الأمر ليس متعلقا ببسام جرار ونبوءاته، وحساب الجمّل، الذي يجعله يتحدث عن زوال
إسرائيل هذا العام، لا، الأمر ليس كذلك، الأمر الغريب الذي لا تخطئه العين أن هناك حالة "يقين" لدى الضمير الجمعي
الفلسطيني خلاصتها أن زوال إسرائيل أصبح وشيكا، والعودة إلى البلاد قريبة، والتحرير قادم لا محالة. وها هو يحيى السنوار، زعيم حماس في غزة، جاء ليؤكد هذا الشعور الجمعي ويترجمه إلى كلام مباشر مفتوح لا يحتاج إلى تأويل، فيتوعد الاحتلال بالمواجهة الكبرى، وتحرير الأقصى، ورفع الحصار عن غزة "خاوة"، فما الذي يجري؟ ومن أين للفلسطيني كل هذا اليقين، والكيان المجرم في أوج جبروته وتوحشه، وفي قمة علوه الكبير واحتضان كل قوى الاستعمار والشر في العالم له، واستعدادها للدفاع عنه؟
ليس هذا فقط.. فالأمة التي يفترض أن تحتضن الحلم الفلسطيني في
التحرير والخلاص من المستبد المحتل، هي الآن أقرب إلى المجرم منها إلى الضحية، بل إن أنظمتها في غالبيتها ترتبط مع القاتل بوشائج قربى وتعاون و"محبة" لا يمكن أن تقوم بين متخاصمين كانا حتى وقت قريب على طرفي نقيض، بل هي علاقة عشاق يقعون في غرام جارف، فأنّى لهؤلاء أن يتركوا حالة عشقهم هذه وينتصروا لفلسطين وأهلها، وهم من جردوا سيوفهم لقطع كل يد تمتد إليها بالتحرير؟
وفق حسابات القوة على الأرض، فالفلسطيني لا يكاد يمتلك شيئا مقارنة بما تمتلئ به ترسانة العدو الصهيوني من أسلحة تصل إلى حد النووي، هذا وفق الحساب المادي البحت، لكن وفق حساب مفهوم القوة بمعناه المطلق، فلا مقارنة بين ما يمتلكه صاحب الأرض من يقين بحقه وإيمانه به، وبين اللص الذي استولى على الأرض
وفق حسابات
القوة على الأرض، فالفلسطيني لا يكاد يمتلك شيئا مقارنة بما تمتلئ به ترسانة العدو الصهيوني من أسلحة تصل إلى حد النووي، هذا وفق الحساب المادي البحت، لكن وفق حساب مفهوم القوة بمعناه المطلق، فلا مقارنة بين ما يمتلكه صاحب الأرض من يقين بحقه وإيمانه به، وبين اللص الذي استولى على الأرض بالقهر والجبر وبارتكاب كل موبقات القوي المتجبر المتجرد من كل خلق، فهو لم يدخر وسيلة متوحشة إلا واستثمرها في محاولة تهويد الأرض وجعلها تنسى أهلها، ومع كل ما ارتكب اللص بقيت الأرض عربية، وبقي أهلها عربا فلسطينيين، وبقيت الأجيال تتناسل وتتوارث حب
المقاومة والنزال، وبقينا نرى الشباب الصغار الذين ولدوا بعد أوسلو اللعين يقومون بعمليات نوعية تخترق جهاز العدو الأمني رغم جهوزيته العالية، ولا أدل على هذا من قيام يوسف سميح عاصي ويحيى مرعي بعملية أرئيل النوعية، وهما من الجيل الجديد الذي ولد زمن أوسلو.
في ميزان القوة، نتذكر هنا قصة داود وجالوت، وما بينهما من فرق في القوة، ومع هذا فالأضعف ماديا غلب الأقوى، وتلك حكاية طويلة أسرف في سرد تفاصيلها كثير من الكتاب والمفسرين، بل إنها تحتل مكانة معتبرة في الثقافة العبرية، ولطالما جرى التشبيه على ألسنة كتابهم وصحفييهم، خاصة في معرض الاعتراف بشراسة وديمومة المقاومة الفلسطينية منذ قيام كيان الاحتلال وحتى اليوم، رغم اختلال ميزان القوى (المادية) بين الطرفين، كما هو الحال بين داود وجالوت أو جوليات.
ولو وسعنا زاوية الرؤية لهذه المسألة لرأينا أن هناك عناصر قوة غدت بين أيدي الفلسطينيين بعثت فيهم روحا معنوية عالية، وكان مصدر هذه القوة الرئيس غزة ومقاومتها، حيث استعصت على الانكسار بعد أكثر من خمسة حروب أو مواجهات كبرى خلفت في كل مرة دمارا هائلا، ولكن مع هذا الدمار المادي في المباني والممتلكات والأرواح أيضا كانت غزة أكثر تصميما على امتلاك أدوات القتال القادرة على إيلام العدو، مثل هذه المقاومة قدمت نموذجا ملهما لأبناء الشعب الفلسطيني، جعلته يفتح باب الأمل في التحرير على مصراعيه، رغم بؤس الواقع العربي، وإلى هذا وذاك، ثمة بعد آخر لا يقل أهمية عن كل ما ذكر وهو الثقة بالله فالنصر من عند الله، والأمر يقتضي الأخذ بالأسباب على قدر الاستطاعة، أما الباقي فهو بيد الخالق عز وجل، وهذه عقيدة باتت تترسخ أكثر فأكثر في الضمير الجمعي الفلسطيني، ووجدت تعبيرا قويا لها فيما نراه من زحف للأقصى وإحياء شعيرة القيام والتهجد والاعتكاف وإعماره بالصلاة والعبادة، فقد بدا أنه ملاذ أثير للفلسطيني الذي خذله القريب قبل البعيد.
لا يخفى هنا وجود تداعيات لهذه الحرب قد تعيد توزيع خارطة القوى والصداقات، وقد تفتح ثغرة أو أكثر في جدار القلعة التي تحيط بكيان العدو الصهيوني، خاصة بعد أن شهدنا بدايات تأزيم في العلاقة بين هذا الكيان وروسيا، على خلفية انتقاد الكيان للروس
وإضافة إلى كل ما سبق، يلاحظ الفلسطيني شانه شأن من يرقب حركة التأريخ ودورانها، أن هناك تسارعا غير مسبوق في هذه الحركة كما يقول الراحل عبد الوهاب المسيري، وثمة تطورات كبرى يشهدها العالم، تجعل من هدف تحرير فلسطين ممكن الحدوث. فمن كان يتوقع قبل سنة مثلا أن تشن روسيا حربا على أوكرانيا، ومن ثم تعلن الولايات المتحدة والناتو ونصف الكرة الأرضية حربا اقتصادية ضروسا على روسيا، كادت أن تنهي اقتصادها، وجعلته يترنح -قبل السقوط- لهول ما وجد من شراسة؟ ولا يخفى هنا وجود تداعيات لهذه الحرب قد تعيد توزيع خارطة القوى والصداقات، وقد تفتح ثغرة أو أكثر في جدار القلعة التي تحيط بكيان العدو الصهيوني، خاصة بعد أن شهدنا بدايات تأزيم في العلاقة بين هذا الكيان وروسيا، على خلفية انتقاد الكيان للروس، ومن كان يتوقع -أيضا- أن تفر أمريكا بجلدها هربا من أفغانستان بعد عشرين عاما من الفشل في احتلال البلاد وإخضاعها؟ بل من كان يتوقع أن "تلملم" أمريكا نفسها وتبدأ بمغادرة منطقتنا بمثل هذه السرعة؟
لهذا ولربما لأسباب أخرى، نرى الفلسطيني أكثر إيمانا بقرب التحرير، وهذه الروح التي تبعث العنفوان في العقل الجمعي الفلسطيني لا بد أن تكون حافزا لمزيد من المقاومة والإقدام، وابتداع أساليب جديدة للنيل من المجرم الذي طغى وتجبر.