تعديل جرى في تموز/ يوليو 2019، بعد تولي رئيسي
لمنصب رئيس السلطة القضائية في آذار/ مارس 2019!
منذ أول انتخابات للرئاسة الإيرانية جرت في
عام 1980 بعد إقرار الدستور الإيراني، كان «الإقصاء» أداة حاسمة ومنهجية في تحديد
سيناريو انتخابات الرئاسة الإيرانية، ومراجعة وقائع الانتخابات الرئاسية الثلاث
عشرة التي جرت بين عامي 1980 و 2021 تكشف عن تحكم مجلس صيانة الدستور في عملية
الترشيح بشكل غير مفهوم في أحيان كثيرة، بسبب «إقصاء» مرشحين يعدون من أعمدة نظام
الحكم الإسلامي في ايران، وهو إقصاء يحظى بدعم القائد/ الولي الفقيه، كما في حال
الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، الذي شغل منصب رئيس الجمهورية دورتين رئاسيتين ما
بين عامي 1989 ـ 1997، ثم ترشح مرة أخرى للانتخابات عام 2005، لكنه خسرها في الدور
الثاني للانتخابات أمام منافسه محمود أحمدي نجاد، والذي منعه مجلس صيانة الدستور
من الترشح في انتخابات عام 2013 في الوقت الذي كان يشغل فيه منصب رئيس مجمع تشخيص
مصلحة النظام والذي يمثل السلطة التي تنتخب «القائد» بموجب الدستور الإيراني! وقد
كان واضحا حينها أن ثمة قرارا «قد اتخذ» بمنع ترشح الإصلاحيين الذين يملكون حظوظا
كبيرة للفوز بأي ثمن، لاسيما بعد الأحداث التي أعقبت إعلان نتائج الانتخابات
الرئاسية في العام 2009 والتي فاز بها أحمدي نجاد بولاية ثانية أمام مير حسين
موسوي، والتي سميت على نطاق واسع بالحركة الخضراء. ثم منع محمد أحمدي نجاد، الذي
كان رئيسا للجمهورية في دورتين (2005 ـ 2013) من الترشح في انتخابات عام 2017 و
2021!
ومراجعة وقائع الانتخابات
تكشف فوز الغالبية العظمى من المرشحين من الجولة الأولى للانتخابات، وبفارق كبير
عن أقرب المنافسين، باستثناء ربما مرة واحدة في انتخابات 2005 التي جرت فيها جولة
ثانية وتنافس فيها هاشمي رفسنجاني ومحمد أحمدي نجاد؛ ففي الجولة الأولى لم يستطع
هاشمي رفسنجاني، بسبب المنافسة القوية، الحصول سوى على 21.13٪ من الأصوات في مقابل
19.43٪ لمنافسه الأقرب محمد أحمدي نجاد، ولكن الجولة الثانية قلبت النتيجة،
واستطاع أحمدي نجاد الفوز بما نسبته 61.69٪ من الأصوات، مقابل 35.93٪ من الأصوات
لرفسنجاني.
لا يمكن وصف عملية الانتخابات الرئاسة
الإيرانية بأنها تحدث من خلال تنافس حقيقي بين مترشحين مختلفين في توجهاتهم، و
تغيير الوجوه في انتخابات 1980، و 1981، و1981 مثالا لا تعني أيضا أن المنافسة
كانت شديدة والفرص متكافئة، ولك ظروفا استثنائية فرضت ذلك؛ فالأولى جرت بعد هروب
رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر من ايران، والثانية جرت بعد اغتيال رئيس
الجمهورية محمد علي رجائي) أما الانتخابات في سنوات 1985، و1989، و1993، و1997،
و2001، و2009، و2013، و2017، و2021 فقد فاز رئيس الجمهورية الإيراني من الدورة
الأولى بالنسب العالية الآتية: 75.6٪، 88.51٪، 95٪، 87.9٪، 94٪، 63.2٪،69.1٪،
76.9٪، 62.63٪، 50.71٪، 57.14٪، 62٪ على التوالي.
وكانت النتيجة الأقرب لنتيجة الفائز الأول في
انتخابات العام 2017 هي ما حصل عليه المرشح إبراهيم رئيسي على 39.71٪ من الأصوات!
وفي انتخابات العام 2009 عندما حصل المرشح مير حسين موسوي على 33.75٪ من الأصوات.
تشكلت سردية الصراع بين المحافظين والإصلاحيين
بداية من عام 1993، عندما حدث أول تنافس نسبي بين هاشمي رفسنجاني المحسوب على
الإصلاحيين، والمرشح أحمد توكلي الذي كان محسوبا على المحافظين. وبدأت هذه السردية
تأخذ حيزا أكبر بداية من انتخابات عام 1997 التي فاز بها الإصلاحي محمد خاتمي على
حساب المحافظ أكبر ناطق نوري، لتتحول، مع انتخابات 2009 والتي فاز بها المحافظ
محمد احمدي نجاد على حساب الإصلاحي مير حسين موسوي، إلى مواجهة حقيقية انتقلت إلى
الشارع فيما عرف بالحركة الخضراء احتجاجا على نتائج الانتخابات. الأمر الذي فرض
على الخامنئي رفقة مجلس صيانة الدستور مزيدا من الضبط للانتخابات، ولم يكن فوز
الإصلاحي حسن روحاني في العام 2013 إلا نتيجة مباشرة لرغبة النظام في التوصل إلى
اتفاق نووي بعد تشديد العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات
المتحدة والاتحاد الأوروبي بين عامي 2010 و 2012، تحديدا ضد القطاع المالي
والمصرفي الإيراني، وحظر شراء ونقل النفط الإيراني وقرار تجميد أصول البنك المركزي
الإيراني الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي، مما أثر على الاقتصاد الإيراني تأثيرا
بليغا، وبالتالي كان الجميع في حاجة إلى رجل قادر على التوصّل إلى اتفاق للتخلص من
هذا المأزق. ولكن الوقائع أثبتت أن هذا الصراع، ليس له أي تأثير حقيقي في صياغة
السياسات العامة للدولة الإيرانية، تحديدا في ملف العلاقات الخارجية، بسبب هيمنة
القائد/ الولي الفقيه الكاملة على هذه السياسات؛ فبموجب المادة 110 من الدستور
الإيراني، فان رسم السياسات العامة هي من صلاحيات القائد الحصرية بالتشاور مع مجمع
تشخيص مصلحة النظام فضلا عن الإشراف على حسن تنفيذها!
أخيرا لم يكن «اختيار» إبراهيم رئيسي،
والاستفتاء عليه وليس انتخابه، بعيدا عن ما تقدم من توصيف للانتخابات الإيرانية
وعن هاجس الإيرانيين تجاه خلافة الخامنئي وتجاه الغضب الشعبي. صحيح أن مسألة
مفاوضات الملف النووي تعد استراتيجية بالنسبة لإيران، بسبب الوضع الاقتصادي الضاغط
والناتج عن العقوبات الأمريكية، لكن الهاجسين الأولين، كانا بالضرورة، حاسمين
بالنسبة لخامنئي ولمجلس صيانة الدستور في إيصال رئيسي إلى منصبه.
(عن صحيفة القدس العربي)