بعيدا عن توقعات رئيس "هيئة
الانتخابات" فاروق
بوعسكر الذي صرّح قبل الانتخابات بأن نسبة المشاركة لن تبتعد عن تلك النسبة التي
أفرزتها نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد، جاءت "نسبة العزوف" لتؤكد
التراجع الكبير في شعبية الرئيس ومشروعه السياسي. فحتى لو سلّمنا بعدم وجود تزييف
(رغم غياب هيئات رقابية دولية موثوقة مثل بعثة الاتحاد الأوروبي)، وسلّمنا كذلك
بأن النسبة النهائية للمشاركة قد تجاوزت 11 في المائة من عدد المسجلين وليس 8 في المائة، فإن النتيجة -كيفما قلّبناها- تُظهر عمق الهوة بين
"الإرادة الشعبية" وبين ادعاءات الرئيس الذي يحتكر تلك الإرادة ويختزلها
في شخصه بأسلوب خطابي لا دليل عليه؛ في "المحطات التاريخية" الثلاث التي
رجع فيها إلى إرادة المواطنين القابلة للضبط الإحصائي (الاستشارة الالكترونية،
الاستفتاء على الدستور، الانتخابات التشريعية).
بعد ظهور نتائج الانتخابات، تعالت الكثير من الأصوات
المطالبة بإعادة هندسة المشهد السياسي
التونسي بناء على تلك النتائج التي وضعت
الرئيس والنخب والشعب أمام اختبار جدي لشعار مشروعه الأساسي: "الشعب يريد
ويعرف ما يريد". ونحن نذهب إلى أن من ينتظر من الرئيس التراجع عن مشروعه/ بديله
مهما كان موقف أغلبية الناخبين هو شخص واهم؛ لأنه لم يفهم جيدا معنى "الشعب"
في سردية "تصحيح المسار" أو "التأسيس الثوري الجديد". فالشعب
المقصود هنا هو ذاك الذي "فوّض" السيد
قيس سعيد للتأسيس الجديد باسمه
عندما اختاره رئيسا للبلاد؛ وهو يعلم أنه لا مشروع له إلا الإنصات لإرادة
المواطنين وتوفير الآليات أو الإمكانيات لتحقيقها. وهو أيضا ذلك الشعب الذي ساند
إجراءات 25 تموز/ يوليو لسنة 2021 واعتبرها إجراءات دستورية وليست انقلابا على
الديمقراطية
ومؤسساتها وأجسامها الوسيطة.
نذهب إلى أن من ينتظر من الرئيس التراجع عن مشروعه/ بديله مهما كان موقف أغلبية الناخبين هو شخص واهم؛ لأنه لم يفهم جيدا معنى "الشعب" في سردية "تصحيح المسار" أو "التأسيس الثوري الجديد"
إن "التفويض الشعبي" في سردية "التأسيس
الجديد" لا يمكن أن يكون تفويضا مؤقتا أو مشروطا أو قابلا لـ"سحب
الوكالة" كما هو الشأن مع أعضاء غرفتي مجلس النواب، إنه تفويض نهائي وغير
قابل للمراجعة. وهو يجعل الرئيس الملهَم (المُخلّص) خارج المساءلة والمحاسبة،
الأمر الذي يشهد له الدستور الجديد. فالرئيس دستوريا لا يقبل فقط المساءلة
القانونية عن أفعاله (على عكس باقي المسؤولين) بل هو أيضا لا يقبل المساءلة
السياسية، أي لا يقبل الطعن في التفويض الأصلي مهما تغيرت أمزجة الناخبين ومهما
كانت هشاشة المشروعية التي يستند إليها (غياب الإنجاز واعتماد سياسات لا شعبية
أساسها إملاءات صندوق النقد الدولي).
لفهم العقل السياسي الذي صاغ شعار "الشعب يريد ويعرف
ما يريد"، يجب أن نتذكر أنّ "طوبى" التأسيس الثوري الجديد لا تحتاج
إلى الإرادة الشعبية إلا مرة واحدة، مثل كل الانقلابات التي حولتها الآلات
الدعائية ومنطق الأمر الواقع إلى "ثورات". فالشعب فعلا "يريد"،
وقد عرف ما يريد عندما اختار الرئيس قيس سعيد ومشروعه مرتين: مرة في الانتخابات
الرئاسية ومرة بعد 25 تموز/ يوليو 2021. وهو من منظور
"التأسيس الجديد" الاختيار العقلاني الأوحد الذي يمكن التعويل عليه،
أمّا باقي المحطات التي أظهرت خلاف ذلك فإنها تعكس إرادة شعبية متلاعبا بها، أي
إرادة لا تعرف مصلحتها ومتنكرة لها.
الشعب فعلا "يريد"، وقد عرف ما يريد عندما اختار الرئيس قيس سعيد ومشروعه مرتين: مرة في الانتخابات الرئاسية ومرة بعد 25 تموز/ يوليو 2021. وهو من منظور "التأسيس الجديد" الاختيار العقلاني الأوحد الذي يمكن التعويل عليه، أمّا باقي المحطات التي أظهرت خلاف ذلك فإنها تعكس إرادة شعبية متلاعبا بها، أي إرادة لا تعرف مصلحتها ومتنكرة لها
من المنطقي في هذه الحالة أن يمضي الرئيس في مشروعه بما
تبقى من "الصادقين" أو "الطلائع" مهما بلغ عددهم، فهؤلاء هم
في النهاية "شعب الرئيس" أو "الشعب" كله، أما بقية المرتدين
عن مساندة الرئيس فإنهم قد التحقوا بـ"المخمورين"
و"المأجورين" و"الطامعين" الذين لن يبخع الرئيس نفسه على
آثارهم، ولن يتراجع عن مشروعه ولو بقيَ فيه مع ثلاثة
من أنصاره. إننا هنا نخرج من
السياسة التي تحددها معطيات إحصائية ترتبط بنسبة الدعم الشعبي، إلى
"الدين" أو "الأيديولوجيا"، حيث لا يكون المعيار هو الإرادة
العامة، بل إرادة متعالية يمكن نسبتها إلى الله أو إلى "روح التاريخ" أو
إلى إرادة شعبية مطلقة تتجسد مرة واحدة ولا تقبل الطعن أو المراجعة.
بناء على ما تقدم، فإن أي دعوة للرئيس إلى تعديل خارطة
طريقه أو إلى الانتقال من موقع البديل إلى موقع الشريك هي دعوة عبثية. ونحن ننعتها
بـ"العبثية" لأنها تذهل عن استقراء الواقع منذ انقلاب 25 تموز/ يوليو من
السنة الماضية. فكل من يدعو الرئيس إلى التراجع أو تعديل مشروعه والاعتراف بتعدد
الوسائط بين الإرادة الشعبية والسلطة؛ هو شخص يطلب من ساكن قرطاج أن يهدم علة
وجوده ذاتها. ذلك أن الرئيس يستمد شرعيته الحقيقية أو المتخيلة من
موقع
"البديل"، أي من موقع التقابل الكلي والنهائي مع سائر الفاعلين
الجماعيين. كما أن الرئيس غير معني بأي تغير في مزاج الناخبين منذ الانتخابات
الرئاسية الماضية، لأن ذلك التغير هو أمر لا يمس من "الشرعية التأسيسية"
أو الأصلية ولا ينقضها البتة.
لو افترضنا جدلا أنه لم يخرج أي تونسي لمساندة إجراءات 25 يوليو/ تموز،
فإن السيد قيس سعيد كان سيمضي في مشروعه بالصورة التي عرفناها لأنه يعرف جيدا أن
قوته الحقيقية ليست من الشعب، بل من مراكز النفوذ التي تدعمه داخليا وخارجيا. كما
أنه يؤمن بأن "التفويض الشعبي" الذي أسنده إليه الناخبون سنة 2019 هو تفويض
"تأسيسي" وليس فقط تفويضا سياسيا عاديا. ولذلك فإنه لم يصرّح ولو مرة
واحدة بأنه سيتراجع عن مشروعه إذا أظهرت نتائج "المحطات التاريخية"
الثلاث أنه مرفوض شعبيا، كما أنه لم يطرح أبدا -رغم كل النكسات التي عرفها مشروعه- فرضية
إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وعرض نفسه على الإرادة الشعبية مرة ثانية. إنه
"الرئيس المؤسس"، وهي وضعية تجعله
فوق قوانين السياسة، بل فوق أية إرادة
شعبية مهما بلغت نسبتها إحصائيا.
نعتقد أن الرئيس سيمضي في استكمال مشروعه السياسي وذلك لسببين؛ أولهما أن الرئيس يعلم جيدا -منذ نتائج الاستشارة الالكترونية- أنه لا يحكم بفضل الدعم الشعبي، بل بفضل تقاطع المصالح بينه وبين القوة الصلبة ومراكز النفوذ المالي والجهوي في تونس والمؤسسات المالية الدولية. أما السبب الثاني فهو غياب البديل السياسي
ختاما، فإننا نعتقد أن الرئيس سيمضي في استكمال مشروعه
السياسي وذلك لسببين؛ أولهما أن الرئيس يعلم جيدا -منذ نتائج الاستشارة
الالكترونية- أنه لا يحكم بفضل الدعم الشعبي، بل بفضل تقاطع المصالح بينه وبين
القوة الصلبة ومراكز النفوذ المالي والجهوي في تونس والمؤسسات المالية الدولية.
أما السبب الثاني فهو غياب البديل السياسي القادر على إقناع الشعب والشركاء
الإقليميين والدوليين بانتفاء الحاجة إلى الرئيس ومشروعه. فـ"المعارضات"
التونسية -رغم كل ادعاءاتها ومزايداتها- قد أثبتت بأنها أكبر حليف موضوعي للنظام
الحاكم، وذلك بعجزها عن التوحد وعن تقديم خطاب سياسي جديد يتجاوز مستوى التغني
بمزايا الديمقراطية الصورية وشيطنة حكم الفرد أو التخويف من الاستبداد.
فقد أثبتت الوقائع أن "الديمقراطية" عندما تنفصل
عن الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي تصبح مصطلحا "سيئ السمعة" لا بواكي له
إلا بين النخب، بل لا بواكي له إلا عند "بعض النخب"؛ لأن الانقلاب قد
أثبت أن الديمقراطية لم تكن أبدا مطلبا حقيقيا لأغلب النخب التونسية، خاصة أولئك
الذين يحتكرون الحديث باسم "العائلة الديمقراطية"، رغم غياب أي شاهد على
ديمقراطيتهم قبل الثورة وبعدها.
twitter.com/adel_arabi21