قضايا وآراء

المشهد الإعلامي التونسي وتهافت منطق الاحتجاج القطاعي

انتهاكات ضد الصحفيين بعد بعد 25 تموز/ يوليو- الأناضول
لعل أكبر إشكال يواجه المشتغل بالشأن العام في تونس -بل في كل البلدان "السائرة في طريق النمو" مجازا، والسائرة في طريق التخلف والتبعية والفساد حقيقةً- هو استعمال مفاهيم أو مصطلحات تطابق موضوعها بحيث لا تتحول هي الأخرى إلى أداة للتزييف والدمغجة والتلاعب بالوعي الجمعي. وتكمن الصعوبة في تبيئة مفاهيم لم تنتجها الثقافات المحلية، بل وفدت عليها إما مع مَدافع الاستعمار المباشر أو مع سلعه المادية والرمزية التي فرضها وكلاؤه في نظام الاستعمار الداخلي بمختلف مكوناته الجهوية والزبونية والأيديولوجية.

وليس يعنينا في هذا المقال أن نتحدث عن المفاهيم السياسية الكبرى -مثل الديمقراطية والحرية والتقدمية والوطنية وحقوق الإنسان.. الخ- ومسارات تزييفها وترذيلها في عمليات التحديث الفوقي/ السطحي لتونس وغيرها من البلدان العربية، بل يعنينا فقط أن نشتغل على مسار مُفرد من مسارات التزييف والترذيل ألا وهو المسار الإعلامي. ونحن لن ننطلق من الجدل الواسع الذي تثيره المسلسلات والبرامج الرمضانية كل سنة دون أي تغيير يُذكر في "قواعد الاشتباك"، بل سيكون مُعتمدنا هو البيان الأخير للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين باعتبارها الممثل الشرعي لعموم الصحفيين والمعبّر الأهم عن مواقفهم من الوضع التونسي الحالي.

يعلم أي مشتغل بالشأن التونسي أن نقابة الصحفيين هي جزء من المجتمع المدني التونسي، وهو مجتمع يتعرف ذاتيا بالانتماء إلى العائلة الديمقراطية وبالانطلاق من الأرضية اللائكية في صيغتها المُتونسة، كما يتعرّف بالتقابل مع أعداء النمط المجتمعي التونسي، أي بالتقابل مع كل من يُشككون في الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة بالمفهوم البورقيبي المعروف، ذلك المفهوم الذي تُشرعنه مجازات الوطنية والتقدمية والسيادة وينسفه واقع الجهوية والتخلف والتبعية البنيوية لفرنسا. كما يعلم الجميع أن انحياز نقابة الصحفيين للقوى "الحداثية" قد جعل منها ظهيرا موثوقا لكل القوى المعارضة للإسلاميين وحلفائهم، بمن في ذلك ورثة المخلوع.

الانتهاكات الممنهجة التي تعرض لها الإعلاميون منذ الأيام الأولى لـ"تصحيح المسار" قد دفع بهذا الهيكل المهني إلى أن يتخذ مسافة من السلطة دون أن يطعن في شرعيتها أو يدعو إلى الالتحاق بالمعارضة الراديكالية للنظام. وهو ما يجعلنا نعتبر نقابة الصحفيين مكوّنا من مكوّنات "الموالاة النقدية"؛ مثله في ذلك كمثل الاتحاد العام التونسي للشغل ورابطة حقوق الإنسان والمنظمات النسوية وغيرها

إننا أمام خيار استراتيجي يضرب بجذوره بعيدا في ثنائية التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، تلك الثنائية المؤدلجة والخطيرة التي حكمت مواقف أغلب القوى "الحداثية" في عهد المخلوع وما تلاه (المرحلة التأسيسية/الترويكا، مرحلة التوافق/مرحلة تصحيح المسار).

رغم أن نقابة الصحفيين كانت من القوى "الديمقراطية" التي لم تتخلف عن تأييد "إجراءات" الرئيس التونسي يوم 25 تموز/ يوليو 2021، ورغم أن النقابة لم تعتبر تلك الإجراءات انقلابا على الدستور، فإن الانتهاكات الممنهجة التي تعرض لها الإعلاميون منذ الأيام الأولى لـ"تصحيح المسار" قد دفع بهذا الهيكل المهني إلى أن يتخذ مسافة من السلطة دون أن يطعن في شرعيتها أو يدعو إلى الالتحاق بالمعارضة الراديكالية للنظام. وهو ما يجعلنا نعتبر نقابة الصحفيين مكوّنا من مكوّنات "الموالاة النقدية"؛ مثله في ذلك كمثل الاتحاد العام التونسي للشغل ورابطة حقوق الإنسان والمنظمات النسوية وغيرها.

وقد لا يكون من نافلة القول أن نُذكر بأن هذه "الموالاة النقدية" تشترك مع الرئيس -داخليا- في رفض العودة لما قبل 25 تموز/ يوليو وفي شيطنة الإسلاميين واستهداف حلفائهم، والتطبيع مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة، كما تشترك معه -خارجيا- في الانحياز لمحور الثورات المضادة ومهاجمة المحور القطري-التركي.

يوم 28 آذار/ مارس الجاري أصدرت نقابة الصحفيين التونسيين بيانا تُعبر فيه عن موقفها من الوضع الإعلامي في البلاد، خاصة ما يتعلق بالتعيينات على رأس المؤسسات العمومية مثل التلفزة والإذاعة ووكالة تونس أفريقيا للأنباء. ولو أردنا البحث عن السبب الأساسي للنقد الموجه للسلطة فسنجده في خطابها "المتناقض"، أو بالأحرى سنجده في التناقض بين خطابها وممارستها.

ورغم اتفاقنا مع النقابة في هذا النقد الموجه للسلطة ورأسها، فإننا نرى أن التناقض أو الازدواجية أو اللا مبدئية هي صفات ملازمة لخيارات النقابة ذاتها ومواقفها. فما تعيبه النقابة على السلطة من تعيين لرموز الدعاية النوفمبرية (أي رموز آلة القمع الأيديولوجي زمن المخلوع) هو موقف بلا أي قيمة أخلاقية، عندما يأتي من منظمة مهنية كان نقيبها السابق من أهم رموز تلك الآلة الدعائية، بل هو موقف بلا أي قيمة قانونية أو سياسية بحكم تجنبه إحراج السلطة، والإشارة إلى الهايكا واشتراط المشرّع لرأيها المطابق قبل القيام بالتعيينات على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية.

ونحن لم نذكر "الهايكا" (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري) إلا للإشارة إلى عمق الأزمة الإعلامية وسطحية المطالب النقابية وتعبيرها عن الانفصام الفكري والازدواجية النفسية لأغلب النخب المهيمنة على المشهد العام. فالهايكا -حسب ما نص عليه الفصل 7 من المرسوم 116 لسنة 2011- هي هيئة دستورية منتهية الصلاحية قانونيا منذ 3 أيار/ مايو 2019، ولكنها واصلت ممارسة بعض وظائفها بصورة لا يخفى أنها كانت في خدمة السلطة قبل 25 يوليو 2021 وبعده.

ما بين رفض لتعيين رموز الدعاية النوفمبرية على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية وإدانة التضييق على الإعلاميين، وما بين تحميل السلطة المسؤولية عن الوضع والدعوة إلى إطلاق نقاش عام لإصلاح الإعلام العمومي، يبدو أن نقابة الصحفيين ما زالت تدفع كلفة انحيازها لـ"تصحيح المسار" وإصرارها على التحرك تحت سقف "إجراءات" 25 تموز/ يوليو

ونحن نتفهم عدم اعتراض النقابة على التعيينات بغياب الرأي المطابق من الهايكا، فالنقابة تعلم أن الهايكا بلا شرعية وبلا أية سلطة في زمن المراسيم والأوامر الرئاسية، ولكنها كانت تستطيع -لو أرادت- إحراج منظومة الحكم بأن تطلب تسوية وضعية الهيئة لمنع الاستيلاء على وظائفها بسلطة المراسيم والأوامر.

ما بين رفض لتعيين رموز الدعاية النوفمبرية على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية وإدانة التضييق على الإعلاميين، وما بين تحميل السلطة المسؤولية عن الوضع والدعوة إلى إطلاق نقاش عام لإصلاح الإعلام العمومي، يبدو أن نقابة الصحفيين ما زالت تدفع كلفة انحيازها لـ"تصحيح المسار" وإصرارها على التحرك تحت سقف "إجراءات" 25 تموز/ يوليو. فما لم تفهمه النقابة -بل ما لم تفهمه كل مكونات الموالاة النقدية- هو أن مشروع الرئيس -أي مشروع الديمقراطية القاعدية- لا يستهدف الأحزاب والسلطتين التشريعية والقضائية فقط، بل يستهدف كل الأجسام الوسيطة بما فيها المؤسسات الإعلامية الخاصة والعمومية على حد سواء.

وما دامت نقابة الصحفيين تعترف بشرعية السلطة الحالية وما أسسها من إجراءات وانبثق عنها من مؤسسات، فإن الاستنكار والتنديد أو الدعوة إلى "النقاش العمومي" ستكون مجرد استراتيجيات لا وظيفة لها واقعية؛ إلا شرعنة نظام الحكم (مهما كانت الانتقادات الموجهة له) وإضعاف المعارضة الجذرية له (مهما كان حجم التقاطعات معها)، وهو ما سيؤدي -كما هو بصدد التشكل تدريجيا- إلى إلغاء الحاجة إلى الموالاة النقدية وتعويضها بمكوّنات الموالاة اللا مشروطة، ولو كان رموز تلك الموالاة هم أنفسهم" رموز الدعاية النوفمبرية".

twitter.com/adel_arabi21