نشر موقع "أوريون 21" الفرنسي تقريرا، سلّط فيه الضوء على الوضع الحالي في
السودان بعد تسعة أشهر من الحرب.
وقال الموقع، في تقريره الذي ترجمته "عربي21"؛ إنه منذ نيسان/ أبريل 2023، أدّى الاشتباك بين الجيش النظامي لعبد الفتاح البرهان والقوات شبه العسكرية التابعة لقوات الدعم السريع لمحمد حمدان دقلو - الملقب بحميدتي - إلى تدهور الوضع في السودان، وإجبار عدة ملايين من السودانيين على الفرار من منازلهم أو حتى اللجوء إلى الخارج، وسط لامبالاة المجتمع الدولي.
ونقل الموقع قصة كل من نسيم وإبراهيم، وهي أسماء مستعارة بهدف حمايتهم. قبل الحرب، كان نسيم يعيش في أحد أحياء الطبقة العاملة في
الخرطوم. كان طالب ماجستير يعيش مع والديه، وهما موظفان حكوميان من الطبقة المتوسطة، ناضلا من أجل الحفاظ على مستوى معيشي لائق إلى حد ما على الرغم من التضخم المرتفع.
كان نسيم ينتمي إلى النواة الصلبة للجنة المقاومة في حيه أيام الثورة الشعبية، وهي هيئة أساسية في الثورة الشعبية سنة 2018-2019. ولكن بعد الارتفاع الكبير للحماسة خلال الانتفاضة، ابتعد قليلا عن الساحة السياسية، محبَطا من عودة الأحزاب القديمة العالقة في خلافاتها المتبادلة ومعارك غرورها.
قبل الحرب، تعاون إبراهيم مع المنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الكبيرة، حيث فتح لها أبواب بلاده التي يعرفها في كل زاوية وركن. كما شارك في الثورة وفي هذا الزخم الفكري الذي وعد بإعادة بناء السودان وجعله دولة لكل مواطنيه. كان يكافح ضد أزمة اقتصادية مدمرة تركت الشعب بأكمله فاقدا للحيوية، باستثناء النخبة المفترسة في النظام القديم.
الفرار من الخرطوم
صمد نسيم وإبراهيم في وجه تقلبات فترة ما بعد الثورة. مخاطرا، مع ملايين آخرين، بحياتهم حتى لا يستسلموا للجنود ورجال المليشيات. ولم يتراجعوا أمام انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021، الذي توحد خلاله الجيش النظامي (القوات المسلحة السودانية) والقوات شبه العسكرية (قوات الدعم السريع) لوضع حد للتجربة الديمقراطية. ومنذ 15 نيسان/أبريل، يحظى عبد الفتاح البرهان، القائد العام للجيش، والزعيم الفعلي للبلاد، بدعم إسلاميي النظام القديم ضد محمد حمدان دقلو، على رأس قوات الدعم السريع.
على غرار الملايين من السودانيين، غيّر يوم 15 نيسان/أبريل 2023 مصير نسيم وإبراهيم. قام إبراهيم برحلات متعددة في سيارته المتهالكة لإجلاء عائلته أولا، ثم أصدقائه الأعزاء، ثم معارفه. لقد فروا جميعا من الاشتباكات في الخرطوم، بعضهم باتجاه الحدود المصرية، والبعض الآخر باتجاه شرق البلاد.
وذكر الموقع أن سكان العاصمة عانوا من أعمال النهب والاغتصاب والقتل على يد قوات الدعم السريع التابعة للجنرال
حميدتي. وفي الوقت نفسه، تعرض سكان الخرطوم لقصف مدفعي ثقيل وطيران الجيش النظامي. لذلك انتهى الأمر بإبراهيم بالمغادرة أيضا باتجاه مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وهي مقاطعة زراعية شاسعة تقع على بعد 185 كيلومترا جنوب شرق الخرطوم.
وتجدر الإشارة إلى أن سبعة ملايين ونصف المليون شخص نزحوا داخل البلاد وخارجها، وذلك وفقا لأرقام مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في 14 كانون الثاني/ يناير 2024، دون أن ننسى مقتل 12 ألف شخص، وهو تقدير تم الاستهانة به بالتأكيد.
يمر الجميع بالمأساة نفسها: العثور على سكن، واستعادة أموالهم بعد نهب وانهيار المؤسسات المصرفية، والتعويض عن غياب المدارس المغلقة منذ أبريل/نيسان، والتعويض عن التدمير الفعلي للبنية التحتية الطبية... باختصار، البقاء على قيد الحياة في بلد فقير بالفعل وضعيف الموارد منذ فترة ما قبل الحرب.
"فيلات الأشباح"
في كانون الأول/ ديسمبر 2023، كانت الصورة واضحة تماما: السودان منقسم إلى قسمين في الاتجاه الشرقي الغربي. تسيطر مليشيا حميدتي على جزء كبير من العاصمة، بينما ينحصر الجيش النظامي في عدد قليل من القواعد وعدد قليل من الأحياء في أم درمان. ويسيطر رجال حميدتي أيضا على غرب دارفور وجزء من كردفان. وهذا ليس مفاجئا: فقد تم تجنيد قوات الدعم السريع بشكل رئيسي من القبائل العربية في المقاطعة الغربية الكبيرة، التي تعرف التضاريس بشكل جيد، واستولوا على المدن الرئيسية دون صعوبة كبيرة.
وأضاف الموقع أن لجان السلام المكونة من شخصيات دينية وعلمانية حاولت الحفاظ على وقف إطلاق النار، لكنها انهارت الواحدة تلو الأخرى. أصبحت مهمة قوات الدعم السريع أسهل بسبب افتقار الجيش النظامي إلى الرغبة في قتالهم، حيث فضل الأخير التراجع إلى معسكراته. وفي كل مكان في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، يتم الإبلاغ عن انتهاكات خطيرة للغاية لحقوق الإنسان، تُرتكب إما بشكل مباشر من قبل رجال حميدتي، أو من قبل المليشيات العربية المحلية المرتبطة بقوات الدعم السريع من خلال الأسرة أو القبيلة.
من جهة أخرى، انتقل الجيش النظامي، بقيادة البرهان، والمدعوم إلى حد كبير من الإسلاميين التابعين لنظام عمر البشير، إلى بورتسودان. ويسيطر هؤلاء الرجال على شرق البلاد وشمالها، أي وادي النيل، حيث تنحدر الطبقات الاقتصادية والعسكرية والسياسية للحكومات المتعاقبة منذ استقلال البلاد. وكما هو الحال في النظام القديم، فإنهم يتبعون سياسة قمعية ضد أي معارض. وفي هذا السياق، يتم إحياء الذاكرة المريرة لـ "فيلات الأشباح"، وهي أماكن الاحتجاز السرية.
ونقل الموقع عن المحللة السياسية السودانية التي تعيش الآن في المنفى خلود خير، أنه "حتى منتصف كانون الأول/ديسمبر، بدا أننا نتجه نحو سيناريو على النمط الليبي مع تقسيم البلاد وقيادتها من قبل كيانين معاديين، كل منهما مدعوم من رعاة أجانب: قوات الدعم السريع تدعمها دولة الإمارات العربية المتحدة والقوات المسلحة السودانية مدعومة من قبل مصر. لكن هذا السيناريو عفا عليه الزمن".
"الانسحاب المشبوه للجيش النظامي"
في فجر يوم 15 كانون الأول/ديسمبر، هاجم رجال حميدتي ضواحي مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، التي توافد إليها مثل إبراهيم مئات الآلاف من سكان الخرطوم. وأصبحت المدينة ملجأً للنازحين، كما أصبحت مركزا لتخزين المساعدات الغذائية والأدوية. في المقابل، انسحبت القوات النظامية دون قتال تقريبا. وفي 18 كانون الأول/ ديسمبر، كانت ود مدني في أيدي قوات الدعم السريع. وتؤكد خلود خير: "داخل قوات الدعم السريع، يشعر الضباط ذوو الرتب المتوسطة بالغضب؛ لأنهم تلقوا أوامر بمغادرة المدينة دون قتال".
وأورد الموقع أن سقوط ود مدني أحدث صدمة ونقطة تحول لا يمكن إنكارها. وتم كسر القفل الذي يحصن بورتسودان في الشرق وسنار وكوستي في الجنوب، ليفر 300 ألف شخص، من بينهم إبراهيم، من ود مدني في الساعات الأولى لهجوم قوات الدعم السريع، و200 ألف آخرين في الأيام التالية، وذلك وفقا للأمم المتحدة.
وبسقوط ود مدني، استسلم نسيم الذي كان مسؤولا عن والديه المسنين وبعض إخوته وأخواته، وانتهى به الأمر باختيار المنفى، فقامت الأسرة بالرحلة من كوستي إلى دنقلا شمال الخرطوم، ومن هناك دفع المال للمهربين وهو اليوم في مصر.
قمع أشكال المقاومة المدنية كافة
في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، تسعى المنظمات الثورية ولجان المقاومة ولجان الأحياء، فضلا عن المنظمات النسائية والنقابات، إلى إنقاذ الدولة التي على وشك الإنهيار. لكن تواجه المنظمات تحديات في كل مكان. وهذا هو القاسم المشترك بين الجنرالين حميدتي والبرهان. ورغم مواقفهما المتعارضة، فإن هدفهما واحد؛ هو وضع حد للثورة.
في هذا الصدد، تقول خلود خير: "كلا الطرفين مقتنع بانتصاره. لذلك يريد كل منهما قمع جميع أشكال المقاومة المدنية قبل غزو البلاد. وبخلاف ذلك، تعلم هذه الأطراف أن القوة التي يعلقون عليها آمالا كبيرة ستكون هشة للغاية. لذلك؛ يستخدم كلاهما ستار الحرب لاغتصاب ما تبقى من الثورة، عن طريق اغتيال الأطباء والصحفيين والناشطين والاعتقال والسجن والتعذيب".
دفن نية اتفاق
في ظل هذه الفوضى، ظهرت صورة لحميدتي وهو يصافح عبد الله حمدوك، الذي تولى منصب رئيس الوزراء بين أيلول/ سبتمبر 2019 وتشرين الأول أكتوبر 2021. وفي الوقت الراهن، يترأس رئيس الحكومة السابق تحالف القوى الديمقراطية أو التقدّم الذي تم إنشاؤه في أديس أبابا سنة 2023، وهو تجمع بين الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني التي تريد التأثير على الأطراف الفاعلة في الصراع من أجل وقف الأعمال العدائية، وربما الحصول على ضمانات لما بعد الصراع.
في الثاني من كانون الثاني/يناير، وقّع تحالف التقدم اتفاقا مع أحد الطرفين المتحاربين. على حسابه على موقع إكس، أعرب عبد الله حمدوك عن سروره لوجود قوات الدعم السريع من أجل الوقف الفوري، وغير مشروط لإطلاق النار واتخاذ تدابير لحماية المدنيين، وتسهيل عودة المواطنين إلى ديارهم وإيصال المساعدات الإنسانية والتعاون مع لجنة التحقيق. وعلى الطرف الآخر من الطيف السياسي، أثر الإسلاميون الغاضبون من النظام القديم على الجنرال البرهان، مما جعله يرفض أي لقاء مع تحالف التقدم وحميدتي.
ترى خلود خير أن هذا يعكس مدى انقسام المدنيين، موضحة: "فقد التقدم مصداقيته بتوقيعه اتفاقا مع حميدتي، رغم كل الفظائع التي ترتكبها قوات الدعم السريع. ويعتقد البعض داخل التحالف أنهم قادرون على السيطرة على حميدتي بمجرد توليه السلطة".
في هذه الأثناء، لم يتم الوفاء بالوعود الواردة في إعلان أديس أبابا، الذي تباهى به عبد الله حمدوك، بحيث تؤكد الشهادات أن استئناف "الحياة الطبيعية" الذي روّجت له قوات الدعم السريع في ود مدني، يتم تحت تهديد السلاح في ظل إجبار الأطباء على العودة إلى وظائفهم تحت التهديد وابتزاز التجار. وقد سمحت المصافحة لحميدتي باكتساب مزيد من الاحترام، ليتم استقباله كمحاور موثوق ومثير للاهتمام في عديد العواصم الأفريقية، خلال جولة أداها إلى بريتوريا وجيبوتي، مرورا بنيروبي وكمبالا وكيغالي، حيث زار النصب التذكاري للإبادة الجماعية.
تتنبأ خلود خير بأن حميدتي "حتى لو نجح في التقدم شرقا وشمالا، والاستيلاء على بورتسودان والسيطرة على البلاد بأكملها، فلن يكون قد انتصر في الحرب"؛ لأن المقاومة الشعبية توزّع الأسلحة على سكان وادي النيل الذين يريدون الدفاع عن مدنهم وقراهم. ومن الواضح أن الشرخ القديم بين وادي النيل والضواحي وخاصة دارفور، لم يختفِ في صراع الأسلحة، بل على العكس من ذلك ظهر من جديد.
للاطلاع إلى النص الأصلي (
هنا)