أفكَار

أبو يعرب المرزوقي: لغة القرآن لا تنطبق عليها المقابلة بين الحقيقة والمجاز

ابن تيمية رفض نظرية الحقيقة والمجاز على الألسن عامة وليس على لغة القرآن وحدها- (الأناضول)
يفتح الباحث والفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي في هذه السلسلة من المقالات، التي ننشرها في "عربي21" بالتزامن مع نشرها في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، اللغة القرآنية بين الحقيقة والمجاز، ومحاولة الوقوف على أهم الدلالات الفكرية والفلسفية في ذلك..


                                                        أبو يعرب المرزوقي

شرط الكلام في الغيب

إن وضع النظريتين اللتين مكنتاني من الكلام في هذه المسألة دون المساس بما حرمته على نفسي، أي الكلام في الغيب هدفه إنصاف ابن تيمية الذي رفض نظرية الحقيقة والمجاز على الألسن عامة وليس على لغة القرآن وحدها. لكن تأسيسه لموقفه على الاستعمال ليس كافيا ما لم نغير مقومات اللسان عامة (علومه ليست ثلاثة بل خمسة كما بينت في عدة بحوث: السنتاكس ثم علم الدلالة Die Bedeutung وعلم المعنى Der Sinn والتداول باللسان الطبيعي والتداولية باللسان الصناعي. واللسان العربي خاصة (مكوناته ليست ثلاثة الإسم والفعل والحرب بل لا بد من مقومين متقدمين عليها هي الصوت المسمي لذاته اصلا للبعد الموسيقي والحركة الدالة على ذاتها أصلا للبعد السرمي).

نص المحاولة

قلاني النوم فلم أقل. فدعوت الراقن لأتخلص من علة هجران النوم. تسابق أفكار مشوشة لا يمكن التخلص منها من دون ما قد يجعلني وكأني "أنهي عن خلق وآتي مثله" فأتكلم في ما يبدو من الغيب وقد بينت عديد المرات أن ذلك ممتنع فلسفيا ودينيا بعد تبين استحالة المطابقة في العلوم والقيم الإنسانية. فـحاولت تجنب ذلك وأسست الخروج من هذا المأزق بفرضيتين:

1 ـ الأولى أن العربية ليست مؤلفة من اسم وفعل وحرف بل لها مقومان متقدمان عليها هي الصوت الذي يدل بذاته على ذاته والحركة التي تدل بذاتها على عبارة بدنية. ويسمى هذان في النحو العربي اسم الصوت واسم الفعل وهي تسمية حالت دون فهم دورهما.

2 ـ والثانية لا يمكن أن نتكلم على أفعال الله أو أفعال ما يتجاوز الإنسان من دون أن يقيس الإنسان ما يتكلم عليه على أفعاله بعد أن يجعلها المعنى الأول ويجعل ما يتكلم فيه "معنى المعنى" بمفهومه عند الجرجاني.

وهذا يغني عن خرافة المقابلة بين الحقيقة والمجاز بسبب مواضعة تعبيرية. والمواضعة التعبيرية أصلها الصوت الرامز لذاته أو ما يصطلح عليه باسم الصوت نحويا والحركة الرامزة لذاتها أو ما يصطلح عليه باسم الفعل نحويا. وكلاهما في كلام الإنسان على غيره لهما دلالة المعنى الذي يتحول إلى عبارة موسيقية أو عبارة رسمية عن معنى المعنى المجرد اختير الصوت والرسم لتجسيمه.

والآن أعود إلى ما معني من القيلولة اليوم. كيف أفهم "كن" في القرآن؟ وكيف أميز بين "كن الخالقة" و"كن الآمرة"؟ أو كيف أفهم الفصل بين الخلق والأمر؟ أو كيف أفهم الفصل بين القضاء والقدر؟ وبصورة أدق كيف أفهم تجزئية فعل الله إلى بعدين خالق وآمر وما الترتيب المنطقي بينهما إن كانا متواليين؟

لا شك أن هذه أسئلة حول أمور غيبية لو تكلمت عليها قبل الفرضيتين لكنت قد "نهيت عن خلق وأتيت مثله". أما وقد اعتبرت هذا من جنس ما وصفت أعني معتبرا المعنى  رسما وموسيقى معبرين عن معنى المعنى وذلك بقياس يكون فيه لسان الإنسان بصوته وحركته هو الـمعنى الأول له "معنى معنى" وهو الثاني الذي ينقله من معنى معين إلى مجرد وليس من شهادة إلى غيب.

وصادف أن وجدت في الموقع اليوم أحد القراء استعار اسم فيلسوف الثورة الفرنسية د.روباس بيار قد أثار إشكالية العلاقة بين الطبيعة والمشيئة الإلهية. ولها علاقة بما حرمني من القيلولة اليوم. وبالمناسبة فالمشيئة يمكن اعتبارها "كن" الخالقة و"كن" الآمرة في آن. لأن  الأولى هي "أن يشاء الله الشيء" والثانية هي "أن يشاء الله كيف كونه على ما هو عليه.

لست أدري هل هو دار بهذه العلاقة. لكنه لامسها لما لاحظ المسافة بين المشيئة والطبيعة واعتبر الخلط بينهما هو الوثنية. ويمكن أن تتضح العلاقة عندما ندرك أن "شيئا" هي مصدر "شاء" وليست بالضرورة اسم الشيء عامة بمعنى الشيء الموجود Das Ding. وقد تعني قدرة تشييء أو Vermögen بدلالة إيجادية وليس قدرة أو سلطة اقتصادية.

ومع ذلك فالمعاني التي كانت تتزاحم وتتمانع في ذهني ليست هذه وإن كانت لها بها علاقة. وإنما هي مشتقات "مادة" التي تمثل الفرق الجوهري بين الرؤية الفلسفية التقليدية والرؤية القرآنية هي مشتقات  تحير أي دارس للفلسفة وخاصة إذا كان ممن اختص مثلي في فلسفة أرسطو وتحويلها للدلالة الأفلاطونية السلبية إلى بداية الدلالة الإيجابية لمعنى المادة الحبلى بكل المعاني الموجودة فيها بالقوة (هويات الأشياء التي يتداول عليها الكون والفساد).

وقد سبق أن رددت مفهوم ابن عربي "الثوابت في العدم" إلى "المعاني التي تكون المادة حبلى بها بالقوة" جمعا بين الدلالة السلبية الأفلاطونية (العدم) والدلالة الأرسطية "الثوابت". فالثوابت في العدم تعني صور المعاني أو الموجودات التي توجد في "عدم" المادة والتي تنضجها حركة الأفلاك بفعل العقول التي هي بعدة حركاته والمحرك الأول الذي هو العقل الذي يعقل ذاته فيكون بذلك المثال الأعلى الذي يشتاق إليه ما عده ويحاكيه).

ولما كان ابن عربي يعتبر العالم عين الله ـ بالمعنيين فهو عين العالم ـ وحدة الوجود ـ وبصيرته أو روحه فإن دلالة وحدة الوجود عنده لا تختلف كثيراعما بينته في كلامي على هيجل الذي يعتبر الإنسان الروح المتناهي الذي "يمثل" الروح اللامتناهي المتصالح للذات مع العالم أي المدرك له كغير في الذات.

فإذا حررت المادة من الدلالتين الأفلاطونية (مبدأ الشر في الوجود) والأرسطية (مبدأ ما ليس بالفعل) ومن الجمع بينهما عند ابن عربي وهيجل فإني قد أجد مخرجا للكلام على ثنائية فعل "كن" الخالقة والآمرة وربما الترتيب الممكن بنيهما إذا تصورناهما متواليين توالي القضاء والقدر دون تزمن.

فإذا اعتبرنا المصدر والفعل المشتق منه أصل الألفاظ العربية فإن المادة مشتقة من مصدر فعل "مد" أي من "مدًا". ثم تأتي المشتقات التي علينا ترتيبها.

1 ـ  فعندنا المعنى المصدري "مدا" ومنه اسم المد وفعل "مد".
2 ـ وعندنا المعنى العام وهو المادة
3 ـ وعندنا المعنى الممثل للمكان وهو الامتداد.
4 ـ وعندنا المعنى الممثل للزمان وهو المدة.
5 ـ وعندنا اخيرا المعنى الممثل لنسغ الحياة أو مبدأ القوة وهو المدد.

فكيف نرتب هذه المعاني؟ فلا يمكن تصور المادة من دون امتداد. ومن ثم فبعدها المكاني متقدم على بعدها الزماني لأن الثاني يحدد مدة بقاء الأول. لكن حتى لو سلمنا أن الأول "خلق" مباشرة بكن الخالقة فإن الانتقال منه إلى الثاني يقتضي مددا يمد من عمره (إن صح التعبير). فيكون البعد بحاجة إلى مدد إضافي ليكون له البعد الزماني.

والسؤال هو هذا المدد الإضافي الناقل من البعد المكاني إلى البعد الزماني هل هو "كن" الآمرة بعد كن الخالقة أم شيء آخر؟ إذا كان ذلك كذلك فمعنى أن النقلة من المكان إلى الزمان في المادة مشروط بالقدر والنقلة من عدم التمدد المكاني إليه مشروط بالقضاء. فيكون القضاء "كن الخالقة" والقدر "كن الآمرة ». فما المدد في هذه الحالة؟ فإذا كان "مكان" مصدرا ميميا من كان فمعنى ذلك أن المكان هو معنى الوجود اللامحدد أو الكينونة وهو مادة. ولما كانت "كن" تتضمن أمرين:

1 ـ صيغة الأمر.
2 ـ والمأمور به.

وإذن فكن الخالقة لا تكتفي بالإيجاد بل هي تتضمن ما يجعله وكأنه مسبوق بالتقدير لأن فيه صيغة أمر بمأمور محدد وهو الوجود المتعين. وبذلك أفهم لماذا لا نجد كلمة "زمان" في القرآن حتى وإن وجدنا ما يبدو متضمنا لبعض معانيها مثل الدهر والأزل والأبد والمدة لكنها جميعا ترد بمنظور متعال على الزمان الذي هو ليس ما يتضمنه المدد ولا المدة ولا الامتداد ولا حتى المادة بل هو يعني في العربية ما يحصل للوجود من سلوب عدمية غالبها تعني الفساد بعد الكون.

وبهذا المعنى فلا وجود لتراتب بين "كن" الخالقة و"كن"الآمرة إلا في العبارة عنهما وليس فيهما وإذن فكلمة القضاء والقدرة والأمرين "كن" الخالقة و"كن" الآمرة يمثلان معنى أول صار دالا على "معنى المعنى". وهو هذا التلاحم بين ال"كنين" المتلازمين في ذاتهما واللذين لا يمكن تصورهما إلا بفصل بينهما عندما يكونان في دلالة المعنى الأول كرسم لكنهما في دلالة معنى المعنى مقوم واحد يجمع بين الخلق والأمر.

لماذا لا نجد كلمة "زمان" في القرآن حتى وإن وجدنا ما يبدو متضمنا لبعض معانيها مثل الدهر والأزل والأبد والمدة لكنها جميعا ترد بمنظور متعال على الزمان الذي هو ليس ما يتضمنه المدد ولا المدة ولا الامتداد ولا حتى المادة بل هو يعني في العربية ما يحصل للوجود من سلوب عدمية غالبها تعني الفساد بعد الكون.
فمعنى المعنى هو أن الله لا يخلق ثم يأمر ولا يأمر ثم يخلق بل صيغة الأمر والمأمور به كلاهما فعل واحد ولا ينفصلان إلا كما ينفصل اسم الفعل "يقدم رجلا ويؤخر أخرى" كمعنى أول للدلالة على معنى ثان هو"معنى المعنى" الذي هو "يتردد" عند الإنسان. فـ"يقضي ويقدر" يمكن تطبيقها على حاكم دنيوي مثل فيكون معنى راسم لدال يليه معنى ثان هو "معنى معنى" هو مجرد فعل.

عندما أتكلم على إنسان فإني أميز بين إرادته فعل شيء وبين محاولة تقدير ما ينبغي أن يكون عليه ذلك الشيء وما يلزم لتحقيقه. فيكون الفعل الأول "قضاء" أي حكم أو عزم على شيء. ويكون الفعل الثاني ضمان شروط الانجاز ويكون الإنجاز بهما معا وهو قدر. وهذا "اسم فعل"مثل "يقدم رجلا ويؤخر أخرى" للدلالة على فعل التردد.

وإذن ـ وهذه هي الفائدة التي أريد الوصول إليها- كل كلام القرآن على الله وعلى اليوم الآخر وعلى كل غيب هو من هذا الجنس أي إنه"أسماء فعل"ترسم معنى أول يصح على الإنسان معناه الثاني أو معنى المعنى هو المقصود ولا يصح على الله إلا دلالته المجردة وهو غير المعنى الأول الذي هو دال رسمي بوصفه من جسن اسم الفعل الدال بما يرسمه رمزا للفعل المجرد.

ومن السذاجة تصور"يقدم رجلا ويؤخر أخرى" مكونين لمعنى المعنى "التردد" بل هما مكونان لصورة اخترناها من سلوك الإنسان لإفادة معنى التردد الذي لا علاقة لا بالتقديم ولا بالتأخير ولاخاصة بالأرجل والحركة في المكان حتى نقول هذه هي الحقيقة والباقي مجاز. ذلك هو المشكل العويص الذي قرب الجرجاني من حله لكنه واصل الكلام على الحقيقة والمجاز.

والآن لماذا أسمي "يقدم رجلا ويؤخر أخرى" اسم فعل في حين أنه بخلاف المتعارف من أسماء الفعل هـو من جنس "صه" التي هي صوت عديم الدلالة في حين أن مثالي هذا له دلالة ترسم بالحركة في المكان فتتصور الحقيقة مقابلة للمعنى الثاني الذي يعتبر معنى مجازيا؟ المشكل أن من تكلم على اسم الفعل تصوره ذا صلة بالصوت مثل اسم الصوت. لكنه لا صلة له بالصوت.

فالصوت في اسم الفعل ـ من حيث هو نهر المخاطب به-ليس هو الدال بل النبرة والعبارة البدنية التي ينبه بها المتكلم المخاطب ليسكته وهي من جنس "وضع الأصبع" على الشفتين للإسكات برسم لتعبير بدني. وذلك الرسم هو الدال وليس الصوت المصاحب. وقد تكفي نظرة الآمر بالسكوت دون حاجة لكلمة "صه". وبهذا المعنى فمثالي هو اسم الفعل أو رسم الحركة.

أما اسم الصوت فهو يدل بموسيقاه (تنغيم النطق وزمانه) دلالة اسم الفعل برسمه (مكان الرسم ومكوناته). ولذلك فكل لغة القرآن إما رسمية أو موسيقية في الدلالة الأولى والتي هي ليست مقصودة من الكلام على الله بل هي مما يصح في الكلام على الأنسان رسما وموسيقى لمعان مجردة تصح على الله. ومن هنا فكل ما يبدو تجسيما هو من هذا النوع من الرسم او الموسيقى التي تتحول إلى معنى أول دال على معنى ثان هو معنى المعنى.

لم يبق وقت للقيلولة. ولم أعد بحاجة إليها فقد زال وجع الرأس ولله الحمد. وبذلك أستطيع القول إن محاولة الفصل بين المحكم والمتشابه قد بلغت غايتها ولم يعد فيها ما يمكن أن أضيفه على الأقل إلى حد الآن. وقد يطرأ ما يدعو إلى العودة إلى المزيد إن كان ذلك ضروريا والله أعلم وأحكم.