الذاكرة السياسية

الحركة الإسلامية في تونس.. سؤال تاريخ النشأة والمرجعية

ليس أمر بناء تنظيم للحركة الإسلامية في تونس بالأمر اللافت بل المثير للانتباه هو الجهاز المفاهيمي الذي حدد العلاقات بين أفراده..
ورد في حوار كانت قد أجرته مجلّة "المغرب" التونسيّة مع مؤسّس التيار اليساري بتونس نور الدّين بن خضر في العدد 94 ليوم الجمعة 1 أبريل سنة 1988، ما يلي: "حاليا أعتبر راشد الغنّوشي من المثقّفين العضويين والممتازين في تونس، ومن حقه المشروع أن يتكلّم علنا وبصراحة ويعبّر عن أفكاره، وتعبيره ضروري في بلدنا، وقد يكون أكثر جدارة منّي ليعبّر عن عمق ثقافة ومشاعر المجتمع لطبيعة خطابه الذي يكرر الترسبات والحنين إلى مجد الأسلاف".

ولم نورد هذا القول إلا لنبسط مسألة في غاية التعقيد اليوم وسوف نؤجّل قليلا جوابها: لماذا وصلنا إلى هذه القطيعة الحادّة بين الإسلاميين وجبهة اليسار والحداثيين، فذهب ريح البلد في الوقت الذي كان رأب الصدع ممكنا؟ وقبل هذا: كيف نشأ التيّار الإسلامي من بعيد لملء الفراغ الروحي ثمّ تحوّل إلى المواجهة مع "الإلحاد" قبل أن يصبح ضدّ للسلطة؟ ماهي عوامل تطوّره التنظيمي والسياسي التي خلقت منه رقما صعبا في كلّ الأزمات المتكررة للنظام والمجتمع التونسي منذ ظهوره؟ ما طبيعة هذا الحزب؟ هل هو ديني لاهوتي، مرجعا وتنظيما، كبعض الفرق الباطنيّة أم هو حزب مدني قائم على قانون الأحزاب كشرط للفعل السياسي الصميم؟ ما علاقته بالمكوّنات السياسية والمنظمات الوسيطة؟ كيف كان يتصرّف في الأزمات الداخلية والخارجية؟

النّشأة.. في حمى "جمعية المحافظة على القرآن الكريم"

لم تكن عودة راشد الغنّوشي من المشرق بعد خيبته الناصرية هي التي حدّدت ظهور تنظيم شبيه بالإخوان المسلمين في تونس بل لعلّ الخيبات الكبرى التي شهدها العرب في مشروع نهضتهم منذ رفاعة الطهطاوي ومحمّد علي باشا وعجز الدولة الوطنيّة حديثة العهد بالاستقلال عن تلبية أشواق شعوبها في النّماء والترقّي إقليميا، وانعكاس بوهيمية ثورة الطلاّب مايو سنة 1968 على شعوب المشرق والمغرب على حدّ السواء، والتداعيات الكارثيّة التي انجرّت عن تجربة "التعاضد" من تفقير للهامش ودفعه للنّزوح نحو طوق الصفيح بالعاصمة والمدن الساحليّة وطنيا، هو ما يفسّر موضوعيا مقدّمات ظهور ما سُمي في البدء بـ"الصحوة الإسلامية" لتتحوّل تدريجيا إلى ظاهرة اجتماعيّة لم تنتبه إليها السّلطة إلاّ بعد فوات الأوان.

تحدّث راشد الغنّوشي في حوار له لمجلّة "المجلّة" (تموز/ يوليو 1988) عن البدايات بقوله: "لم تكن تجمعنا خلالها (يقصد سنوات 1969- 1972) مع جماعة التبليغ أية علاقة سوى علاقة الشكل أمّا مضمون عملنا فقد كان مضمونا سياسيا هو أقرب إلى فكر الإخوان المسلمين وأقرب إلى فكر الجماعة الإسلامية في باكستان وفكر مالك بن نبي في الجزائر".

كانت البدايات دعويّة "تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر" وتحاول تعمير المساجد التي شهدت قفرا وهجرا وشهد معها النّاس فراغا روحيا، ممّا لا يشكّل من هذه الجماعة خطرا على المجتمع أو السلطة.
هذا التوجّه يؤكّد حقيقة مفادها أنّ المراجع الفكرية وروافدها التنظيميّة كانت تنهل من موارد وافدة مثلها مثل بقية التيارات الفكرية المتأثرة بالمشرق سواء النزعات العروبية أوالغيفارية أمام رثاثة السردية الوطنيّة التي كان بورقيبة ساعتها يصنع بها مجده في نوع من الاستفزاز لبعض الثوابت الدينية (الصوم وتجريم التعدد مثلا). كانت هذه الحركة في منشئها متجاوزة للقطرية والوطنيّة وترى في فكرة "الأمة" و"الجماعة" و"إرادة التحرّر" جوهر "مشروعها".

إذن كانت البدايات دعويّة "تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر" وتحاول تعمير المساجد التي شهدت قفرا وهجرا وشهد معها النّاس فراغا روحيا، ممّا لا يشكّل من هذه الجماعة خطرا على المجتمع أو السلطة. بل يبدو أنّها وجدت نوعا من التواطؤ الموضوعي عندما كانت السلطة تواجه التنظيم اليساري الستاليني "بيرسبكتيف"/ آفاق للدراسات والعمل. ذاك الذي كان من أبرز مؤسسيه صاحب القولة أعلاه في مؤسس حركة "ظلامية " كما وردت في أدبيات اليسار التونسي.

لم يكن ينقص هذه "الجماعة" التي بدأت تتميّز في سلوكها وأسلوب خطابها و"إطلاق لحاها"، سوى إطار يستوعب عملها من جنس توجهاتها وتستنبته في تربته وتمكّنه من غطاء قانوني تتحرّك ضمنه وفي كنفه. فكان لتأسيس "جمعية المحافظة على القرآن والأخلاق الفاضلة" على يد الشيخ محمد الشاذلي النيفر العضو بالحزب الحاكم آنذاك خير إطار للعمل الدعوي الذي استمرّ حتّى وقوع حادثة مسجد سوسة.

وتتمثّل في تجمّع ثلّة من شباب الدعوة في مسجد بمحافظة سوسة بالساحل التونسي فوقعت محاصرته من الأمن واقتيد الأستاذان راشد الغنّوشي وعبد الفتّاح مورو للتحقيق معهما. كان هذا الحادث حاسما في مسألة التنظّم الذي بدا لوهلة أنّه على النّمط العنقودي الشبيه بتنظيم الإخوان في مصر والشام.

ذلك أنّ لقاء قد تمّ سنة 1972 في جهة مرناق بالعاصمة التونسية بـ "دار سلامة" قد شهد أوّل الخلايا التنظيمية التي نقلت الظاهرة الدينيّة من شبه حياد إلى هيكل تنظيمي بموجبه وقع انتخاب الأستاذ راشد الغنّوشي "أميرا" للجماعة والدكتور حميدة النيفر نائبا له وأوكلت مهمّة الهيكلة لصالح كركر.

أصبحنا الآن أمام نواة صلبة لتنظيم شبه سرّي يسعى لبثّ دعوته من خلال ترديد المقولات الإخوانيّة من قبيل: "تطبيق الشريعة الإسلامية" و"القرآن هو الحلّ" وتبنّي القول السلفي المنسوبة للإمام مالك  "لا يصلح أخر هذه الأمّة إلا بما صلح به أوّلها". وبدأ ظهور مصطلح "إسلامي" تمييزا للجماعة عن سائر العامة المسلمة.

وجليّ أنّ هذا الخطاب النوستالجي البسيط ـ وربّما الساذج ـ ولكنّه بشكل ما يملأ فراغا  في السبعينيات، قد نجح في استقطاب مناصرين كُثّر من روّاد المساجد والدروس الدينيّة فاتسعت قواعد التنظيم بالحشد والتعبئة الروحية وعمرت المساجد بعد أن كانت "خاوية " على حدّ قول الأستاذ الغنوشي في حواره.

غير أنّ اللافت هنا ليس بناء تنظيم "حديدي" فالأمر متاح لأكثر من تعبيرة سياسيّة في السبعينيات. فقد شهدت تلك الفترة خروج بعض رموز الحزب الدستوري عن الإجماع البورقيبي بعد إعلان الرئاسة مدى الحياة وسوف يشكلون فيما بعد مجموعة "الديمقراطيون الاشتراكيون" بقيادة أحمد بن صالح وسوف تشهد الساحة أيضا توترا حادا بين منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل وبورقيبة بعد استقالة أمينه العام الحبيب عاشور من اللجنة المركزية للحزب الحاكم انتهت بمواجهة دامية سنة 1978 كما ستُلاحق المجموعات اليسارية وتُنصب لها محكمة أمن الدولة.

قلنا ليس أمر بناء تنظيم بالأمر اللافت بل المثير للانتباه هو الجهاز المفاهيمي الذي حدد العلاقات بين أفراده: فرأس التنظيم هو "أمير" وممثلوه في المناطق هم "عمّال" و"البيعة" هي شرط انتماء وستكون شرطا ضروريا في حضور أوّل مؤتمر تأسيسي في صائفة 1979 بضاحية منّوبة غرب العاصمة.

وبمقارنة بسيطة بين تنظيم الجماعة الإسلامية بتونس وتنظيم الإخوان المسلمين سوف نلاحظ مفارقة تطرح حقيقة علاقة التنظيمين ببعضهما. فتنظيم الإخوان قائم على مؤسسة "المرشد العام" وعن هذا تتفرّع المناطق ثمّ الشعبة فالأسرة. ولئن أخذت الجماعة بشيء من هذا غير أنّ الفهم السائد كان يستأنس بنظام "الخلافة" وما فصّل فيه الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانيّة". وهذا دليل إرباك في  الوعي التاريخي وتحفّظ "خجول" نجد مبرره في طبيعة مثل هذه التنظيمات في تأسيسها الأوّل.

ومع هذا المشغل التأسيسي حرصت الجماعة على النشاط الفكري وذلك بالمساهمة بمقالات فكرية في مجلّة "المعرفة" و"المجتمع". ومن هناك بدأ التوجّه السياسي يأخذ في التصاعد والوضوح من خلال الإعلان عن موقف سياسي من اتفاقية جربة الوحدوية (12 يناير 1974) التي وقع إجهاضها حتى قبل إمضاء البروتوكول الذي بموجبه يتمّ الإعلان عن "الجمهورية العربية الإسلامية".

ولا بدّ من تعريج ضروري هنا نعتبره مهمّا وقد يكون مبحثا لاحقا وهو ما شهدته الجماعة الفتيّة آنذاك من أوّل خروج عنها متمثّلا في مَن سمّوا أنفسهم بـ"الإسلاميين التقدميين". إذ مع تأثير الكتابات الإخوانيّة قديمها وجديدها التي انتشرت بعد خروجهم من سجون عبد النّاصر، تلقّى بعض الإسلاميين كتابات حسن حنفي التي تنسب نفسها إلى "اليسار الإسلامي" بتأثّر بالغ ورأوا في خطاب الجماعة ماضويّة سلفية منغلقة دون منجزات الفكر الإنساني المعاصر.

ولم يطل أمرهم حتى أُفردوا لعجز تكويني بنيوي آنذاك عن استيعاب المختلف والخوف من الخروج عن الإجماع ووحدة الصفّ. وأهمّ رموز هذه التعبيرة الجديدة هم حميدة النيفر والصحافيان صلاح الدين الجورشي وزياد كريشان والسياسي محمد القوماني وسيدافع عن أطروحتها بالجامعة الحبيب بوعجيلة وسوف تكون لهم مجلّة تعبّر عنهم تعمّدوا أن يجمعوا في عنوانها قرنين من الزّمان "15 ـ 21".

اقتحام العمل السياسي الذي وجدت الجماعة الإسلامية نفسها مدفوعة إليه لم يكن فقط لأسباب موضوعيّة وأمنيّة كما سيرد لاحقا فقط، بل لأنّ من أعضائها من كان مؤمنا بالعمل المدني على أساس المقاربة الديمقراطية
نحن الأن في أواخر السبعينيات والبلد على ساق واحدة بعد مواجهات 1978 بين منظمة اتحاد الشغل والسلطة التي خرج كلّ منهما منهكا. فقد زُجّ بقيادات الاتحاد في السجن وبدأ الترهّل يصيب الدولة التي استفرغت كلّ شرعيتها الوطنية وبدا أنّ يدها ترتخي على البلاد. في هذا الظّرف تقرّر الجماعة الإسلاميّة عقد مؤتمرها التأسيسي بجهة منّوبة سنة 1979 بعد أن استعدّت له منذ ثلاث سنوات بتصعيد المؤتمرين. وظلّ المعطى العقائدي التديّني هو مقياس النفاذ إلى الجهاز السياسي والإداري لجماعة شبيهة بالفرق الباطنية المتشدّدة في فرز أعضائها.

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ اقتحام العمل السياسي الذي وجدت الجماعة الإسلامية نفسها مدفوعة إليه لم يكن فقط لأسباب موضوعيّة وأمنيّة كما سيرد لاحقا فقط، بل لأنّ من أعضائها من كان مؤمنا بالعمل المدني على أساس المقاربة الديمقراطية ونقصد بنعيسى الدمني. ومن أجل هذا بدأ الاتصال بالمعارضة وببعض الشخصيات الوطنيّة مثل محمّد المصمودي مهندس اتفاق جربة لتأمين تواجدها السياسي في ظلّ "سلطة علمانية تجاهر بمعاداة الإسلام". وبشكل ما هذا الطرح يجافي شعارًا كان يحشد المناصرين حول الظاهرة الجديدة للخطاب الديني وهو "الحاكميّة لله". ورغم خفوت صوت هذا الشعار بعد ذلك فإنّه لم يغب تماما في الجدل العقائدي الداخلي ولكنّه سوف يقع تسويغه بفكرة "التمكين" قبل أن تحوّل أدبيات الأستاذ الغنّوشي "المسألة الديمقراطية" إلى أحد ثوابت الحركة الجديدة وتثبت مرونة في التعاطي السياسي له ما له وعليه ما عليه.

كان الظرف السياسي الرّخو والأزمة الاجتماعية أواخر السبعينيات بتونس وخاصّة نجاح الثورة الإيرانية وعودة "المكبوت الديني" قُبيل مؤتمر منوبة قد هيّأت مجتمعة لإنجاز مؤتمر هو في الحقيقة ليس سوى إضفاء شرعية لما تمّ منذ 1971 ولقاء دار سلامة بعده وتقنين له.

هناك أسئلة صار من الضروري طرحها قبل دخول مرحلة ما بعد التأسيس وبعضها: لماذا لم تسعَ هذه الجماعة لتأصيل نفسها "وطنيا" في فكر المؤسسة التقليدية المحافظة للجامعة الزيتونية، وخطابها في ما عُرف بـ "صوت الطالب الزيتوني" وانتظامها السياسي على سِمت "حركة الشباب التونسي" وكلّ هذه المؤسسات لها امتدادها في الحاضرة؟ لماذا اتّجهت هذه الحركة الفتيّة نحو القطيعة في بنيتها التكوينيّة؟ هل أنّ للأصول البدوية لأغلب مؤسسي الجماعة القادمين من الآفاق دورًا حاسما في هذه القطيعة؟ هل كان مؤتمر التأسيس هو حسم في "الخطّ الزيتوني" داخل الجماعة؟ ثمّ ما هو موقف بورقيبة المطعون في كبريائه آنئذ من حركة إخوانية ذات خلفية دينيّة وهو غير بعيد العهد بـ "شفاعته" في إعدام سيّد قطب عند عبد النّاصر؟

سيكون مؤتمر التأسيس بجهة منوبة خريف 1979 هو أوّل المسار الذي سيكون له ما بعده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتمدنا فضلا على حوارات مع قيادات نهضوية مرجعين مهمّين:
ـ ( برهومي ) د. صلاح الدين، الدولة الوطنيّة التونسية وتدبير التنوّع السياسي (الإسلام السياسي في تونس بين 1981 ـ 1992 )، دار مسكلياني، الطبعة الأولى 2021
ـ ( منذر) عمار، من الجماعة إلى النهضة: مساهمة في دراسة التطور الحركي والتنظيمي لحركة الاتجاه الإسلامي 1972 ـ 1987، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس 1988 ـ 1989 (بحث مرقون للحصول على شهادة الكفاءة في البحث).

* باحث تونسي