أفكَار

قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية.. في فهم سر قوة إسرائيل (1من2)

لم يطور الغرب أي مسعًى لوقف مسلسل الحروب الإسرائيلية الدائمة، ولم يقم بأي إجراء جدي للحد من سياسة الاستيطان..
يعتقد أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون الدكتور برهان غليون، أن سر قوة إسرائيل واستمرار تصدرها للمشهد في الشرق الأوسط، يعود إلى الدعم الغربي غير المحدود لها.

وأوضح غليون في هذا الفصل من كتابه "المصير" الصادر مطلع العام الجاري، والذي يختص بتحليل "المسألة الإسرائيلية"، والذي اختار إعادة نشره بالتزامن بين "عربي21" وصفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أن إسرائيل ليست الطفل المدلل للغرب، كما شاع في أدبياتنا العربية، بل سلاحه الأمضى في الاحتفاظ بعلاقة خاصة مع موارد المنطقة وموقعها..

ويشرح ذلك في هذا النص الذي ننشره في جزأين:

من أجل إضاءة إضافية على الحرب الإسرائيلية الفلسطينية رأيت أن من المفيد نشر هذا الفصل الذي كرسته لتحليل المسألة الإسرائيلية والموقع الجيوسياسي والدور الذي أنيط بها من قبل المركز الغربي في خدمة مصالح التكتل الأطلسي ما بعد الاستعماري.

ولا يترك الانخراط غير المسبوق للدول الغربية المركزية في حرب الإبادة التي أعلنتها تل أبيب ولا تزال تنفذها منذ ما يقرب الشهر على المدنيين بالدرجة الأولى مجالا لأي شك أن هذه الحرب ليست ضد فلسطين، دولة وشعبا، فحسب وإنما هي ايضا حرب غير مباشرة على دول المشرق في سبيل تقويض تطلعاتها الاستقلالية الخجولة وإعادتها إلى بيت الطاعة والإبقاء على إخصائها الاستراتيجي وإجبارها على الخنوع والاستمرار في الدوران في فلك التكتل الأطلسي والسير وراء سياساته العدوانية.

"لا توجد أي مصلحة للغرب في الفصل بين القضية اليهودية والمصالح الغربية الاستراتيجية. كما أن مثل هذا الفصل يفقد إسرائيل أهميتها ونفوذها في الغرب والعالم. وما دامت هذه المصالح ذات طابع استثنائي، سوف تبقى العلاقة أيضًا بين التكتل الغربي وإسرائيل استثنائية، ولن تكون هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية عربية ـ إسرائيلية أو إسرائيلية ـ فلسطينية. ولن تقوم علاقات ندية بين الدول العربية وإسرائيل ما لم تقم مثلها بين العرب والغرب ويتقدم مفهوم الحوار والمصالح المتبادلة على مفهوم الإملاء أو الحماية أو الوصاية والتعامل مع المنطقة كحقل صيد لا كشريك محترم وصاحب مصالح وقرار.

نستنتج من هذا التحليل أن إسرائيل ليست الطفل المدلل للغرب، كما شاع في أدبياتنا العربية، بل سلاحه الأمضى في الاحتفاظ بعلاقة خاصة مع موارد المنطقة وموقعها. وهذه هي الحال أيضًا بالنسبة إلى الموقف من العرب والمسلمين في الشرق الأوسط. فليست ثقافتهم أو ديانتهم ولم تكن هي المشكلة، بل ما تضمره وحدتها من فرص لتقريب شعوب المنطقة من بعضها بعضًا واحتمالات تشكيل تحالف أو تعاون جدي أو اتحاد يعيد رسم خطوط القوة في المتوسط ويغير التوازنات الجيواستراتيجية أيضًا، وما ينطوي عليه من إمكانيات التقدم والتنمية التقنية والعلمية والعسكرية. وما كان هذا الموقف سيتغير لو كان ما يجمع شعوب المنطقة جنوب المتوسط ثقافة واحدة يونانية أو أفريقية أو يهودية".

المسألة الإسرائيلية 

لا يمكن فهم المنحى الذي اتخذه تاريخ الشرق الأوسط الحديث من دون ذكر مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين بقرار بريطاني ودعم غربي مشترك، وتوسيع دائرة الاستيطان على حساب مصالح السكان الأصليين، ورفض أي تسوية معهم، من حروب ومواجهات عسكرية، ولا ما نجم عن ذلك كله من آثار على السلام والاستقرار ووضعية الدولة والاقتصاد والثقافة والأيديولوجيات السائدة في عموم المنطقة الشرق الأوسطية. وليس من المبالغة القول أن هذه المسألة، وما دار حولها من صراعات وارتبط بها من سياسات، هي التي شكلت الجزء الأبرز من تاريخ المشرق منذ أكثر من قرن.

يستدعي هذا الفهم تمييز المسألة الإسرائيلية من المسألة اليهود ية. فالمسألة الإسرائيلية تعني ما أحدثه قيام دولة إسرائيل من وقائع ونزاعات وتحالفات مستجدة غيرت وجه الشرق الأوسط، وبكلمة أبسط التكلفة السياسية والجيوسياسية لقيام إسرائيل دولة يهودية في عام 1948 على حساب دولة فلسطين التي سبقتها وفي مكانها، وإن كانت في ذلك الوقت تحت الانتداب. وهي تختلف عن المسألة اليهودية الأوروبية التي تتعلق جوهريًّا بالتمييز العنصري الديني ضد شعب أو طائفة خلال قرون طويلة بسبب دينها أو عرقها، والتي ارتبطت تاريخيًّا بالمسيحية الكاثوليكية الأوروبية. كما تختلف عن المسألة الفلسطينية التي تعنى بمصير شعب أجبر على الخروج من وطنه في إطار تطبيق الوعد الذي قدمه وزير خارجية دولة استعمارية كبرى، بريطانيا، لقادة المنظمة الصهيونية، ومن ثم كفاحه من أجل العودة والاعتراف بوجوده كشعب وحقه في تقرير مصيره.

لا يترك الانخراط غير المسبوق للدول الغربية المركزية في حرب الإبادة التي أعلنتها تل أبيب ولا تزال تنفذها منذ ما يقرب الشهر على المدنيين بالدرجة الأولى مجالا لأي شك أن هذه الحرب ليست ضد فلسطين، دولة وشعبا، فحسب وإنما هي ايضا حرب غير مباشرة على دول المشرق في سبيل تقويض تطلعاتها الاستقلالية الخجولة وإعادتها إلى بيت الطاعة والإبقاء على إخصائها الاستراتيجي وإجبارها على الخنوع والاستمرار في الدوران في فلك التكتل الأطلسي والسير وراء سياساته العدوانية.
نجمت المسألة الإسرائيلية عن زواج لا شرعي بين شعب مضطهد هو الشعب اليهودي ونظام استعماري يضطهد الشعوب الأخرى، وجعل من المضطهدين "بالفتح" أداة في يد المضطهدين "بالكسر" ضد شعب لم يشارك لا من قريب ولا من بعيد بهذا الاضطهاد النابع من التمييز "ضد السامية". ومن هنا ارتبط تحقيق الحلم اليهودي، الذي واكب في القرن التاسع عشر حلم أكثر الشعوب بالخلاص من الاضطهاد والتمييز والشتات من خلال تأسيس دولة خاصة ومستقلة، بالخطط البريطانية والفرنسية لتقاسم ممتلكات السلطنة العثمانية بعد رحيلها. وجاء حصول اليهود على دولة مستقلة على حساب شعب آخر، واقتضى تأكيد الهوية اليهودية للدولة، انضواء هذه الدولة ضمن مشاريع السيطرة الاستعمارية على المنطقة وخططها وخياراتها الاستراتيجية وأجنداتها الإقليمية.

هكذا لم تعد إسرائيل مشروع دولة يهودية فحسب ـ تحرير اليهود من اللاسامية والتمييز العنصري ـ بل وسيلة إضافية في يد السلطات الاستعمارية الأوروبية للتدخل في شؤون الشعوب المشرقية للحفاظ عليها في دائرة نفوذها. وصارت حروبها لتأكيد وجودها وتوسيع رقعة سيطرتها واستيطانها اليهودي جزءًا من حروب السيطرة الاستعمارية البريطانية ـ الفرنسية.

وهذا ما أدى إلى تماهي الطرفين في الواقع في تطبيق سياسة معادية للعرب ومناهضة لتحررهم، وزاد من نظر العرب إلى إسرائيل بوصفها دولة أداة ومخلب قط أكثر مما هي ملجأ لشعب يهودي مسالم يريد التحرر من وطأة التمييز الممارس عليه في الدول التي أصبحت الداعمة الرئيسية له في حربه ضد الشعوب العربية، ودفع العرب إلى أن يروا في هذه الحرب المستمرة منذ ما يقارب القرن حربًا بالوكالة لمصلحة العواصم الغربية.

هكذا أصبحت إسرائيل هي المشكلة الجديدة التي حلت محل المشكلة الاستعمارية والتعبير عن استمرارها في المشرق العربي بعد انحسار حقبتها الكلاسيكية، أي بعد تصفية الاستعمار في نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالفعل، بقي الشرق الأوسط وحده يرزح تحت عبء قوة قاهرة خارجية، مسلحة ومدعمة ومكفولة من الغرب، وأمام حركة استيطان تهدف إلى إحلال مهاجرين "بيض" محل سكان البلاد الأصليين، تحمي قرارها بقوة السلاح الذي ضمن لها الغرب حق استخدامه من دون رادع ولا قانون، وأمن لها التفوق المطلق على جميع دول المنطقة، مجتمعة أو منفردة، ومن ثم حرية الحركة من دون مساءلة ولا حساب ولا عقاب. وكان بعد كل حرب على جيرانها يكافؤها على الانتصار بتقديم المزيد من المنح والمساعدات والدعم السياسي والعسكري لها.

هكذا تحول الشعب اليهودي الضعيف والضحية إلى مارد لا يقهر، وأصبحت دولة صغيرة لا تعد بضعة ملايين من السكان قادرة على سحق أمة من شعوب بمئات الملايين من البشر. أصبحت إسرائيل أسطورة في الغرب، بمقدار ما بدت تعويضا عن نهاية الاستعمار وانتقاما من الشعوب التي طالبت به. وصار سحرها والتماهي معها يطغى على كل ما تفعله وما ينجم عن حروبها من زعزعة لم تتوقف لاستقرار المنطقة وتوازناتها المادية والمعنوية، ومن تسميم للعلاقات بين دولها وشعوبها وتدمير لمعنويات جمهورها واستقراره النفسي العميق. هذا ما جعل المشرق يعيش، بخلاف أوسع مناطق العالم، مناخ الحقبة الاستعمارية الكلاسيكية وينتج ردود أفعالها وقيمها وتقاليدها ويفقد شيئًا فشيئًا معالم التقدم والازدهار الفكري والاجتماعي والتفاؤل الذي حققه في الحقبة السابقة.

استخدم الغرب في العقود الماضية، من دون أدنى شك إسرائيل، لتمرير خياراته وتأمين مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية في بلدان المشرق، وكانت حكومات إسرائيل سعيدة في أن تقوم بالخدمة لما يحققه لها ذلك من مكانة عالية في الغرب ومن رادعية أو قوة ردع كافية ومضمونة ضد شعوب المنطقة الطامحة، في ما وراء الدفاع عن القضية الفلسطينية، إلى استقلال حقيقي.

هذا ما يفسر سياسة الغرب تجاه تسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي وتجاهله لجميع المبادرات التي قامت بها دول عربية رئيسية، مثل مصر والمملكة العربية السعودية لوضع حد للنزاع مع تلبية التطلعات اليهودية الأساسية. فبدل أن تعمل الحكومات الغربية، بيسارييها ويمينييها، على المساعدة على إيجاد حل للمعضلة الإسرا ئيلية، سعت بالعكس إلى تأجيجها لدفع البلدان العربية إلى مزيد من الالتصاق بهذه الحكومات والخضوع لمطالبها. أصبح جيش إسرائيل القوي السوط الذي يمسك به الغرب لتطويع القيادات العربية "الناشزة" وتركيعها.

من هنا، لم يطور الغرب أي مسعًى لوقف مسلسل الحروب الإسرائيلية الدائمة، ولم يقم بأي إجراء جدي للحد من سياسة الاستيطان، بل غالبًا ما كان يشجع تل أبيب عليها ويقدم المساعدات السخية لتطويرها، من وراء الكلام الاستهلاكي عن "أن الاستيطان لا يخدم قضية السلام" الذي اعتاده العرب والإسرائيليون معًا.

وليس من الصحيح أن المسألة الإسرائيلية مستعصية على الحل، ولا يوجد مجال للتدخل لإنهائها ما دام الأمر نزاعًا على الأرض ذاتها من شعبين كما يشاع. فهكذا كان الحل في جنوب أفريقيا، وكان الحل هو بالضبط ما اكتشفه الغرب نفسه قبل قرنين أو أكثر، أي دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها، بصرف النظر عن أصولهم ودياناتهم. وهذا ما يطلبه من الدول العربية إزاء الأقليات. فقد كان الحل موجودًا دائمًا منذ البداية في هذه الدولة العلمانية التي تساوي بين جميع مواطنيها وكان يمكن لفلسطين أن تكون منذ عام 1948 دولة العرب والي هود الذين ولدوا فيها أو قدموا إليها من البلدان الأخرى، هذه الدولة الديمقراطية اللاعنصرية.

لم تعد إسرائيل مشروع دولة يهودية فحسب ـ تحرير اليهود من اللاسامية والتمييز العنصري ـ بل وسيلة إضافية في يد السلطات الاستعمارية الأوروبية للتدخل في شؤون الشعوب المشرقية للحفاظ عليها في دائرة نفوذها. وصارت حروبها لتأكيد وجودها وتوسيع رقعة سيطرتها واستيطانها اليهودي جزءًا من حروب السيطرة الاستعمارية البريطانية ـ الفرنسية.
لكن الغرب فضل، لمصالح استراتيجية محض، خيار الدولة العنصرية التي تقصي شعبًا لحساب آخر، ولم يعترض على طرد الفلسطينيين ولم يسع إلى إعادتهم إلى وطنهم الإصلي، بل تبنّى موقف التيار الصه يوني الإقصائي، وعززه بتبنيه أيضًا خطاب زعماء إسرا ئيل حول العرب وعدوانيتهم واستحالة التعايش معهم، وهم الذين حضنوا الي هود وشاركوهم شؤونهم كلها، بما فيها السياسية، عندما كانت المجتمعات الغربية تفرض عليهم العيش في معازل مغلقة وتمارس العنصرية ضدهم.

كما أنه ليس من الصحيح ما يدعيه الغربيون وأصبح ترداده وسيلة لذر الرماد في العيون، وقبل به الفلسطينيون والعرب، أن عدم التوصل إلى حل، سواء بتطبيق قرارات الأمم المتحدة المتتالية أو بفتح مفاوضات جدية بين الطرفين على أساس مبدأ حل الدولتين، ناجم عن عصيان الحكومات الإسرا ئيلية بالرغم من التنامي المستمر في غطرسة قادتها.

إن الإبقاء على النزاع العربي ـ الإسرائيلي هدف قائم بذاته، فهو يخلق بؤرة توتر دائمة في المشرق العربي يعطل الجهود العربية ويستنزف موارد دولها ويشغلها عن قضايا التنمية الحضارية الرئيسية، إضافة إلى كونه مدخلًا للضغط والتأثير واحتواء تمرد الحكومات وتذكيرها بدونيتها في أي لحظة. فإسرائيل الرافضة أي سلام مع العرب هي، بصرف النظر عن المسألة اليهودية، أهم أسلحة الغرب اليوم في تأبيد السيطرة على المنطقة وإخضاع حكوماتها واستتباعها.