كتب

الإسلام السياسي السني بالعراق.. الطموحات والواقع

الحزب الإسلامي تدرج من وحدة الأمة الإسلامية بأسرها إلى البحث عن وحدة العراق
الكتاب: 100 عام من الإسلام السياسي بالعراق ـ 2 ـ السنة
الكاتب: رشيد الخيّون
دار النشر: مركز المسبار للدراسات والبحوث، دبي ـ الإمارات العربية المتحدة
عدد الصفحات: 360 صفحة

يرصد رشيد الخيّون في هذا الكتاب الثّاني حول الإسلام السياسي بالعراق مختلف التنظيمات السنية منذ تشكلها في منتصف القرن الماضي حتى 2011، سنة تأليف الأثر وما عرفته من تحولات فكرية وتنظيمية. ولكثرة التفاصيل ولطبيعة ورقتنا نحاول أن نكتفي بما اصطلح عليه بـ "التيار الإخواني"، ولعلّ ذلك أن يقدّم صورة شاملة حول الإسلام السني بالعراق عامّة، فمختلف التيارات الإسلامية تتضاد معه في خلفياتها أو تتقاطع معه أو تنحدر منه وتتفرّع عنه. وإجمالا تمنحه بعدا اعتباريا وتشكّل هويتها بناء على موقفها منه.

1 ـ الإخوان المسلمون: أصل التّسمية وبداية النّشاط

يعود الباحث إلى الصلة بين الإسلام السّياسي وتسمية "الإخوان" في تاريخ الأحزاب والمذاهب الإسلامية. فيعود إلى تاريخ الإسلام المبكر، بداية من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إثر هجرة الرسول للمدينة والقول المنقول  عن النبي "تآخوا في الله أخوين أخوين"، ويذكّر بما عرف في القرن العاشر الميلادي بجماعة إخوان الصفاء. ويشير إلى السلفيين الأوائل في نجد؛ وهم الجماعة التي تشكلت منها صفوة جيش الملك عبد العزيز منذ 1913 والتي كانت تطلق على أنفسها "إخوان من أطاع الله". ولعلّ حسن البنّا قد استلهم من هذا التراث تسمية جماعته "الإخوان المسلمون"؛ فقد قال لمن اجتمع إليه عند تأسيس جماعته في 1928: "نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن إخوان مسلمون". ونشأ التنظيم العراقي امتدادا لتنظيم الإخوان في مصر.

وعلى خلاف النشاط السياسي الشيعي الذي تفاعل مع الثورة الدستورية منذ 1906 بفعل موقف المرجعية الشيعية من الدّستور وتعويلها على الإمام المهدي المنتظر في تخليص البلاد من الفساد، يكاد النشاط السّني يغيب في النّصف الأول من القرن العشرين. ويكاد يرتبط في بداياته بالقضية الفلسطينية في العشرية الرابعة منه؛ تأسيسا للجمعيات الدّاعمة أو توفيرا للدّعم بالعدد والعتاد، فكان ينصرف عن الشأن الدّاخلي، وهذا ما جعل التّنظيم ضعيفا قياسا بحضوره في بلدان أخرى. 

2 ـ بداية التنظيم الحزبي

يردّ رشيد الخيّون ظهور الأحزاب السّنية إلى التأثير المباشر لجماعة "الإخوان المسلمون" في مصر. فقد  دفع حسن البنّا إلى العراق بدعاة يحشدون الأتباع وجعلهم يدخلونها بصفتهم مدرسين، مما جهّز الأرضية للتنظيم الحزبي. وفي 1946 عاد الشيخ محمد محمود الصوّاف من مصر  "حاملا رسالة الإخوان المسلمين لتأسيس فرعهم العراقي". فترأس الوفود باسم "الإخوان المسلمون" في العراق" وخطب باسمهم، من ذلك كلمته بشأن عقد المؤتمر الإسلامي العام بدمشق 1948 الذي نشرته جريدة "السّجل" حينها. 

وينقل الباحث عن أثر "لقاء الأضداد.. حقائق وثائقية" للبلداوي تحوّلَ الدعوة إلى عزم راسخ على تشكيل فرع عراقي. فقد كان الصواف يواكب محاضرة للمصري محمد عبد الحميد أحمد، أحد دعاة البنا، اشتكى فيها من صعوبة تأسيس حركة للإخوان في العراق لتعدّد المذاهب ولطبيعة الشخصية العراقية التي تصعب قيادتها. فتعهّد بقوله؛ "إن العراق سيكون بعون الله معقلا حصينا لدعوة الإخوان المسلمين"، وانطلق من حينها في العمل الجمعياتي والنّشاط الطّلابي الذي يهدف إلى هذه الغاية، فكان للطلبة الإخوانيين وللإخوان عامة دور بارز في إسقاط معاهدة بروتسموث 1948 التي سعت إلى استبدال معاهدة حزيران 1930 الضابطة للوجود البريطاني في العراق، وهذه المعاهدة تعد ضربا معارضي الاحتلال وتأمينا للهيمنة البريطانية على العراق وعلى دول الإقليم، فقد كانت تفرض على العراقيين تسهيلات عسكرية في حال حدوث أي نزاع في إيران أو الخليج العربي. 

وانتهى الأمر بالصوّاف إلى تأسيس جمعية "الأخوة الإسلامية" التي حصلت على الإجازة عام 1951، بعد أن رفضت السلطات تسميته بجمعية "الإخوان المسلمون"، لما وجدت فيه من ارتباط بالنشاط الإسلامي السياسي في مصر. ولكن بعد أن أضحى لها تأثير ونفوذ حاصرت السلطات عملها وضيّقت عليها. وانتهت هذه المرحلة بسجن الصواف أولا، ثم مغادرته إلى سوريا فالمملكة العربية السعودية لاحقا. وتولىّ عبد الكريم زيدان قيادة الجماعة بعده. فكان بمنزلة المرشد الثاني لها.

3 ـ تأسيس الحزب الإسلامي في العراق 

في 1959 أمكن لقيادات الجمعية الإسلامية أن تؤسس "الحزب الإسلامي" ليجمّع أتباعها ويدفع بأسماء أخرى إلى القيادة غير معروفة لدى النّظام "ليقف أمام تيار الإلحاد والأحزاب السياسية العلمانية". فقد ضبطوا أهدافه ضمن وثيقة "الدستور". وأرادوا له أن "يرسم صورة دولة تقوم على مبادئ الشرع الإسلامي، وحكومة تستمدّ شرعيتها من المحافظة على هذه المبادئ والمفاهيم". وورد في المادة الثّانية من هذه الوثيقة "غاية الحزب تطبيق أحكام الإسلام تطبيقا كاملا لجميع شؤون الحياة وأمور الأفراد، ابتغاء مرضاة الله". وفيها فصّلوا مهام السلطات المختلفة وتصوّرهم لعمل أجهزة الدولة. 

ولكن وزارة الداخلية لم تجزه. وعلّلت رفضها بقانون الأحزاب الذي يشترط ألا يتعارض تأسيسها مع استقلال البلاد ووحدته ومع النّظام الجمهوري. ورأت في بعض مناهجه "أفكارا لا تتماشى مع العصر أو الشريعة الإسلامية السمحاء". واحترزت على بعض قيادييه لما لديهم من ارتباطات خارجية. ولكنّ محكمة التّمييز نقضت هذا القرار وحكمت بإجازة لاحقا، ورغم ذلك استمرت السلطات في التضييقات على الحزب. فلم تجز جريدته التي أراد لها عنوان "الجهاد" ثم عطلت له جريدة ثانية بعنوان "الحياد".

4 ـ الصدام مع حكومة عبد الكريم قاسم 

صعّد الحزب من سياسية ضد حكومة عبد الكريم قاسم، فاتهمها بمناصرة الشيوعيين على حساب ثوابت الأمة. فوافق منشوراته: "فسحت الحكومة المجال للشيوعيين وأيدتهم سرا وعلنا... وصار الناس في نظر الشيوعيين أحد اثنين، شيوعي وغير شيوعي. فالأول هو المخلص وحامي الجمهورية والثاني هو الخائن والمتآمر والمرتدّ والرجعي". وورد في الجريدة الناطقة بلسان حاله "الحزب الإسلامي يعلن أنه عازم على المضي في الطريق الإسلامي، محتملا كلّ أذى" أو "الحزب الإسلامي يسأل: هل وصلنا إلى درجة عدم مساواة رجل مسلم بشيوعي يدعو للكفر والإلحاد؟". 

وتشير مصادر الباحث أن عبد الكريم قاسم سأل قادته، بعد اعتقالهم بوزارة الدفاع في آذار/مارس 1961 " لماذا أدخلتم الإسلام في السياسة؟ فردّ رئيس الحزب نعمان السّامرائي: هكذا فهمنا الإسلام، دين ودولة والسياسة جزء منه، فردّ عبد الكريم: أتركوا الحزب واعملوا لكم جمعية، وشاركوا في المناصب ولكم أموال وأراض[كذا]. فردّ أحدهم: لسنا طلاّب مناصب".

وتبنى الحزب الإسلامي الحوار مع الشّيعة وحاول أن يبحث عن أرضية تواصل معهم، وأن يتجنّب النقاط الخلافية التي تفرّق بين المذهبين ولا تضيف شيئا إلى حاجة النّاس اليوم، كالموقف من الصّحابة وأصل الإمامة مثلا. ولكن اتضح أنّ الهوّة أكبر من أن تردم.

5 ـ نشاط الحزب بعد الغزو الأمريكي وسقوط نظام صدّام

اختارت قيادات الحزب ممارسة العمل السياسي السرّي في مواجهة نظام صدّام حسين، وانتقل قاداته خارج العراق خاصة بين سنتي 1992 و2003. وإبّان التّحضير للغزو الأمريكي 2002، شارك في ائتلاف القوى العراقية في بريطانيا. وتبنّى موقفا مناهضا للغزو ورافضا للضربة العسكرية. وبعد سقوط النظام بدا مرتبكا ممزقا بين الرغبة في المشاركة في السّلطة، حتى لا يستأثر بها الشيعة دون السّنة واعتبارِ الوجود الأمريكي احتلالا يجب مقاومته؛ التزاما بالمواقف الإخوانية في مختلف بلدان العالم الإسلامي. 

وفي 20 نيسان (أبريل) 2003 حسم أمره وقرر الانتقال إلى العراق والظّهور إلى العلن والمشاركة في الحكم، فأصبح أمينه العام طارق الهاشمي نائبا للرئيس العراقي. ولكن سريعا ما انسحب الحزب من الحكومة منها إثر القصف الأمريكي العنيف للفلوجة. وفي 2009 أعلن قطيعته مع المرجعية الإخوانية، وبرّر أمينه العام الجديد أسامة التكريتي صلته بالتّنظيم سابقا بأنّ "مراحل العمل الإسلامي في العراق اقتضت أن أكون مراقبا عاما للإخوان المسلمين العراقيين قبل 2003... أما اليوم فقد انتهى الأمر إلى واقع عراقي جديد يستوعب الرّجال والأفكار التي تحت المصلحة".

6 ـ اتهامات متلاحقة رغم الاعتدال

يرصد الباحث مختلف بيانات الحزب بعد 2003. ويستنتج اعتدال خطابه رغم ما كان يلحق السنة من الأذى ويلحق مناضليه من الاغتيالات. فقد دفع عن نفسه تهمة امتلاك مليشيا أو صلته بالتنظيمات المسلّحة. واتخذ موقفا مناهضا لإرهاب القاعدة. وأصدر بيانا في أيلول/سبتمبر 2005 ورد فيه: "يبرأ الحزب الإسلامي العراقي إلى الله مما نسب إلى الزرقاوي من إعلان الحرب على الشيعة بالعراق أينما وجدوا. وإن مثل هذا الموقف الذي يستبيح الدماء البريئة المعصومة، ويستحل قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، مخالف لما ثبت في الكتاب والسنة وإجماع الأمة في تحريم سفك دماء المسلمين". وأكّد قطيعته مع شعارات الستينيات تفاعلا مع المتغيرات الجديدة. و"عموما كل البيانات التي أصدرها الحزب الإسلامي العراقي، وهي حتى الرقم 174 المؤرخ في 1 آب (أغسطس) 2009.. تشير إلى عقلانية الحزب وميله إلى العمل السياسي السلمي، بعيدا عن التزمت وعدم تقدير الحال".

7 ـ العراق الطائفية تفكّك الحزب

لم يستطع الحزب البقاء بمنأى عن التجاذبات الطائفية، فقد فرض عليه أن يبحث عن التّوازن المفقود مع الهيمنة الشيعية باعتباره ممثلا للسّنة، وباتت قياداته هدفا للتّصفيات الجسدية الغامضة، ولكن بدا ممثلا للعرب منهم خاصّة، فقد وجدت فيه باقي القوميات أنّه عروبي الهوى لا يأبه كثيرا لمشاكل القوميات الأخرى، فانشقت عنه الجماعة التركمانية، وشكلت "حزب العدالة التّركماني" في  2004 وانضمت إلى الجبهة التّركمانية العراقية، رغم تأكيدها وحدة العراق ورغم تعريفها لنفسها بأنها "حزب سياسي مدني إصلاحي، يعمل من أجل حل جميع القضايا الشعب التركماني العراقي السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، من منظور إسلامي بما يحقّق العدل والرّخاء والحريات العامة لتركمان العراق، وأن يكون للتّركمان دور في إدارة الدولة ونيل جميع حقوق الشعب التّركماني الثّقافية والإدارية والسّياسية وغيرها، وانشقّ عنه الاتحاد الإسلامي الكردستاني، الذي ظل يآخذه عن التّهاون في حادثتي حلبجة والأنفال، وشهد حرب الزّعامات، فشكّل طارق الهاشمي تنظيما خاصّا به باسم "التّجديد". 

وككل المناضلين في البلدان العربية، فحالما مارس بعض أعضائه السّلطة يتورّطون في قضايا فساد أضرّت بصورة الحزب بشدّة. وفي هذا الأمر يقول طارق الهاشمي مدافعا عن الأحزاب الإسلامية سنية وشيعية "الكل يطرح أنموذجا وطنيا، الإشكالية في الممارسات الخاطئة لكونها أعطت انطباعا للشعب العراقي أنّ هذا هو السلوك الإسلامي، وهذا الانطباع خطأ وليست هذه حقيقة الأمور... هؤلاء محسوبون على تيارات إسلامية، ومن ثم أصبح الإسلام هو المتهم، أنا في تصوّري الإسلام بعيد عن كل تلك الشبهات، لكن الممارسات السيئة جعلت الشّعب يؤمن بأن الأحزاب الإسلامية كانت سبب المحنة التي يعيشها العراق".

لقد تدرّج الحزب الإسلامي العراقي من البحث عن وحدة الأمة الإسلامية بأسرها إلى البحث عن وحدة العراق على اختلاف مذاهبه إلى البحث عن وحدة السنّة العرب، فكان صورة من العراق نفسه وهو يغرق في الطائفية والتّناحر القومي والفساد السياسي ويواجه خطر التّفكك إلى دويلات صغيرة وضعيفة.