ثمة سؤال مفصلي مطروح على طاولة إسلاميي العدالة والتنمية بالمغرب، هو سؤال الأفق والمستقبل، والخيارات المطروحة أمامهم بعد النكسة الانتخابية، وهل يستعيد الحزب موقعه السياسي؟ أم أن مشروعه السياسي سيتحلل؟ وبغض النظر عن النقاش الداخلي المخترق للحزب، والذي يتخندق وراء تفسيرين: تدخل في العملية الانتخابية للانتقام من الحزب مقابل فشل القيادة في تدبير المرحلة السياسية، فإن سؤال الأفق، عندهما معا، يطرح «القيادة الجديدة» بمن في ذلك الذين كانوا في القيادة الحالية.
ثمة تقييم أولي داخلي مفاده أن هزيمة الحزب الانتخابية لم تكن من جنس الهزائم التي تنسب لأعطاب الماكينة الانتخابية، أو لمآزق الخطاب الانتخابي، بل إنها وضعت مشروعه السياسي محل تساؤل، وجعلت أطروحته السياسية، وعلاقته بالدولة، وعلاقته بالمجتمع، ورؤيته الفكرية، وعلاقته بالحركة الدعوية، وشكل تعاطي مع المرجعية والهوية، محل نقاش ومدارسة. بعض القيادات تحاول أن تغطي عن هذه الأسئلة المحورية بلفت الانتباه إلى الاعتبار الموضوعي، أي وجود تدخل في العملية الانتخابية.
الأمانة العامة للحزب كانت سباقة لهذا التفسير، ولو أنها صاغته بلغة ناعمة، لتدفع بالمجلس الوطني لنقل هذه اللغة إلى طعن سياسي.
الداخل الحزبي، سواء الذين يؤمنون بوجود تدخل فارق للإدارة الترابية في العملية الانتخابية أو الذين يرون أن هذا التدخل كان موجودا في كل المحطات وأخذ بعض الخصوصية في هذا الاستحقاق. كل هؤلاء، لا يؤمنون بمسلك القيادة التبريري، ويرون أن مسؤولية الفشل تقع عليها، وأن ضعفها السياسي وسقفها الواطئ هو الذي جعل الإدارة الترابية تجرؤ على رفع مستوى تدخلها.
واقع الصدمة لم يوفر المناخ الهادئ لبحث سؤال الأفق، فهناك اصطفاف ربما يعزز مزيدا من الانقسام، إذا لم تستطع الخطوات التنظيمية المعلنة تأطيره وتدبيره.
بلاغ الأمانة العامة، دعا المجلس الوطني للانعقاد، وأعطى الانطباع بأن الحل سيكون تنظيميا، فقيادات العدالة والتنمية، كانت دائما تدبر أزماتها بالجواب التنظيمي، ودعوات الحوار الداخلي الممأسس التي حصلت في مسار الحزب مرتين، لم تكن الأرضية التي وفقها صنعت القيادة.
في انتخابات 2007 التي دبرها الدكتور سعد الدين العثماني، حافظ الحزب على مقاعده، لكنه تعرض لنكسة بسبب فقده حوالي 500 ألف صوت، وكان من آثار ذلك الدعوة إلى حوار داخلي، أعقبه عقد المؤتمر السادس الذي جاء بعبد الإله بن كيران للقيادة.
الحوار الداخلي الثاني، جاء عقب الانقسام الذي حصل في الحزب بعد إعفاء عبد الإله بن كيران وتعيين سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة، وانزياحه عن شروط الأمانة العامة في تدبير المفاوضات، وقبوله دخول الاتحاد الاشتراكي للحكومة.
البعض يعتقد أن أطروحة النضال الديمقراطي التي أفرزها الحوار الداخلي الأول، هي التي جاءت بعبد الإله بن كيران، لكن الواقع يؤكد بأن النكسة الانتخابية هي التي جاءت به، وأن الأطروحات لا معنى لها في مسار العدالة والتنمية إن لم تكن القيادة مؤمنة بمفرداتها.
كان بين يدي الأمانة العامة خيار عقد المجلس الوطني السبت 11 سبتمبر، لكنها اختارت موعد 18 سبتمبر، ربما لتهدئة الداخل الحزبي الغاضب، وربما لدوافع أخرى. فالزمن يلعب دورا مهما لجس النبض، والقيام بتحركات الساعة الأخيرة، للتوجيه في هذا الاتجاه أو ذاك، لاسيما وأن برلمان الحزب ظل محكوما بالرؤية المحافظة طوال هذه الولاية. لكن مهما يكن، فإن المجلس الوطني القادم، لن يكون محطة تقييمية فاصلة، وأن السيناريو الأقصى فيه، هو تدافع أطروحتين، أطروحة تحميل المسؤولية للقيادة السياسية لإزاحتها. وأطروحة الإقناع بحصول إزاحة سلطوية ممنهجة، تفترض طرح رؤية وخيارات جديدة للتعاطي مع النسق السياسي.
ثمة سؤال مفصلي، هو سؤال الأفق والمستقبل، والخيارات المطروحة أمامهم بعد النكسة الانتخابية، وهل يستعيد الحزب موقعه السياسي؟ أم أن مشروعه السياسي سيتحلل؟
سيكون المجلس الوطني منصة للتنفيس والنقد، مع تطارح ثلاثة أفكار مهمة: فكرة تنتصر لعودة الزعيم، وفكرة تبرئ القيادة وتعمل على إعادتها أو إعادة بعضها، وفكرة ثالثة، تنتصر للأجيال، وتحاول الإقناع بأن جيل التأسيس استنفد أغراضه.
خط نقد للقيادة سيكون قويا ويدعو إلى تجديد القيادة.
ما يعزز ذلك أن بعض القيادات التي كانت في الأمانة العامة للحزب، في ولاية سعد الدين (2003-2008) هي التي أسقطته، وأصعدت عبد الإله بن كيران إلى القيادة.
الذين ينتصرون لعودة ابن كيران، يمتلكون حججا قوية، فهؤلاء يعتقدون أن ابن كيران سلم القيادة لهذه القيادة، والحزب في قمة عنفوانه السياسي (125 مقعدا) وهي اليوم ستسلم للقيادة الجديدة حزبا ضعيفا منقسما (13 مقعدا فقط) وأنها كانت دائما تتعامى عن تنبيهات ابن كيران، وأنه كان على مسافة من تدبيرها، ولم يكن شريكا في أي قرار سياسي تنسب إليه الهزيمة الانتخابية. هناك تخوف داخلي شديد من استمرار الانقسام وتعمقه، يمكن أن يتحول الصراع الداخلي إلى إفناء كلي للمشروع.
ثمة خمس فرص سيدفع بها خط النقد للإقناع بضرورة تجديد القيادة، والتفرغ لبناء الآلة الحزبية، أولها، أن الهزيمة ستوفر شروطا أفضل لوحدة الصف، بعد أن فشلت القيادة المستقيلة في أن تجعل من الحوار الداخلي، محطة للتصالح وتصحيح الخط. ثانيها، أن الحزب سيترك الحكومة، ويتفرغ كليا لبناء الآلة الحزبية. ثالثها، أن الهزيمة، ستوفر الشروط الأساسية للقطع مع مرحلة القيادة التاريخية. رابعها، أن خروج الحزب من مواقع التسيير، سيخلصه من المنتفعين وأصحاب الغنائم. خامسها، أن هذه الهزيمة، ستتيح الفرصة لإعادة النظر في المشروع الإصلاحي كله.
البعض يعتقد أن مرحلة بن كيران قد جاءت، وأنه كسب كل الأوراق للعودة القوية، وهزم القيادة الحالية، لكن، ثمة في المقابل، رأيا آخر، يرى أن تأمين شروط المصالحة، ربما تقتضي تراجع بن كيران إلى مواقع الإسناد والتوجيه.
ابن كيران يملك رمزية سياسية مهمة، ويملك قدرة وكاريزما لتأمين تماسك الحزب، لكن ثمن ذلك أن يضحي بجزء من القيادة السابقة، ويجعلها خارج الحزب أو يدفع بها إلى البحث عن خيارات أخرى للممارسة السياسة.
عبد العزيز رباح القيادي في العدالة والتنمية طالما أكد أنه مستعد أن يتعامل مع ابن كيران، لكن قناعة ابن كيران، أن استعادة الحزب للمبادرة لا يمكن أن تحصل في ظل وجود قيادات تفرط في قرارها المستقل.
هناك فكرة بدأت تتبلور مفادها، أن مهمة إصلاح الأداة الحزبية، منوطة في هذه المرحلة بتجميع الصف، وعدم إسناد أي قيادة لا تخدم هذا الهدف، وأن الشخص ليس هو المهم للخروج من مأزق، بل المهم هو أن يخرج الحزب من أزمته، وفي المرحلة العادية، يمكن له أن يختار الحزب قيادته الرمزية.
تقديري أن مهمة إصلاح الحزب، واستعادته للمبادرة، لن تحسم فيها خطوات تنظيمية في المدى القريب، ولا حتى إفراز قيادة جديدة، أو تبني أطروحة جديدة. مهمة بناء الحزب، تشترط كل ذلك، لكنها ستتطلب زمنا أبعد، لإعادة النظر في كل مفاصل المشروع، ومراجعة المواقف المرجعية والهوياتية والسياسية والحقوقية في سياق ممتد من الزمن، مع تقديم نقد ذاتي معلن.