تواصل
مصر خطواتها نحو تقليل الاعتماد على
الدولار الأمريكي الذي تعاني سوقها المحلية ندرة منه منذ الربع الأول من العام الماضي، في خطوة
اقتصادية ثمنها خبراء في حديثهم لـ"عربي21"، لكنهم أشاروا إلى وجود معوقات يجب تذليلها أولا لنجاح هذا التوجه.
وبعد إقرار التعامل بالعملات المحلية بين مصر وتركيا، تقترب القاهرة صاحبة أكبر اقتصاد في شمال قارة أفريقيا من التوصل إلى اتفاق مع
السعودية الدولة العربية الخليجية بشأن استخدام عملاتها المحلية في تجارتها البينية، والتخلي في المقابل عن التعامل بالدولار في تجارتها الدولية.
وخلال زيارة وفد سعودي برئاسة وزير التجارة ماجد عبدالله القصبي، لمصر، قال رئيس جهاز التمثيل التجاري بوزارة التجارة والصناعة المصرية، يحيى الواثق بالله، لموقع "الشرق مع بلومبيرغ" إن البلدين يفكران في استخدام عملاتهما المحلية في جزء من التجارة المتبادلة بينهما.
ويعد الاقتصاد السعودي من أكبر 20 اقتصادا في العالم، وأكبر اقتصاد عربي وبالشرق الأوسط، إلى جانب دور الرياض كعضو دائم وقائد لدول "أوبك" المصدرة للنفط.
بينما يعاني الاقتصاد المصري أقدم اقتصاديات العالم، من أزمات هيكلية خطيرة وتغول أزمة الديون البالغة أكثر من 165 مليار دولار، وحلول آجال الكثير من الفوائد والأقساط، وسط تفاقم معدلات التضخم والبطالة والفقر.
كما أن معدل نمو الاقتصاد المصري انخفض إلى 3.8 بالمئة خلال العام المالي 2022-2023، بأقل من نسبة 4.2 بالمئة المستهدفة خلال العام، وأقل للنصف تقريبا من معدل نمو العام المالي الماضي.
ويبلغ سعر الريال السعودي رسميا في مصر، نحو 8.24 جنيه مصري، وهو المعدل الذي يزيد بنحو 5.5 جنيه في السوق السوداء الذي يصل فيه سعر الريال إلى نحو 13.75 جنيه.
توجه مصري
ويأتي هذا الإعلان وفق توجه مصري لتقليل التعامل مع الدول بالعملات الصعبة وخاصة الدولار، وذلك في ظل فجوة تمويل خارجي ونقص سيولة تعاني منها مصر.
ذلك النقص قدره تقرير لبنك "nbk"، بنحو 12 مليار دولار في 2023، فيما قدر كبير المحللين الاقتصاديين بقطاع البحوث في مجموعة "إي إف جي هيرميس" محمد أبو باشا، تلك الفجوة بنحو 8 إلى 10 مليارات دولار.
ويبلغ احتياطي النقد الأجنبي المصري نحو 35.1 مليار دولار بنهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وذلك بعد أن فقدت مصر نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة إثر الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي.
لكن، يغلب على ذلك الاحتياطي الودائع الخليجية، للسعودية والإمارات وقطر والكويت وليبيا البالغة نحو 30 مليار دولار، ولهذا فإن الحكومة المصرية تنتهج خطوات متتابعة للتعامل بالعملات المحلية في التجارة مع دول أخرى، بينها تركيا والهند.
وفي 14 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، بحث وزير المالية محمد معيط، والسفير الهندي أجيت جوبتيه، بالقاهرة استخدام العملات المحلية لتسوية المدفوعات بين البلدين.
وفي 12 تشرين الأول/ نوفمبر الجاري، أكد موقع "الشرق مع بلومبيرغ" أن البنك المركزي المصري يدرس اعتماد نظام المقايضة التجاري مع الهند وروسيا وكينيا، بدلا من الدولار، في عمليات تم بعضها مع القطاع الخاص بضمان البنك المركزي المصري.
وفي 3 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اعتمدت مصر وتركيا بشكل مبدئي آلية التبادل التجاري بالعملات المحلية، وهي الحركة السنوية البالغة بين 6 و8 مليارات دولار.
والأحد الماضي، وعد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي، بانتهاء أزمة نقص النقد الأجنبي في البلاد قريبا، وذلك في الوقت الذي يوجد في البلاد أكثر من سعر للدولار، حيث يسعره البنك المركزي رسميا بـ30.83 جنيه للدولار، فيما وصل بالسوق السوداء لأكثر من 50 جنيها.
أهمية الاتفاق
وتتمثل أهمية توجه البلدين العربيين للتعامل بالجنيه والريال بديلا عن الدولار، في أن حجم التجارة بين البلدين كبير، حيث وصل في العام الماضي إلى 20.4 مليار دولار، وفقا لأرقام الهيئة العامة للإحصاء السعودية.
كما أن حجم استثمارات القطاع الخاص السعودي في مصر بلغ 35 مليار دولار، وفقا لتصريح رئيس مجلس الأعمال السعودي المصري بندر العامري، الأحد الماضي.
وتواصل الشركات السعودية وصندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي السعودي) عمليات الاستحواذ على الأصول والشركات العامة المصرية التي قررت حكومة القاهرة بيعها أو طرحها بالبورصة، حلا لأزماتها المالية، وتنفيذا لأجندات صندوق النقد الدولي بتقليص ملكية الدولة لصالح القطاع الخاص.
وفي آب/ أغسطس 2022، دشن صندوق "الاستثمارات العامة السعودي"، "الشركة السعودية المصرية للاستثمار"، بهدف الاستثمار في مصر بقطاعات البنية التحتية، والتطوير العقاري، والرعاية الصحية، والخدمات المالية، والمشاريع الغذائية، والزراعية، والصناعية.
ودعما لرئيس النظام عبدالفتاح السيسي، ومنذ منتصف 2013، أودعت الرياض بالبنك المركزي المصري نحو 10.3 مليار دولار، منها 5 مليارات دولار ودائع قصيرة الأجل، وأخرى بقيمة 5.3 مليار دولار متوسطة وطويلة الأجل، بحسب تقرير للبنك المركزي المصري.
ورغم تعثر العديد من صفقات الاستحواذ السعودية على أصول مصرية نظرا لخلافات حول تقييم الصفقات بالجنيه أم بالدولار الشهور الماضية، إلا أن تدفق الاستثمارات السعودية إلى مصر يبدو أنه عاد لينتعش.
وكان آخر ما تم الإعلان عنه، الاثنين الماضي، بضخ شركة "فاس للاستثمار والتطوير العقاري"، التابعة لمجموعة "فواز الحكير" السعودية استثمارات بـ 1.5 مليار دولار في مصر خلال 2024، بقطاعات الطاقة والعقارات والبنية التحتية.
"مهمة وناجحة.. ولكن"
وفي قراءته الاقتصادية لإمكانية نجاح هذا التوجه المصري السعودي، ومدى قدرته على حل أزمة مصر مع الدولار، والعقبات التي قد تواجهه، قال الخبير الاقتصادي والمستشار الأممي السابق الدكتور إبراهيم نوار، إن "اتفاقيات تسوية المعاملات التجارية بالعملات المحلية تعتبر وسيلة مهمة وناجحة".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أنها "من وسائل التغلب على مشكلة شح
العملات الأجنبية لدى طرف من الطرفين أو كليهما"، لافتا إلى أن "الأمر نفسه ينطبق على اتفاقيات المقايضة"، مبينا أنها "نوع من التسويات العينية اعتمدت عليه مصر في تسوية معاملاتها التجارية مع روسيا في ستينيات القرن الماضي".
وأوضح الخبير المصري، أنه "في الحالتين يتم استخدام العملات المحلية أو المقايضة العينية في حدود مبلغ معين، وطبقا لآلية محددة سلفا لتقييم سعر الصرف، ولمدة زمنية محددة".
وبين أنه "في العادة تكون قيمة التسويات بالعملة المحلية ناجحة في حال وجود قدر من التوازن في المعاملات التجارية، أما في حال وجود خلل كبير بين أرقام الصادرات والواردات، فتكون التسويات بتلك الطريقة محدودة وقليلة الفائدة، خصوصا مع تدهور سعر الصرف في عملة الدولة التي تعاني من العجز".
ولفت إلى أن "الحكومة المصرية تتوجه إلى توسيع نطاق استخدام آلية المقايضة العينية، وآلية استخدام العملة المحلية، في تجارتها مع دول: الصين، والسعودية، وروسيا، والهند، وكينيا، وغيرها من شركائها التجاريين".
"الطريق الأمثل"
لكن نوار، يرى أن "الاتفاقات المنظمة لهذه الآليات تكون صعبة، وربما تؤدي إلى قدر من عدم الكفاءة الاقتصادية"، ويعتقد أن "الطريق الأمثل لتجنب ذلك هو توقيع اتفاقيات بين مصر وبعض شركائها التجاريين لمبادلة العملات بين البنك المركزي المصري، والبنوك المركزية المعنية، بمبالغ محددة ولمدة محددة يجوز تجديدها".
وفي روشتته الاقتصادية أضاف: "إذا أردنا توجيه نصيحة إلى البنك المركزي المصري في هذا الشأن، فإن تلك النصيحة هي السعي إلى عقد اتفاقيات متعددة الأطراف لمبادلة العملات مع الدول التي وقعت فيما بينها اتفاقات لمبادلة العملات المحلية، ومنها (السعودية- الصين)، و(روسيا- الهند)، و(الإمارات- الصين- الهند)".
وأكد أن "الميزة التي تتيحها الاتفاقيات متعددة الأطراف هي أنها تسمح لمصر بمرونة أكبر في استخدام الأرصدة المتاحة لديها من عملات هذه الدول في تسوية مدفوعات ثنائية بعملة دولة ثالثة".
وأوضح أن "هذا يتطلب اتفاقا مشتركا لخلق آلية مشتركة متعددة الأطراف لاستخدام العملات المحلية طبقا للشروط التي يُتفق عليها".
"ضغوط ومعوقات"
ولفت الخبير المصري في نهاية حديثه إلى جانب آخر من المعوقات، مؤكدا أن "استمرار العجز التجاري وضآلة معدلات الاستثمار، وارتفاع قيمة مطلوبات خدمة الديون من شأنها أن تضغط دائما على قيمة الجنيه المصري، وهو ما يقلل مصداقية تلك الاتفاقات".
وأضاف: "ومن ثم فإن إعادة الثقة في الجنيه المصري سواء في التسويات بالعملات المحلية أو بغيرها تتوقف على زيادة وتنوع الإنتاج القابل للتصدير، وهو ما تفتقر إليه مصر في الوقت الحاضر".
وخلص للقول: "إذا لم يكن لدى مصر ما تصدره، فإن أية اتفاقيات للتسوية بالعملة المحلية أو بالمقايضة تفقد قيمتها، وتصبح مجرد آلية قصيرة الأجل لتخفيف الآلام وتجنب السقوط السريع".
"مساع محمودة.. ولكن"
وفي رؤيته، قال الكاتب والباحث الاقتصادي المصري محمد نصر الحويطي: "بداية لا توجد إشكالية أو معضلة في محاولة الحكومة المصرية تخفيف وطأة أزمة عدم توافر الدولار محليا، سواء مع السعودية، أو مع الجانب التركي".
لكن الحويطي، وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أن "الأزمة هنا تظل في حجم التبادل التجاري، وقدرة أي من الاقتصادين على تحمل فاتورة التعامل التجاري بالمقايضة أو العملة المحلية".
ويعتقد أن "الأمر قد يبدو في ما يتعلق بالمقايضة بالعملات المحلية بالنسبة للعلاقة بين مصر والسعودية مقبولا، لكن يظل الجانب السعودي لديه الأريحية في هذه المعادلة".
وأوضح رؤيته متسائلا: "كم مليون مصري يعمل في السعودية؟ وكم مليون مصري يسافر لأداء مناسك الحج والعمرة سنويا؟"، مبينا أن "كل هذه عمليات قد تدخل مجازا تحت حركة التبادل التجاري، مع اعتبارات أن السعودية حقيقة تستورد من مصر أكثر ما تصدره لها".
وعن إمكانية أن تخفف هذه المبادرات من حدة أزمة الدولار في مصر من عدمه، يعتقد الباحث المصري، أن "هذه كلها محاولات ومساع محموده، لكن لا يمكن أن تكون هي العنصر الأساسي الذي يمكن التعويل عليه".
وختم حديثه بالقول إنها "في نهاية المطاف تقلل من حجم الإيرادات الدولارية لمصر، خاصة أن كل عملية مقايضة يضيع أمامها عائد دولاري كان من المفترض سيدخل خزانة الحكومة المصرية، حتى وإن كان سيوفر دولارا".
خطوة جيدة
من جانبه، قال أكاديمي مصري فضل عدم ذكر اسمه في حديثه لـ"عربي21": "في البداية تعتبر السعودية أكبر داعم للدولار لأن كل تعاملاتها تعتمد على العملة الخضراء بالإضافة إلى ثبات الدولار أمام الريال بنسبة كبيرة".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أستاذ الاقتصاد المصري، أن "تعاملات مصر مع السعودية ليست بالكبيرة، ولا تزيد على الـ10 بالمئة... ورغم ذلك أراها خطوة جيدة أن يتم التعامل بالجنيه المصري والريال السعودي بين القاهرة والرياض".