قضايا وآراء

العشرية السوداء.. تفويض بالقتل (7)

عربي21
انتقل الجميع إلى اعتصام رابعة العدوية، وبعد استماعي لبيان الانقلاب تحركت بسيارتي ومعي زوجتي من بيتي في التجمع الخامس صوب الميدان. ولن أنسى ما شاهدته في الطريق من كمائن وحواجز أقامها بلطجية ومتشردون في الشوارع التي تمر في أرقى أحياء مدينة نصر، فقد استُوقفت مرات لأسمع تحذيرات من نوعية "لا تذهب إلى ميدان رابعة لأنهم يقتلون من يمر عندهم"، كان بعضهم يحمل عصيا وخرطوشا، وكانت -بصراحة- أشكالهم لا تسر عدوا ولا حبيبا، وأدركت ساعتها أن المسرح بات مهيأ لما هو أسوأ..

في الميدان الكبير كانت الألوف المؤلفة تطالب بعودة الرئيس، وكانت حذرة للغاية من النيل بالجيش على اعتبار أن الجيش ليس طرفا في الصراع، هكذا توهمت الجموع أو فرض عليها التوهم كما توهمتُ أيضا لبعض الوقت. كانت المظاهرات التي تنطلق من وإلى رابعة العدوية ترج أركان مدينة نصر بأسرها "الجيش المصري بتاعنا والسيسي مش تبعنا"، وتبين للجميع أن السيسي اختطف الجيش أو كان ممثله الرسمي والحصري في كل الفترات السابقة واللاحقة.

بعد يومين من بيان الانقلاب تم اعتقال المهندس خيرت الشاطر، وهي مفاجأة من العيار الثقيل وضربة كبيرة للإخوان المسلمين بعد الانقلاب واعتقال الرئيس مرسي ومعاونيه، وكانت الخطة واضحة لا تخطئها العيون وهي الحرب الشاملة على الرئيس والحزب والجماعة منذ اللحظة الأولى، رغم ادعاءات السيسي الفارغة بأنه دعا قادة الحزب لحضور حفل تدشين الانقلاب وأن المجال مفتوح للشراكة السياسية، وهي ادعاءات فارغة لأنه لو أراد ذلك لما انقلب ولما اعتقل الرموز الثلاثة، رئيس البلاد الدكتور محمد مرسي ورئيس الحزب الحاكم الدكتور سعد الكتاتني (اعتقل يوم 4 تموز/ يوليو) والمهندس خيرت الشاطر؛ العقل التنظيمي للجماعة (اعتقل يوم 5 تموز/ يوليو 2013).

كانت خطة السيسي الرئيسة هي الوصول إلى الحكم رغم حملة تفنيد هذا الأمر، التي تزعمها قادة عسكريون مثل اللواء أحمد وصفي الذي قال في مقابلة مع عمرو أديب: "عظيم ده انقلاب.. سيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي خد نجمة زيادة؟ لقيتوا الفريق أول عبد الفتاح السيسي بقى رئيس وزرا أو بقى رئيس جمهورية"، أو مثل الشيخ علي جمعة، المفتي السابق والمرشد الروحي والمفتي الخاص للسيسي في تلك الفترة وما بعدها، والذي اعتبر أن ما جرى ليس انقلابا طالما أن السيسي لم يأخذ الرئاسة.

كانت الأيام الأولى التالية للانقلاب كاشفة عن حقيقة الأمور، ولقد حاولتُ بكافة السبل إبعاد فكرة مسلسل الدم عن مخيلتي ولكن ما قرأته عن تاريخ عبد الناصر وما جرى للإخوان ظل يطاردني، وكنت أتوقع ما جرى رغم محاولاتي نفي ذلك ولكن الجنرالات لا يخيبون الظن ولن يتغيروا أبدا ولو اهتدى إبليس ما اهتدى الجنرالات. وهذا القول أغضب مني أحد العسكريين السابقين (عليه رحمة الله)، وقد التقيته في قطر بعد الانقلاب واعتبر أن الجيش فيه رجال مخلصون ومؤمنون بحق الشعب في الحياة والحرية والديمقراطية، وانتهينا إلى ما انتهت إليه الأمور فقد عاد إلى مصر واعتقل وأفرج عنه بعد وساطات وقد تجاوز السبعين من عمره بسنوات. وحتى رئيس أركان الجيش المصري سابقا سامي عنان اعتقل هو الآخر، وأُجبر الفريق أحمد شفيق على الجلوس في البيت في شبه إقامة دائمة.

كان السيسي يسعى لكسب الوقت مع تقديم إشارات واضحة إلى أنه جاء بالقتل، فبعد اعتقال الرموز الثلاثة بُعيد بيان الانقلاب وقعت مجزرة الحرس الجمهوري الأولى في 5 تموز/ يوليو، وهي جرس إنذار باستخدام القوة المفرطة التي لا تستند إلى قانون ولا أي مبررات أخلاقية، إذ أن تجمع المتظاهرين عند دار الحرس الجمهوري وبعضهم كان يحمل الورود لا يستدعي أبدا إطلاق النار على المتجمعين الذين كانوا يطالبون بالإفراج عن الرئيس، ظنا منهم (وقد تأكد صحة الظن لاحقا) بأن الرئيس مرسي عليه رحمة الله كان محتجزا هناك.

وقد علمت من أحد قيادات الإخوان أنه تحدث مع قيادة عسكرية كبرى بغرض زيارة الرئيس في دار الحرس الجمهوري ولكنه أُبعد وعُنّف على المحاولة. ثم جاءت مجزرة الحرس الثانية بعد ثلاثة أيام من الأولى وارتفع عدد الشهداء فوق الخمسين مواطنا مصريا، كلهم عزّل وتم قتلهم بدم بارد يشبه قتل الجنود الصهاينة للمتظاهرين في فلسطين المحتلة، (يمكنكم الاطلاع على تقرير واف أعدته مؤسسة "أوراد" عن مجزرتي الحرس الجمهوري، أيضا تابع شهادة أحد شهود مجزرة الحرس 2).

أثارت المذبحتان في النفوس الكثير من الألم، وأدرك من لم يكن مدركا حقيقة السيسي أن الأمر جد خطير، وارتفعت الأصوات مطالبة بحماية المتظاهرين السلميين من بطش الجيش، ولكن البعض أصر على عدم التعرض للمنشآت التابعة لوزارة الدفاع وهي منشآت إدارية بحجة الحفاظ على الجيش، كما حافظ المتظاهرون على عدم الزج بالجيش في الموضوع ولا الزج بالإمارات والسعودية رغم تأييدهما الواضح للانقلاب وللجنرال السيسي. وقد كنت شاهدا على منع محاولات الهتاف ضد الإمارات والسعودية عدة مرات.

وبينما ترددنا في إدانة الجيش بشكل مباشر كان السيسي يورط الجيش بشكل أكبر وأوسع وأخطر مما يخطر على بال قيادات المجلس العسكري نفسه، حين قرر وبدون سابق إنذار الإعلان عن طلب تفويض من الشعب لمواجهة ما أسماه الإرهاب المحتمل. وهنا لا بد أن نتوقف قليلا، إذ أن السيسي الذي زعم لاحقا في مقابلاته المتلفزة للترويج لنفسه لدخول الانتخابات في عام 2014، والتي أنكر فيها قيامه بإدارة الحكومة المؤقتة بقيادة عدلي منصور وأنه كان مجرد وزير يعمل مع زملائه تحت إدارة عدلي منصور، هو نفسه الذي قرر وبدون استشارة أو إذن من الرئيس المؤقت عدلي منصور -على الأقل ليس لدينا ما يثبت أنه استأذن عدلي منصور في الأمر، بل إن السيسي تحدث كما لو كان رئيسا للدولة- وطلب تفويضا من الشعب مباشرة حتى دون إجراء استفتاء أو شيء من هذا القبيل، ما يعني أنه كان يدير شؤون البلاد ومسؤولا عن كل شيء فيها.

قام السيسي في يوم 24 تموز/ يوليو 2013 بالتوجه للشعب بطلب التفويض لقتل كل من يعارضه بحجة مواجهة الإرهاب المحتمل، رغم أنه هو نفسه قد أقر في اجتماع تم تسريبه وهو وزير للدفاع قبل الانقلاب بأن الجيش آلة قتل وأن مواجهة الإرهاب مسؤولية وزارة الداخلية.

طلب السيسي التفويض، وهي سابقة في التاريخ السياسي أن يطلب وزير ما وليس رئيس الدولة تفويضا من الشعب للقتل، وهذه إحدى الجرائم الكافية لمحاكمة السيسي نفسه؛ ليس لطلب التفويض واستخدامه ولكن لتجاوزه سلطات الرئيس حتى ولو كان مؤقتا. والتفويض كان بمثابة تفويض بتدشين حرب أهلية ضد مخالفيه، وهي حرب كانت جاهزة ومعدا لها من قبل وهو بطلبه هذا إنما يريد أن يحصن نفسه لاحقا. ومما يعجب له المرء أن السيسي طلب تفويضا له ليكون دليلا أمام العالم على أن ما سيقوم به الجيش والشرطة محصن بقرار الشعب الذي اعتبر خروجه في مظاهرات بمثابة تفويض بالقتل.

ما يلفت النظر أن السيسي قد قتل العشرات من المعتصمين في الحرس الجمهوري ومذبحة رمسيس الأولى في 15 تموز/ يوليو 2013 ومذبحة المنصورة في 20 تموز/ يوليو 2013 قبل طلب التفويض، يعني أن قتلهم كان جريمة بدون تفويض!! جاء التفويض (راجع نص الخطاب) على هوى بعض المنظمات المدعومة مخابراتيا وعلى رأسها حركة تمرد وبعض الساسة خصوصا المنضوين ساعتها لجبهة الإنقاذ، وكان رأي المرشح الرئاسي السابق عمرو موسى بعد إعلان تأييده للتفويض وقبوله تبرير السيسي لآلية التفويض؛ أن يكون التفويض جماعيا من رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء، ونقل عنه ما قاله في بيان منشور: "أؤيد ما قام به في الخطاب من مكاشفة ومصارحة الشعب بملابسات الأمور خلال الشهور الماضية، وتطورات الأزمة وكيف وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. وأرى أن التفويض الذي طلبه القائد العام للقوات المسلحة في خطابه يجب أن يأتي أيضاً من مجلس الوزراء حبذا لو كان مجتمعاً برئاسة رئيس الدولة".

وعلى نفس درب الكراهية المستعصية، أكد حسين عبد الغني، المراسل السابق للجزيرة وعضو جبهة الإنقاذ أيضا، أنه يرى في كلمة السيسي "التزاما باستكمال خارطة الطريق التي كان قد أعلنها وتجاوبا مع رفض الشعب المصري لجماعة الإخوان المسلمين" راجع رابط المصدر. أضف إليهما د. جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية والسياسي المعارض سابقا والذي رحب بالدعوة للتفويض واعتبر أن الجيش لا يحتاج إلى تفويض (صاحب بيت يعني)، وقال في تصريحات نسبت إليه ونشرت ببعض الصحف والمواقع: "إن الجيش ليس في حاجة إلى هذه الدعوة، ولكنها جاءت اليوم كتفويض وغطاء شعبي، تحسباً لأي متاجرة مستقبلية بتدخل الجيش". والجملة الأخيرة هي مربط الفرس، فقد حاولت فهم دعوة السيسي للتفويض متجاوزا الرئيس المؤقت ورئيس الوزراء، والسبب هو حماية نفسه مستقبلا كما قال جمال زهران.

وعلى نفس الدرب سار علاء عبد المنعم، المحامي وعضو الإنقاذ والذي اتهم الإخوان بأنهم يتخذون النساء والأطفال دروعا بشرية. واتخذت الجبهة الوطنية للتغيير نفس المسار، إذ جاء على لسان أحد أعضاء جمعيتها العمومية في محافظة الشرقية: "إن الاستجابة لدعوة السيسي بالنزول تعد واجبا وطنيا" (المصدر)، على أنه وللتاريخ نذكر أن الدبلوماسي المصري الدكتور عبد الله الأشعل رفض التفويض واعتبره تجاوزا وافتئاتا على صلاحيات مؤسسات الدولة، وتوقع أن يكون التفويض إيذانا ببدء حرب أهلية: "دعوة فضفاضة وخطيرة وغير قانونية، لأن التفويض باستخدام القوة لا يكون من الشارع وإنما من المؤسسات النيابية المنتخبة"، وقال: "إنها يمكن أن تؤدي إلى حرب أهلية". 

أما عن الدعم الإعلامي فقد كان غير مسبوق ويشبه أيام عبد الناصر وشعارات تلك المرحلة. واختارت الصحف المصرية عنوانا شبه موحد هو "فوضناك"، وطالبت الشعب بالنزول وكأنه يتوجه إلى ساحة المعركة. وهذه مفارقة، إذ أن السيسي الذي طلب التفويض للحرب على مخالفيه والذين تبين لاحقا أنهم ليسوا الإخوان المسلمين فقط، هذا الجنرال لم يخض معركة واحدة ضد أي من أعداء الدولة الحقيقيين؛ لا الكيان الصهيوني الغاصب ولا إثيوبيا التي اغتصبت مياه النيل ولا يزال يرجوها من أجل التفاوض والحفاظ على حصة مصر من النيل.

وفي ظل التهديد بالقتل بدأت أعمال مؤتمر المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، الذي بدا كما لو كان محاولة لكسب المزيد من الوقت قبل أن يقرر فض اعتصام رابعة العدوية بالقوة الباغية التي لم يحدث مثلها في تاريخ مصر المعاصر. ورفض الإخوان التصالح أو التسامح مع الانقلاب إلا بعد عودة الرئيس مرسي بصفته الرئيس الشرعي والوحيد للبلاد. لم تكن النية صادقة في التصالح والتسامح، وكيف يمكن أن تكون والبنادق مصوبة نحو الأعناق والدبابات في الشوارع والقناصة فوق البيوت، كما تم اعتقال العديد من رموز الإخوان والقادة السياسيين للحزب والدولة.

كانت تحركات العالم العربي ممثلة في زيارة وزيري الخارجية الإماراتي والقطري تمثل حالة من الشعور باختطاف مصر أو التصارع من أجل السيطرة عليها، وبدا المشهد كما لو أن كلا من قطر والإمارات تصارع من أجل إثبات أحقيتها في الإرث المصري. فقطر كانت تدعم الثورة والربيع العربي والرئيس مرسي لأنه جاء بإرادة الشعب، بينما ترى الإمارات أن الانقلاب فرصة لاستعادة مجدها القديم واستثماراتها بالمليارات في نظام مبارك المخلوع، وبالتالي كانت زيارة وزيري خارجية البلدين لمصر محاولة ليس للتوسط فقط -والله أعلم بالنوايا- بل لتمكين كل طرف مما يريد. فالإخوان يرغبون في عودة مرسي، والإمارات بالطبع تريد إبعاد الإخوان حتى لو أُفرج عن مرسي.

وتحرك الاتحاد الأوروبي وقدم مبادرة قالت عنها وكالة أنباء رويترز إنها كانت مقبولة من الإخوان كما صرح بذلك مبعوث الاتحاد الأوروبي برناردينو ليون، ولكن يبدو أن السيسي تعمد عرقلة كل المبادرات ولغّم كافة الطرق بحيث يكون الطريق إلى مجزرة رابعة ممهدا له، وإن افترى كذبا وادعى زورا أن الإخوان هم الطرف الرافض للحل (راجع تقرير رويترز).

وبقيت أمريكا في منطقة وسطى حائرة بين وصف ما جرى بالانقلاب فتغضب حليفتها إسرائيل وصديقتها السعودية، أو تؤيد الانقلاب فتصبح في ورطة أمام ادعاءاتها بدعم وتعزيز ونشر الديمقراطية. كان موقف أمريكا مائعا حتى أثناء المشاورات التي جرت قبيل فض رابعة. بالنسبة لي كان شهر تموز/ يوليو 2013 شهرا عصيبا وكئيبا، وكنت أشم فيه رائحة الدم المنبعثة مع كل جنازة تشيّع من مقر الاعتصام في رابعة العدوية، ومع كل مصاب يُحمل إلى مقر المستشفى الميداني. ورغم انشغالي بعملي كمتحدث باسم حزب الحرية والعدالة، إلا أنني وبحكم تخصصي في الطب كنت كثير التردد على المستشفى لمتابعة ما يجري هناك. وأعترف بقساوة قلبي أحيانا من كثرة ما رأيت من إصابات خطيرة مع قلة الموارد وقلة الحيلة والعجز عن تصرف الأطباء، إذ أن بعض المستشفيات خارج الميدان كانت تقوم بالإبلاغ عن المصابين فتقوم الشرطة وقوات الأمن باعتقالهم، في مشهد متكرر ينم عن حالة من التدني الأخلاقي أصابت المجتمع.

لم يساورني الشك في أن المجزرة كانت ستقع، لذا فقد رأيت بنفسي حرص الجميع في رابعة، قادة ومعتصمين، من أجل الوصول إلى حلول تحول دون إراقة الدماء، ولكن كانت إرادة الشر طاغية وكانت رغبة السيسي الدموية غالبة.

في المقال المقبل نتناول ما جرى في رابعة الصمود وما بعدها في عام الكآبة 2013.