أضحت التحولات
المتسارعة تدفع في اتجاه الطلب على نموذج قيمي أكثر إنسانية لاسيما بعد الإفلاس
الذي أصاب النموذج الليبرالي الغربي، من حيث كونه نموذجا قيميا قائما على مقولة
حقوق الإنسان.
العالم اليوم
أدرك، وفي أكثر من محطة ونزاع دولي وإقليمي، أن ليس ثمة جدية في تأمين منظومة حقوق
الإنسان بوصفها منظومة تؤطر العلاقات الإنسانية، وتؤطر العلاقات الدولية، وتراعى
عند تدبير النزاعات وتسويتها وكذلك في الحرب، وأن الأمر لم يتوقف عند حدود ترسيخ
سياسة الكيل بمكيالين أو الازدواجية في النظرة إلى الإنسان، قبل حقوقه، بل اتجه
إلى ترسيخ مبدأ إمكانية أن يذهب الأمر إلى حد تسويغ مختلف جرائم الحرب من قبيل
التطهير العرقي، وإبادة الشعب، والتهجير القسري وغيرها، في سيبل الدفاع عن مصالح
استراتيجية تخص طرفا مهيمنا على العالم، أو يرجو أن يضمن ويؤمن ديمومة هذه
الهيمنة. فالحرب على
غزة، أثبتت بوضوح كامل، أن المؤسسات الأممية التي أقيمت أصلا
لتكون إطارا لتأمين حقوق الإنسان، وتأطير العلاقات الدولية بوحي من مبادئ هذه
المنظومة، أصبحت ليست فقط معطلة، بل صار البعض يستبيح اتهامها، إلى درجة أن
مسؤولين إسرائيليين لم يكفوا عن مهاجمة الأمين العام الأممي والحديث بشكل مباشر عن
عدم إمكانية أن يترشح مرة أخرى لهذا المنصب.
في المحصلة،
إذا كانت الحرب الروسية على أوكرانيا، عكست في الجوهر انهيار النظام الدولي
القديم، وبداية تشكل نظام آخر على أنقاضه، وبروز أدوار أخرى لقوى دولية وإقليمية،
تريد أن تساهم في تقليص مساحة الهيمنة الأمريكية والأوروبية، فإن حرب غزة، نقلت
الموضوع إلى مستوى آخر، غير إحداث التوازن في موازين القوى، مستوى آخر، يستمد
شرعيته من منظومة القيم والأخلاق.
المقاومة
بوصفها مبدأ أخلاقيا مشروعا
قبل الحرب على
غزة، اتجهت كثير من الدول، بل وحتى الشعوب الموجهة بالدعاية الإعلامية الغربية،
إلى تبني المقاربة الأمريكية بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي. والتي تركز على
نقطتين اثنتين، أولهما، حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وثانيهما أن السلطة
الفلسطينية هي التي تمثل الشعب الفلسطيني، حيث يتركب عن هاتين النقطتين، حكم جاهز،
يتم تعميمه بشكل واسع حتى بدأت بعض الدول العربية تتبناه، أو على الأقل تصرفه من
خلال بعض الإشارات الواردة في بلاغاتها الرسمية أو تدخلاتها في المؤتمرات العربية
أو الإسلامية أو الدولية.
ينطلق هذا
الحكم من أن أي فصيل فلسطيني مقاوم، لا يمكن له أن ينوب عن السلطة الفلسطينية في
تدبير الصراع مع "إسرائيل"، وأن التسوية السلمية، حتى وقد انهار أفقها،
وخرق الكيان الصهيوني كل التزاماته اتجاهها، تمثل الخيار الوحيد المطروح على
الطاولة، وبالتالي، يتم تصنيف كل فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس، في
قائمة الحركات الإرهابية.
في
الإيديولوجية العربية الرسمية، ثمة تكييف ذكي، يرى أن الدول العربية لا يمكن لها
أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، وأن الشعب الفلسطيني اختار ممثله
الشرعي والوحيد (منظمة التحرير) وأنها
اختارت تقديرا منها للمصلحة الفلسطينية الاستراتيجية، الانخراط في مسلسل التسوية،
وقبلت بمترتباته، وأراحت بذلك الدول العربية من تحمل مسؤولية هذه القضية، بما
تطلبه في بعض المحطات التاريخية من كلفة عسكرية كبيرة (ثلاث حروب) ومن ثمة، سوغت
لنفسها أن تكون خصيمة ـ ولو بشكل غير معلن ـ لفصائل المقاومة الفلسطينية، وذلك من
جهتين، كونها ـ حسب التكييف الرسمي العربي
ـ تربك المعادلات، وتجر المنطقة لحرب لا تتحملها دول الجوار، خاصة منها المرتبطة
باتفاقيات السلام مع إسرائيل، ثم كونها تنفذ أجندة إيرانية في المنطقة، لا علاقة
لها لا من قريب ولا من بعيد بحقوق الشعب الفلسطيني، وإنما تخدم أهدافا خاصة لإيران
التي تفاوض بالقضية الفلسطينية وبمحاور المقاومة في أكثر من منطقة لتحسين تموقعها
في طاولة التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية برنامجها النووي أو مصالحها في المنطقة.
حولت المجازر الصهيونية التي تستهدف أطفال غزة ونساءها والبنية التحتية والخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني إلى رأي عالمي، لا يكتفي فقط بإدانة الوجه الوحشي للاحتلال، بل يقر أيضا بالحق الأخلاقي لحركات المقاومة في التصدي للاحتلال والدفاع عن قضيتها وحق الشعب الفلسطيني في الأرض.
كان من الممكن
لهذه الرواية الغربية، والتكييف العربي الرسمي، أن يكون له بعض الشرعية لو اتجهت
آلة الحرب الصهيونية إلى الأداة العسكرية لفصائل المقاومة، ونأت بالنفس على المس
بمصالح الشعب الفلسطيني، ومتطلباته الأساسية في العيش. لكن، تسطير قادة
الاحتلال
لهدف إبادة جزء كبير من الشعب الفلسطيني، وإجبار الجزء الآخر على النزوح إلى سيناء، والخروج بالمطلق
من أرض غزة (سياسة التهجير القسري)، وذلك بدعم أمريكي وأوربي ظاهر، أعاد السؤال إلى مربع الصفر، أي إلى اللحظة
التي بدأ فيها النقاش عن جدوى مسلسل التسوية، إذ ظهر بما لا يدع مجالا للشك، أن
السلطة الفلسطينية، أضحت عاجزة بالمطلق عن
تقديم أي جواب، بل اقتنع الشعب الفلسطيني، أن مخطط التهجير القسري كان في جوهره
نتيجة طبيعية للمسار الذي انخرطت فيه السلطة، وأن المقاومة هي التي فرضت من خلال واقع
المعركة الميدانية إفشال هذا المخطط بالكامل.
لقد ساهمت
الحرب الصهيونية على غزة في إعادة تأسيس المبدأ الأخلاقي للمقاومة، أي شرعية
مواجهة الاحتلال وإبطال مخططاته، ليس فقط على الواجهة الفلسطينية، التي أضحت اليوم
مقتنعة أكثر من أي وقت مضى أن ما تحققه المقاومة من مكاسب تحقق الدفاع عن حقوق
الشعب الفلسطيني، لم تحقق السلطة الفلسطينية معشاره لاسيما في ملف الأسرى، ولكن
أيضا على الواجهة الدولية، إذ حولت المجازر الصهيونية التي تستهدف أطفال غزة
ونساءها والبنية التحتية والخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني إلى رأي عالمي، لا
يكتفي فقط بإدانة الوجه الوحشي للاحتلال، بل يقر أيضا بالحق الأخلاقي لحركات المقاومة في التصدي للاحتلال والدفاع عن قضيتها وحق
الشعب الفلسطيني في الأرض.
ولذلك، سيكون
من الصعب اليوم، بعد مرور حوالي خمسين يوما عن الحرب، أن يتم غسل دماغ العالم من
جديد بشأن القضية الفلسطينية، وما يؤكد ذلك أن القوى الدولية والإقليمية التي
انخرط مسؤولوها مؤخرا في الحديث عن مستقبل ما بعد الحرب على غزة، صارت لا ترى
مصيرا ممكنا دون إقرار "حل الدولتين" بشكل نهائي، لا يسمح لإسرائيل
بالمناورة بالوقت من أجل توسيع نطاق أراضيها على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
والواقع، أن
هذا التحول في مزاج الرأي العالمي اتجاه المقاومة، وفي ثوابت التفكير لدى صناع
القرار السياسي بخصوص مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، يؤكد أن الحرب على غزة
ثبتت حق المقاومة كمبدأ أخلاقي مشروع، وأن الالتفاف على ذلك، لم يعد ممكنا
بالمقاربات السابقة، أي تسوية على طريقة عباس أبو مازن، وأن إعادة هذا السيناريو
من جديد، ستكون نتيجته المتوقعة هو مزيد من ترسيخ حق المقاومة كمبدأ أخلاقي،
وتوسيع نفوذها، وتحول الشعب الفلسطيني برمته، بمن في ذلك الداعمين للسلطة
الفلسطينية إلى جبهة واسعة تلتف على فصائل المقاومة.
التفوق
الأخلاقي.. التأسيس الجديد للحق في المقاومة
مع انطلاق
طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، حرصت كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري
لحماس) أن تضع الرأي العام العالمي أمام التزاماتها الأخلاقية، وأنها في ممارستها
العسكرية، تستمد مبادئها من منظومة أخلاقية دينية، تمنع استهداف الأطفال والنساء
والشيوخ، وتمنع استهداف المدنيين، وأن عمليتها توجهت أساسا إلى الثكنات العسكرية،
وإلى الوحدات التي يتكتل فيها جنود الاحتلال وآلياته، وأنها أبدا لم تجعل من
المدنيين هدفا لها، هذا مع أن سياسة الاحتلال في التوطين (المستوطنات) كانت تركز
على تسليح هذه المستوطنات، وتكثيف حضور المستوطنين المتطرفين بها، بما يعزز عدم
وجود الفرق بين العسكريين وبين هؤلاء المستوطنين المسلحين.
برز التفوق
الأخلاقي للمقاومة مقارنة مع الهمجية والوحشية الصهيونية مع طوفان غزة، وتبين من
خلال البروباغاندا الغربية التي حاولت تشويه صورة المقاومة (الصورة الأخلاقية
للمقاومة)، أن هناك وعيا بمخاطر التفوق الأخلاقي للمقاومة مقارنة مع ما ستقدم عليه
إسرائيل بدعم أمريكي من مجاوز بقصد تهجير الشعب الفلسطيني، ومن ثمة تم الاستثمار
كثيرا في حكاية الحفل الموسيقي، ومسؤولية حماس في استهدافه بشكل وحشي، إلى أن أثبت
تحقيق رجال الشرطة الإسرائيلية تورط طائرة إسرائيلية في استهداف هذا الحفل، وأن
المقاومة لم تكن تعلم بوجوده أصلا، وهو ما أعاد حكاية التفوق الأخلاقي للمقاومة
إلى الواجهة من جديد.
من المفيد
هنا، أن نذكر أن التحقيق الذي باشرته الشرطة الإسرائيلية لم يضع الاحتمالات كلها،
فرجح فرضية الخطأ العسكري بسبب استهداف الرادارات وفقدان الاتصال بالوحدات
العسكرية بغلاف غزة، مع أن فرضية الاستهداف القصدي واردة هي الأخرى، ولكن تم
استبعادها لأنها لا تؤكد فقط التفوق الأخلاقي للمقاومة، بل تؤكد الانهيار الأخلاقي
للاحتلال، وبالتالي فإن ذلك، يؤسس من جديد للحق الأخلاقي في المقاومة.
في الواقع ليس
القصد في هذا المقال إيراد الشواهد والحجج على الانهيار الأخلاقي للاحتلال، فالكم
الهائل من الصور والفيديوهات التي تبثها وسائل الإعلام العربية والإسلامية
والغربية وغيرها، لا تدعم إلا هذه الأطروحة.
لكن القصد
هنا، هو شيء آخر، هو أن نتوقف عند التفوق الأخلاقي للمقاومة، صاحبة الحق في الدفاع
عن القضية والأرض، مع وجود دواعي كانت تفرض المعاملة بالمثل، ويكفي في هذا السياق
أن نستحضر معطيين اثنين، يتعلق الأول بمعاملة المحتجزين، ويتعلق الثاني بالهدنة
والموقف الأخلاقي إزاءها، سواء تعلق الأمر، بالالتزام بمقتضياتها، أو تعلق بالصورة
التي ظهرت عليها المقاومة عند تسليمها للمحتجزين للصليب الأحمر.
الصورة
الأخلاقية للمقاومة
في المثال
الأول، أي التعامل مع المحتجزين المدنيين، يمكن أن نتوقف عند ثلاث مؤشرات مهمة،
الأول، وهو التوصيف الذي قدمته المقاومة لهم بوصفهم ضيوفا عندها، وقد قدم بعض
هؤلاء المحتجزين روايتهم في وسائل الإعلام الإسرائيلية، ووضعوا سلطات الاحتلال في
الحرج، وأثارت مواقفهم اتجاه السلوك الأخلاقي للمقاومة ردة فعل كبيرة لدى صناع
القرار السياسي، فتحركوا لتوجيه وسائل الإعلام لمنع مرور مثل هذه الرسائل التي
تؤثر على الروح المعنوية للجنود وتخلق الارتباك في الجبهة الداخلية للعدو.
وأما الثاني،
فيتعلق بحسن المعاملة، وتوفير الخدمات الأساسية المتاحة لهم، بما في ذلك الحلوى
للأطفال، وضمان الرعاية الصحية، بل والدعم النفسي لتجنيب الأطفال والنساء من
الإصابة بصدمات الهلع ونوبات الرهاب، وهو ما اعترف به المحتجزون في رسائل منشورة.
من المهم أن نلاحظ مواقف المحتجزين لحظة الوداع، وأن نتابع ردود فعلهم بعد ذلك، من خلال تصريحاتهم، ورسائلهم، وحكايتهم عن الجو الذي كانوا يعيشونه، وعن دور المقاومة في تأنيسهم ورفع الخوف عنهم، وعن الجو الإنساني الذي كان يؤطر علاقات بعضهم بعض. كل ذلك، رسم بشكل لا يدع مجالا للشك، صورة للتفوق الأخلاقي للمقاومة، وأعاد التأسيس بقوة للحق في المقاومة، كمبدأ أخلاقي غير قابل للمساومة.
وأما المظهر
الثالث، فقد ظهر في التواصل الإعلامي لكتائب عز الدين القسام الذي يهم حالاتهم
وأوضاعهم.
صحيح أن
الاحتلال كان يعتبر توصيف هذه الأوضاع في الرسائل الإعلامية لحماس جزءا من الحرب
النفسية، لكن في الواقع، فقد كانت المقاومة تؤكد واجبها الأخلاقي في حماية
المحتجزين، وتؤكد أنها تفعل ذلك في إطار المتاح، وأنها لا تتحمل أي مسؤولية
أخلاقية إذا تم استهدافهم عسكريا من قبل الاحتلال.
أما في المثال
الثاني المتعلق بالهدنة، فقد أثبتت المقاومة تفوقها الأخلاقي من خلال الالتزام
الحرفي بمقتضيات الهدنة، بما في ذلك زمن التسليم ومكانه، مع أن هذه الاعتبارات، قد
تكون لها كلفة أمنية، بحكم أن الاحتلال بإسناد أمريكي يوفر كل إمكانات التجسس
لمعرفة الجهة التي سيخرج منها المحتجزون، ومن ثمة معرفة مكانهم وتيسير الطرق
للاحتلال الذي ضل الطريق طيلة خمسين يوما دون أن يعرف مكان المحتجزين. فقد أثبتت المقاومة،
إلى جانب تفوقها الأخلاقي الذي تمثل في الالتزام بمقتضيات الهدنة، بما في ذلك التي
تترتب عنها كلفة أمنية، سيطرتها على الموقف عسكريا، وأنها لا تزال تمتلك القدرات
لإدارة الموقف والتحكم فيه.
وأما المظهر
الثاني في هذا المثال، فتمثل في الشكل الأخلاقي الراقي الذي تم به تسليم
المحتجزين، والذي دفع العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها إلى التوقف على
المفارقة الأخلاقية بين وحشية الجنود الإسرائيليين في التعامل مع الأسرى
الفلسطينيين، والشكل الأخلاقي الراقي الذي تعاملت به المقاومة عند تسليمها
للمحتجزين للصليب الأحمر.
من المهم أن
نلاحظ مواقف المحتجزين لحظة الوداع، وأن نتابع ردود فعلهم بعد ذلك، من خلال
تصريحاتهم، ورسائلهم، وحكايتهم عن الجو الذي كانوا يعيشونه، وعن دور المقاومة في
تأنيسهم ورفع الخوف عنهم، وعن الجو الإنساني الذي كان يؤطر علاقات بعضهم بعض. كل
ذلك، رسم بشكل لا يدع مجالا للشك، صورة للتفوق الأخلاقي للمقاومة، وأعاد التأسيس
بقوة للحق في المقاومة، كمبدأ أخلاقي غير قابل للمساومة.
في الأخير، من
الضروري التأكيد أن من المحتمل أن يخلق التفوق الأخلاقي للمقاومة صدمة داخل الكيان
الصهيوني، ومن المتوقع أن يغير نظرة كثيرين داخل إسرائيل اتجاه هذه المقاومة، كما
سيحدث رجة كبيرة في المزاج العام العالمي اتجاه المقاومة الفلسطينية، وسينتج عن
ذلك توتر يدعم في محصلته الحق في المقاومة كمبدأ أخلاقي، ولن يكون بالإمكان
بالمطلق الإقناع بإمكانية رسم سيناريو يغيب فيه الشعب الفلسطيني عن تقرير مصيره
بنفسه.