قضايا وآراء

تركيا تنتصر في صراع الحفاظ على ثرواتها بشرق المتوسط.. كيف؟

1300x600
ظلت الحركة في البحر المتوسط تسير بصورة تقليدية حتى فاجأت تركيا العالم بتوقيع اتفاقية ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019م، هو ما شد انتباه الدول المتشاطئة في شرق المتوسط، وفجّر غضب اليونان التي كانت -وما زالت- تطمح لفرض سيادتها وقيادة لإدارة ثروات النفط والغاز في المنطقة، وتحالفت معها في ذلك مصر. وتحول الهدوء الذي اتسم به حوض البحر المتوسط في الفترة الماضية إلى نشاط محموم من الدول المتشاطئة، كل يسعى إلى اقتناص ما يعتقد أنه حقه من المياه الإقليمية وبالتالي من ثروات النفط والغاز، وخاصة اليونان صاحبة العلاقات المتوترة مع تركيا ومعها مصر التي لا تقل علاقاتها مع تركيا سوءا عن اليونان، فاتحدت الدولتان من باب المكايدة السياسية من جانب، ورغبة في إفساد أي مكاسب لتركيا وليبيا!

وبعد ترسيم الحدود ظل الجميع يرقب تطورات الوضع منتظرا الخطوة القادمة، بينما كان الصمت سيد الموقف لدي تركيا وليبيا حتى بدا الأمر وكأن المسألة توقفت عند اتفاقية ترسيم الحدود، لكن الذي ثبت أن العمل كان يجري على قدم وساق بعيدا عن أعين الإعلام. لقد تم تطوير هذه الاتفاقية وتسريع خطواتها بشكل ممنهج ومتفق عليه بين الطرفين، حتى فوجئ العالم بزيارة خاطفة لوفد تركي للعاصمة الليبية طرابلس استمرت يوما واحدا، تم خلالها توقيع الاتفاقية النهائية لترسيم الحدود البحرية.

ويبدو أن كل الترتيبات التركية العسكرية بالتنسيق مع ليبيا كانت جاهزة لحماية تنفيذ الاتفاقية، قطعا للطريق على أي محاولات لإفسادها، فسفن الحفر والاستكشاف التركية جاهزة وستكون مصحوبة بالفرقاطات الموجودة حاليا قبالة سواحل ليبيا عند البدء في التنفيذ، ومن حولها قطع الأسطول التركي المكون من ثلاث قطع بحرية.
كل الترتيبات التركية العسكرية بالتنسيق مع ليبيا كانت جاهزة لحماية تنفيذ الاتفاقية، قطعا للطريق على أي محاولات لإفسادها، فسفن الحفر والاستكشاف التركية جاهزة وستكون مصحوبة بالفرقاطات الموجودة حاليا قبالة سواحل ليبيا عند البدء في التنفيذ، ومن حولها قطع الأسطول التركي

كما أن الموقف السياسي لكل تركيا وليبيا قوي ومتمسك بتنفيذ هذه الاتفاقية، وقد بدا ذلك في تصريحات وزير الخارجية التركي الذي قلل من أهمية ردود الفعل اليونانية الغاضبة المصحوبة بتهديدات بالحرب وسط تأييد مصري، كما بدا في تصريحات رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة خلال التوقيع الأخير على الاتفاقية قائلا: "لن نتنازل عن حقنا في المياه الإقليمية جنوب جزيرة كريت.. سيعزز البروتوكول الموقع ثروتنا النفطية الكبرى والاستثمارات ذات الصلة في مياهنا الإقليمية".

ومصدر انزعاج اليونان جاء من أن هذه الاتفاقية -التي تشكل سابقة لدول أخري يمكن أن تحذو حذو ليبيا- أوجدت واقعا جديدا في شرق البحر المتوسط قلب الموازين وأعطى لتركيا وليبيا نفوذا كبيرا، مقابل تقليص نفوذ اليونان واستمرار ضعف النفوذ المصري، وهو ما يعني اختلال ميزان القوي بين اليونان التي كانت مسيطرة على المنطقة من قبل وبين تركيا التي باتت صاحبة الكلمة الأولى، ونفس الأمر بين مصر وليبيا، وذلك ما زاد التوتر اشتعالا بين تركيا واليونان التي تثير منذ سنوات توترات ضد تركيا في بحر إيجة، وتسعى بكل ما لديها من إمكانيات وعلاقات لمنع تركيا من التوغل في المتوسط عبر اتفاقها الأخير مع ليبيا.

وتسهم هذه الاتفاقية في زيادة مساحة الحدود البحرية في البحر المتوسط لكلا البلدين (تركيا وليبيا)، وبالتالي توفير كميات ضخمة من النفط والغاز ستسهم بلا شك في إحداث طفرة حضارية، كما أنها تفتح الطريق لزيادة التعاون الأمني والعسكري والعلمي والاقتصادي والفني والتكنولوجي وتبادل الخبرات والتدريب والتطوير، وزيادة إنتاج البلدين وتطوير التعاون الثنائي إلى نوع من الشراكة الاستراتيجية في شتي المجالات، وهو ما يعني تواجدا تركيا مكثفا في المنطقة لإدارة هذه الشراكة مع ليبيا.. هكذا قال لي الأدميرال جهاد يايجي، رئيس ومؤسس "مركز الاستراتيجية البحرية العالمية"، ورئيس الفريق التركي المفاوض في اتفاقية الغاز التركية الليبية ورئيس الفريق التركي المفاوض في هذه الاتفاقية.
أوجدت واقعا جديدا في شرق البحر المتوسط قلب الموازين وأعطى لتركيا وليبيا نفوذا كبيرا، مقابل تقليص نفوذ اليونان واستمرار ضعف النفوذ المصري، وهو ما يعني اختلال ميزان القوي بين اليونان التي كانت مسيطرة على المنطقة من قبل وبين تركيا التي باتت صاحبة الكلمة الأولى، ونفس الأمر بين مصر وليبيا

وقد أطلعني الرجل في لقاء مطول بمكتبه في إسطنبول، وهو خبير ببحار المنطقة جيدا، كيف تمكن باقتدار مع فريقه المعاون من الوصول إلى تفاصيل مكامن ثروات البحر المتوسط وتحديد حقوق تركيا فيها، وفي نفس الوقت أحيا حقوق جميع الدول المتشاطئة على البحر المتوسط رغم أنف اليونان الطامعة في كامل الثروة.

خبرتي في الكتابة في شئون النفط والغاز لأكثر من عشر سنوات بجريدة الشعب المصرية (1984-1994م) بينت لي أن المنطقة أمام كنز كبير، وهذا ما دفعني للاسترسال في النقاش مع الأدميرال جهاد، فألقى أمامي خرائط الاكتشافات وخلاصات دراساته وأبحاثه التي تؤكد أن هذه الثروة كفيلة بتحقيق طفرة كبرى، قائلا إن خرائط المسح الجيولوجي تؤكد أن المنطقة المطلة على البحر المتوسط من قبرص التركية بالاشتراك مع تركيا تغطي احتياجات تركيا من الغاز 572 عاما، وأن المنطقة بين قبرص ورودس تغطي احتياجات قبرص 32 عاما.
إن مستقبل الأجيال القادمة موجود في البحار، وأن من يتخلى عنها سيدفع ثمنا غاليا جدا، وسيكتب التاريخ أن من يفرط فيها يكون خائنا لحقوق الوطن

وأضاف أن الاتفاقية التركية الليبية وفرت 40 ألف كيلومتر إضافية على المياه الإقليمية بين ليبيا وقبرص التركية، وهي تساوي أربعة أضعاف مساحة قبرص الكلية وستكون مناصفة بين تركيا وليبيا، وتحتوي على غاز قيمته 30 تريليون دولار، وهو ما يمكن أن يتحقق لمصر لو وقعت اتفاقية مماثلة مع تركيا ولكنها ركنت لليونان فلم تكسب شيئا، وما زالت الفرصة سانحة.

وقبل أن أغادره أكد لي على حقيقة مهمة، وهي أن من يحافظ على مياهه الإقليمية دون التفريط فيها سيكون صاحب ثروة ضخمة من الطاقة (النفط والغاز) ويمتلك بذلك أهم مفاتيح النهضة، فالبحار حول العالم تمتلك 50 في المئة من النفط و30 في المئة من الغاز. وبالتالي يجوز لنا القول إن مستقبل الأجيال القادمة موجود في البحار، وأن من يتخلى عنها سيدفع ثمنا غاليا جدا، وسيكتب التاريخ أن من يفرط فيها يكون خائنا لحقوق الوطن.