هناك مقولة شهيرة للفيلسوف اليوناني هيراقليطس مفادها أن: "الرجل لا يضع رجله في النهر نفسه مرتين"، كناية عن أن الوجود في تغيير دائم، وأن هذا التغيير هو جوهر الكون! ولا يبدو أن هذه المقولة الفلسفية تنطبق على العراق والعراقيين أبدا! فماء النهر في العراق راكد والعراقيون لا يتعبون من وضع أرجلهم في الماء نفسه مرات كثيرة.
في 7 آذار/ مارس 2010 جرت الانتخابات البرلمانية في العراق، وبدا واضحا من خلال متابعة عدد الأصوات أن القائمة العراقية حينها، التي يشكل الفاعلون السياسيون السنة عمادها، هي التي ستفوز بالمركز الأول، الأمر الذي دفع برئيس مجلس الوزراء، إلى تقديم طلب إلى المحكمة الاتحادية العليا لتفسير المادة 76 من الدستور بتاريخ 21 آذار، وفعلا أصدرت المحكمة الاتحادية حينها قرارا مسيسا يوم 25 آذار ، أي بعد أربعة أيام فقط، منعت بموجبه، القائمة العراقية من تشكيل الحكومة. ثم جعلت المحكمة الاتحادية نفسها طرفا في الصراع السياسي، أيضا حين قبلت طعن دولة القانون على تلك النتائج، وأصدرت قرارا بإعادة العد والفرز اليدوي، وقد تم ذلك، ولم تُعلن النتائج النهائية إلا في 19 نيسان أي بعد 53 يوما، ولم يعقد مجلس النواب جلسته الأولى إلا في 14 حزيران 2010.
يومها حصلت القائمتان الشيعيتان الرئيسيتان؛ دولة القانون على 89 مقعدا، والائتلاف الوطني العراقي (التيار الصدري مع المجلس الأعلى الإسلامي) على 70 مقعدا. ولضمان أن يشكل التحالفان الكتلة الأكثر عددا، التي تشكل الحكومة وفقا للتفسير المسيّس للمحكمة الاتحادية، اتفقت القائمتان على تشكيل “التحالف الوطني العراقي” الذي أعلن عنه يوم 4 أيار/ مايو. لكنهما لم تتفقا على مرشحهما لرئاسة مجلس الوزراء، وهو ما جعلهما، بالتواطؤ مع الآخرين، لا تنتخبان رئيس مجلس النواب ونائبيه في الجلسة الأولى كما يقرر الدستور، وإبقاء الجلسة مفتوحة.
وقد جعلت المحكمة الاتحادية مرة أخرى، نفسها طرفا في التجاذب السياسي حين رفع بعض الناشطين دعوى بعدم شرعية جعل الجلسة الأولى مفتوحة، لكن المحكمة الاتحادية، التي أصدرت قرارا يفسر المادة 76 في أربعة أيام فقط، تلكأت أكثر من أربعة أشهر كي تصدر قرارها فيما يتعلق بدعوى الناشطين (صدر القرار في 24 تشرين الأول) بعدم شرعية جعل الجلسة الأولى جلسة مفتوحة! ولم يكن هذا التلكؤ اعتباطيا، بل كان مطلوبا لفسح المجال للتوصل إلى اتفاق بين دولة القانون والتيار الصدري حول ترشيح نوري المالكي لولاية ثانية بعد صفقة عقدت بينهما بوساطة إيرانية، واستؤنف عقد الجلسة الأولى يوم 11 تشرين الثاني 2010 (أي بعد ثلاثة أسابيع تقريبا من قرار المحكمة الاتحادية البات والملزم للسلطات كافة)، ليتم تكليف المالكي في 25 تشرين الثاني بتشكيل الحكومة.
في النهاية، لن تكون هناك سوى حكومة ائتلافية تضم الغالبية العظمى من القوى السياسية الممثلة داخل مجلس النواب، بعيدا عن خرافتي الأغلبية والمعارضة اللتين لا مكان لهما في دولة يحكمها السلاح لا السياسة كما العراق
اليوم يتكرر المشهد نفسه، مع بعض المتغيرات الشكلية؛ فقد جرت الانتخابات المبكرة في 10 تشرين الأول وأعلنت النتائج الأولية في اليوم التالي، وكانت هناك أيضا اعتراضات، وإعادة عد وفرز يدوية، لتعلن النتائج النهائية في 30 تشرين الثاني أي بعد 50 يوما!
هذه المرة لم يتأخر انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه، فقد انتخبا في جلسة أولى دراماتيكية، عقدت يوم 9 كانون الثاني 2022، وكان يفترض أن ينتخب رئيس الجمهورية في جلسة يوم 31 كانون الثاني تبعا لأحكام المادة ( 72/ ثانيا/ ب ) من الدستور التي توجبُ انتخاب رئيس الجمهورية خلال ثلاثين يوما من موعد الجلسة الأولى للبرلمان. لكن الجلسة لم تتحقق، بسبب دخول المحكمة الاتحادية على الخط، وإصدارها أمرا ولائيا بتجميد عمل رئاسة البرلمان بتاريخ 13 كانون الثاني، ثم تعقّد الأمر أكثر حين أصدرت قرارا يشترط أن يكون نصاب جلسة مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية، الثلثين وليس الأغلبية المطلقة في 3 شباط، الأمر الذي عطّل إمكانية عقد أي جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية دون توافق بين القوى السياسية.
وليكتمل المشهد، أصدرت المحكمة الاتحادية قرارا آخر مسيسا يوم 13 شباط استبعدت من خلاله، المرشح الوحيد للتحالف الثلاثي المكون من (سائرون والسيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني)، وهو ما اضطر رئاسة مجلس النواب المتكونة من ممثلي التحالف الثلاثي إلى مخالفة أحكام قانون الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وإعادة فتح باب الترشيح مرة ثانية لمنصب رئيس الجمهورية، من أجل فسح المجال للحزب الديمقراطي بتقديم مرشح بديل! وهنا تدخلت المحكمة الاتحادية مرة أخرى وأصدرت قرارا مسيسا، يتيح تمديد الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية مرة ثانية من خلال البرلمان وليس من خلال رئاسة المجلس، في انتهاك صريح لأحكام الدستور التي أوجبت أن يتم الانتخاب خلال مدة ثلاثين يوما من الجلسة الأولى لمجلس النواب، فقد اختزلت المحكمة الاتحادية هذه المشكلة في إجراءات إعادة فتح باب الترشيح، وليس في انتهاك المدة المحددة دستوريا، التي لا يجوز تجاوزها!
لايزال العراقيون على مدى أكثر من ثلاثة أشهر، منذ إعلان النتائج النهائية للانتخابات المبكرة المفترض في 30 تشرين الثاني 2021، ينتظرون انتخاب رئيس للجمهورية، وعليهم بطبيعة الحال، أن ينتظروا مدة تصل إلى 45 يوما بحسب التوقيتات الدستورية، للوصول إلى تشكيل حكومتهم! ولم يعد الأمر متعلقا هذه المرة، كما في العام 2010، بمن هو مرشح رئاسة مجلس الوزراء، وإلى أي من التحالفين قد ينتمي؛ سائرون أم الإطار التنسيقي أم مرشح تسوية، بل يتعلق الأمر، أيضا، بمن هو رئيس الجمهورية وإلى أي من الحزبين الكرديين ينتمي؛ الديمقراطي الكردستاني أم الاتحاد الوطني؟
في النهاية، لن تكون هناك سوى حكومة ائتلافية تضم الغالبية العظمى من القوى السياسية الممثلة داخل مجلس النواب، بعيدا عن خرافتي الأغلبية والمعارضة اللتين لا مكان لهما في دولة يحكمها السلاح لا السياسة كما العراق! وأن منصب رئيس الجمهورية لا يمكن عزله عن هذه المعضلة؛ لأن حصول أي من الحزبين الكرديين على المنصب، يرتبط بطبيعة التحالفات التي ستتشكل في آخر المطاف، لاسيما أن ثمة حراكا داخل التحالفات القائمة يمكنه أن يقلب المشهد رأسا على عقب، وهذا يعني أن مدى الثمانية أشهر التي عبرها العراقيون في العام 2010 قابلة للتكرار ثانية!