بورتريه

رحيل "كائن لا تحتمل خفته".. قبل "جائزة أورشاليم"!

عربي21
أحد أكبر الأسماء في الأدب الأوروبي في العقود الأخيرة، ومن أشهر الروائيين اليساريين.

كاتب وفيلسوف، زاوج في رواياته بين الأسلوب الشاعري والسخرية من حال الإنسان.

وبرع في مزج أجواء مأسوية بروح كوميدية في تحليله لحياة المواطن في ظل أنظمة استبدادية. لعبت هذه الكوميديا السوداء دورها في جذب القراء لرواياته وبشكل خاص القارئ العربي الذي يعرفه تمام المعرفة.

ميلان كوندير المولود في عام 1929 في برنو بتشيكوسلوفاكيا، لأب وأم من التشيك، كان والده عالم موسيقى ورئيس جامعة "جانكيك" للآداب والموسيقى في برنو.

تعلم العزف على البيانو من والده، ولاحقا درس علم الموسيقى والسينما والأدب، وبعد تخرجه عام 1952 عمل أستاذا مساعدا، ومحاضرا في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية.

بدأ الكتابة أثناء فترة دراسته فنشر شعرا ومقالات ومسرحيات، والتحق بقسم التحرير في عدد من المجلات الأدبية.

وفي فترة مبكرة من حياته التحق بالحزب الشيوعي عام 1948، وتعرض للفصل بعدها بعامين بسبب ملاحظة ميول فردية عليه، لكنه ما لبث أن عاد في عام 1956 إلى صفوف الحزب.

نشر في عام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ولم يعرف كونديرا ككاتب هام إلا في عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى "غراميات مضحكة".

غير أنه سرعان ما واجه متاعب سياسية بسبب مؤلفاته، التي بدت خارج التيار الأدبي السائد، وكانت روايته "المزحة" وهي رواية ساخرة تقدم نوعا من الكوميديا السوداء نشرت عام 1967 وراء فرض حظر على كتاباته في تشيكوسلوفاكيا.

انخرط كونديرا عام 1968 في ما عرف بـ"ربيع براغ" بعد دخول الاتحاد السوفييتي إلى تشيكوسلوفاكيا، وعوقب على موقفه بطرده من وظيفته ما اضطره للهجرة إلى فرنسا عام 1975 بعد منع كتبه من التداول لمدة خمس سنوات، وغادر بلده مع زوجته فيرا التي كانت نجمة في مجال تقديم البرامج على التلفزيون التشيكي.

وعمل أستاذا مساعدا في جامعة "رين ببريتاني" بفرنسا التي حصل على جنسيتها عام 1981 إثر إسقاط الجنسية التشيكوسلوفاكية عنه عام 1978 بعد نشره "كتاب الضحك والنسيان" الذي نسجه من خطوط سردية وحمل عناصر من الواقعية في الأدب.

وتحت وطأة هذه الظروف والمستجدات كتب روايته "كائن لا تحتمل خفته"، التي جعلت منه كاتبا عالميا معروفا لما فيها من تأملات فلسفية، تدور أحداثها حول أربعة فنانين ومثقفين تشيكيين وكلب، قدم عبرهم صورة مصغرة للحياة الثقافية في بلاده وبالذات في فترة "ربيع براغ" التي انتهت عندما دخلت الدبابات السوفييتية العاصمة براغ.

وفي عام 1987، نقلت الرواية إلى الشاشة في فيلم من بطولة جولييت بينوشيه ودانيال دي لويس. لكن كونديرا أعرب عن عدم رضاه عن الفيلم، وقال لصحيفة "نيويورك تايمز" في ذلك الوقت: "يبدو لي أن الناس في جميع أنحاء العالم في الوقت الحاضر يفضلون الحكم بدلا من الفهم، والإجابة بدلا من السؤال".

وأصدر في عام 1988 روايته "الخلود"، التي تعد واحدة من أبرز أعماله.

وفي عام 1995 قرر كونديرا أن تكون روايته القادمة "البطء" باللغة الفرنسية، وفي هذا السياق قال فرنسوا ريكار في المقدمة التي كتبها، إن كونديرا حقق معادلة غريبة بعد كتابته بالفرنسية، إذ شعر قارئ كونديرا بأن الفرنسية هي لغته الأصلية التي تفوق فيها على نفسه.

كان كونديرا من بين الكتاب القلائل الذين أُدرجت مؤلفاتهم وهم على قيد الحياة في مجموعة "لابلياد" المرموقة في عام 2011.

وأشاد كثيرون بصوت كونديرا المميز، لكنه واجه انتقادات في بعض الأحيان بسبب تجسيده للمرأة في أعماله من منظور ذكوري.

وظهرت آراء متباينة بشأن روايته الأخيرة التي نشرت عام 2014 بعنوان "حفلة التفاهة" ونشرت في الأصل باللغة الإيطالية، وترجمت للعربية تحت عنوان "حفلة التفاهة"، إذ وصفها البعض بأنها "معركة بين الأمل والملل".

وعلى الرغم من ورود اسمه عدة مرات بين المرشحين لجائزة نوبل في الأدب، فإنه لم يحصل على هذه الجائزة أبدا وبقيت الجائزة حلما بعيد المنال، رغم حصوله على عدة جوائز عالمية .

وفي عام 2008، تعرض لمتاعب سياسية عندما اتهم بخيانة طيار تشيكي عمل مع المخابرات الأمريكية.

ولم يسترد ميلان كونديرا وزوجته، الجنسية التشيكية حتى عام 2019 عندما أصدر رئيس وزراء البلاد السابق أندريه بابيش قرارا بإعادة الجنسية للزوجين بعد نحو أربعين عاما من تجريدهما منها.

رحل بعد أن ترك بصمته الفريدة في فن السرد الحديث والنظرية السردية، وترك أثرا واضحا في المكتبة العربية حيث ترجمت معظم أعماله الروائية والنظرية إلى العربية، وتأثر به عدد من الروائيين العرب.

ولم يبحث القارئ العربي وحتى المترجمين إلى العربية عن أصول كونديرا التي يعتقد أنها يهودية، وعن موقفه من دولة الاحتلال، وربما يعود إلى أنهم لم يلمسوا في رواياته أي انتماء من أي نوع لليهودية أو الصهيونية أو "إسرائيل"، إلا أن قبوله "جائزة أورشاليم" الإسرائيلية التي منحت له عام 1985، قبلها أيضا كتاب عالميون آخرين، تعد نقطة غامضة في مسيرته حيث وضع الكلمة التي ألقاها أثناء استلامه للجائزة في مقدمة كتابه "فن الرواية" بالفرنسية، بطريقة غير مفهومة بشكل جلي، ربما محاولة منه لاسترضاء القائمين على جائزة نوبل للآداب، وتجاهل المترجمون العرب هذه المقدمة بعد ترجمتهم للكتاب المذكور بشكل بدا متعمدا.

 يقول في كلمته: "إن كانت الجائزة الأهم التي تمنحها إسرائيل مكرسة للأدب العالمي، فلا يعد ذلك صدفة، إنما يعود لتراث طويل. إنها الشخصيات اليهودية الرفيعة التي، بإبعادها عن أرضها الأصلية وتعاليها على المشاعر القومية، أبدت دائما حساسية استثنائية تجاه أوروبا ما فوق القوميات، أوروبا المعرَّفة ليس كأراضٍ بل كثقافة".

ويضيف: "إن كان اليهود، حتى بعدما أُحبطوا بشكل تراجيدي من قبل أوروبا، قد بقوا مخلصين رغم ذلك لهذه العالمية الأوروبية، فإن إسرائيل، مكانهم الصغير الذي وجدوه أخيرا، تبرز أمام عينيّ كالقلب الحقيقي لأوروبا، قلب غريب موضوع في ما بعد الأجساد. أستقبل اليوم بمشاعر جياشة هذه الجائزة التي تحمل اسم جيروزالم ودمغةَ هذه الروح الكبيرة العالمية اليهودية".

ويقول نقاد إن ثمة احتفاء عربي دائم ومبالغ فيه بكونديرا، مقابل جهل شبه تام بآخرين كثر، لا يشي بإدراك قارئ العربية لرأي كونديرا بدولة الاحتلال كما طرح في المقدمة.

وقالت آنا مرازوفا، المتحدثة باسم مكتبة ميلان كونديرا في مسقط رأسه في مدينة برنو في جمهورية التشيك، إنه توفي عن 94 عاما بعد صراع طويل مع المرض.

رحل ميلان كونديرا من غير أن يحتضن جائزة نوبل للآداب التي خسرته في رأي كثيرين، ولكن دون أن يقلل ذلك من شأنه، باعتباره أحد أشهر الروائيين الذين عرفهم العالم خلال القرن الماضي.

كان  كونديرا مقلا جدا في إجراء المقابلات الصحفية والإعلامية، مؤكدا أن الروائيين يجب أن يتحدثوا من خلال أعمالهم فقط.

رحل الرجل الذي أطلق اسمه على الجرم السماوي رقم 7390 المكتشف عام 1983، دون أن يفكر بالعودة إلى وطنه الأم وفضل أن يموت في منفاه الاختياري، تاركا خلفه الكثير من الضوء والوعي .