أفكَار

القرآن ودور الإنسان في حركة التاريخ.. لماذا تخلت الأمة عن وظيفتها؟

القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للأمة، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة..
مرت الأمة الإسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية بأضعف مراحلها وأوهن حالاتها، حيث تجلى فيها الإنذار النبوي فيما رواه ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ"..

هذا الحديث الذي بالإضافة إلى صحة متنه وصحة سنده، تزيدنا شواهد الأمة الممزقة مزعا والقابعة في ذيل التخلف تجتر ويلات انكسار بيضتها يقينا في صدقه؛ فمن الاستعمار إلى التبعية، ومنهما إلى الاستلحاق السياسي والاقتصادي والثقافي.

ويزداد الوضع سوءا بعد مذابح البوسنة والهرسك وأفغانستان والعراق وتقسيم السودان، وإجهاض ثورات الربيع العربي، وتعميق الجرح الفلسـطيني بمحاولة تصفية القضية الفلسطينية وإدماج الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط الجديد واعتباره زورا رافعة اقتصادية وتنموية بالمنطقة، مع فتح كل الحدود الجغرافية في وجه هذا المحتل المغتصب الذي لا يكل ولا يمل من إعلان مشروع "مملكة إسرائيل الكبرى".

أمام كل هذا الضعف والتدهور الحاصل في جسد الأمة، وأمام ما تواجهه غزة لوحدها من مجازر ومقاومة، يعود سؤال التاريخ وسؤال الحتمية التاريخية وسؤال المسؤولية التاريخية إلى واجهة التفكير والنظر العلميين. ما يدفعنا إلى التساؤل، هل ما وقع وما يقع أقدار لسنن طبيعية في الكون وفي التاريخ؟ وهل وقوع الإنذارات النبوية دليل على حتمية وقوع البشارات النبوية الأخرى التي لم تقع بعد؟ ثم هل بإمكاننا أن نتجاوز لحظة  اعتبار الإنذارات والمبشرات الغيبية القرآنية والنبوية على أنها مجرد صُور وعلامات إلى اعتمادها وسيلة لاكتشاف السنن والضوابط والقوانين التي تتحكم في حركة التاريخ؟ ألا يعتبر جهلنا بالسنن التاريخية السبب المباشر في خروجنا من الساحة التاريخية؟

لماذا تخلت الأمة عن وظيفة صناعة التاريخ؟ هل انتهى زمن الأمة الإسلامية وداستها وعجنتها عجلة التاريخ، أو أننا أمام الحتمية القائلة بأن التاريخ لا يعيد نفسه؟ ألسنا اليوم في أمَسِّ الحاجة إلى إعادة قراءة القرآن الكريم والسنة النبوية بهدف استقراء سنن التاريخ واكتشاف شروط وضوابط التغيير التي لا تحابي أحدا؟ ثم لماذا يعتبر تصحيح فهمنا للتاريخ أهم مدخل من مداخل التغيير؟

في القرآن الكريم، نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل الأمة، ونلاحظ في القرآن الكريم أنه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الإحصائية، تحدث عن كتاب للفرد، وتحدث عن كتاب للأمة، عن كتاب يحصي على الفرد عمله، وعن كتاب يحصي على الأمة عملها، وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب إلى الفرد وبين العمل الجماعي الذي ينسب إلى الأمة.
تعد الكتابة في فلسفة التاريخ أو نظرية التاريخ من أصعب وأعقد الكتابات على الإطلاق، لأن هذا المبحث يتشابك مع الزمن الماضي والزمن الحاضر ومع المستقبل، ويتشابك مع الفعل الكلي الجماعي للبشرية جمعاء، كما يروم أيضا الإجابة عن أسئلة معقدة ومركبة من قبيل:

هل للتاريخ البشري قوانين وضوابط تتحكم في مسيرته وحركته وتطوره؟ ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري؟ كيف بدأ التاريخ البشري؟ وكيف نما؟ وكيف تطور؟ ما هي العوامل الأساسية في نظرية التاريخ؟ ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ؟  ما هو موقع السماء والنبوة على الساحة التاريخية البشرية؟ هل إثبات سنن التاريخ يعني الحتمية التي تلغي الإرادة البشرية؟ ما الفرق بين السنن الطبيعية والسنن التاريخية؟

كل هذه الأسئلة وغيرها ستزداد صعوبة عندما نتكئ في معالجتها على العمق الرباني والبعد الإلهي لحركة التاريخ في القرآن الكريم، وما يطرحه هذا الأمر من إشكالات أقلها سؤال؛ هل القرآن الكريم كتاب تاريخ واكتشاف أم كتاب هداية وتغيير؟ إن الإحاطة الموضوعية بكل هذه الإشكاليات المتداخلة تتطلب منا سلسة من المقالات سوف نخصص كل واحد منها لمعالجة قضية من قضايا سنن التاريخ في القرآن الكريم.

وبما أن التاريخ لا يصنعه الفرد بل تصنعه الأمة بالمفهوم القرآني، كان لا بد من توضيح الفرق بين أبعاد العمل الفردي وأبعاد العمل الجماعي المؤثر سلبا أو إيجابا في صناعة التاريخ أو هدمه، ثم التذكير بأمر مغيب في العقل الإسلامي يتمثل في أن الأمة الإسلامية كغيرها من الأمم ستسأل يوم القيامة عن دورها ووظيفتها التاريخيين، ما يعني أن استيعاب سنن التاريخ والعمل على اقتفائها واحترامها والسير وَفقها واجب تعبدي سنحاسب عليه ونجازى عنه إما عقابا أو ثوابا.

في القرآن الكريم، نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل الأمة، ونلاحظ في القرآن الكريم أنه من خلال استعراضه للكتب الغيبية الإحصائية، تحدث عن كتاب للفرد، وتحدث عن كتاب للأمة، عن كتاب يحصي على الفرد عمله، وعن كتاب يحصي على الأمة عملها، وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب إلى الفرد وبين العمل الجماعي الذي ينسب إلى الأمة.

ووجْهُ التمييز بينهما أن عمل الفرد له بُعدان؛ العلة الفاعلية (السبب) والعلة الغائية (الهدف والغاية). أما عمل الأمة فله ثلاثة أبعاد، البعدين في عمل الفرد إضافة إلى بُعد التأثير الإيجابي أو السلبي على الأمة في حاضرها ومستقبلها أي في رسم تاريخها.

لاحظوا قوله سبحانه وتعالى: "وَتَرى كُلّ أُمَّةٍ جائيةً كلُّ أُمَّةٍ تُدعى إلى كتابها الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ . هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَليْكُمْ بالحق إنا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنتُمْ".

هنا القرآن الكريم يتحدث عن كتاب للأمة، أمة جاثية بين يدي ربها ويقدم لها كتابها، يقدم لها سجل نشاطها وحياتها التي مارستها كأمة، هذا العمل الهادف ذو الأبعاد الثلاثة هو بالضبط ما يحتويه هذا الكتاب، انظروا إلى قوله تعالى: "إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" فهو لا يسجل الوقائع الطبيعية كما يكتبها المؤرخون، إنما يحدد ويستنسخ أعمال الأمة التي كان لها أثر على حاضرها ومستقبلها وعاقبتها، بحيث يُنسَب للأمة فتكون مدعوة إلى كتابها. هذا هو العمل الذي يحويه هذا الكتاب.

بينما في آية أخرى نلاحظ قوله سبحانه وتعالى: "وَكُلَّ انْسَانِ ألْزَمْناهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتاباً يَلقَاهُ مَنشُوراً ، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً" (3) هنا الموقف يختلف، هنا كل إنسان مرهون بكتابه، لكل إنسان كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله، من حسناته وسيئاته، من هفواته وسقطاته من صعوده وهبوطه، الكتاب الذي كتب بعلم مَنْ لا يعزُب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماء. كل إنسان قد يفكر أن بإمكانه أن يخفي نقطة ضعف، أن يخفي ذنبا، أن يخفي سيئة عن جيرانه أو قومه، أو أمته، أو أولاده، أو حتى عن نفسه، ولكن هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

هناك سِجِلّان، سِجِل لعمل الفرد، وسِجِل لعمل الأمة، وعمل الأمة هو عبارة عما قلناه من العمل الذي يكون له ثلاثة أبعاد، بُعْدُ من ناحية العامل هو ما يسمى في الفلسفة بـ "العلة الفاعلية"، وبُعد من ناحية الهدف هو ما يسمى بـ "العلة الغائية".. وبُعد من ناحية الأرضية وامتداد الفعل ليشمل الأمة هو ما يسمونه بـ "العلة المادية"
هذا كتاب الفرد وذاك كتاب الأمة. هناك كتاب أمة جاثية بين يدي ربها، وهناك لكل فرد كتاب. إن هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الأمة وكتاب الفرد، هو تعبير آخر عما قلناه، من أن العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثل في كتاب الأمة. العمل الذي له أبعاد ثلاثة. بل إن الذي يستظهر ويستقرئ عددا آخر من الآيات القرآنية الكريمة، سيستنتج لا محالة أنه لا يوجد فقط كتاب للفرد وكتاب للأمة يوم العرض على الله سبحانه، بل ثمة إحضار للفرد وثمة إحضار للأمة، هناك إحضاران بين يدي الله سبحانه، الإحضار الفردي يأتي فيه كل إنسان فردا فردا، لا يملك ناصرا ولا معينا، إلا العمل الصالح والقلب السليم والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا هو الإحضار الفردي، قال الله تعالى: "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّموات والارْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْدًا ، لَقَدْ احْصَاهُمْ وَعَدَّهَمْ عَدا وَكُلُّهُم آتِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَرْداً".

وهناك إحضار آخر، إحضار للأمة بين يدي الله سبحانه وتعالى، فكما يوجد هناك سجلان، كذلك يوجد إحضاران كما تقدم، ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها، ذاك إحضار للجماعة، والمستأنس به من سياق الآيات الكريمة، أن هذا الإحضار الثاني يكون من أجل إعادة العلاقات إلى نصابها الحق، العلاقات في داخل كل أمة قد تكون غير قائمة على أساس الحق، قد يكون الإنسان المستضعف فيها جديرا بأن يكون في أعلى الأمة، هذه الأمة تعاد فيها العلاقات إلى نصابها الحق؛ وهو ما سماه القرآن الكريم بيوم التغابن، كيف يحصل التغابن؟ يحصل التغابن عن طريق اجتماع الأمة، ثم كل إنسان بقدر ما كان مغبونا في موقعه ووجوده في أمته يأخذ حقه، تأملوا قوله تعالى: "يَوْمَ يُجمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمَعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابن".

إذن هناك سِجِلّان، سِجِل لعمل الفرد، وسِجِل لعمل الأمة، وعمل الأمة هو عبارة عما قلناه من العمل الذي يكون له ثلاثة أبعاد، بُعْدُ من ناحية العامل هو ما يسمى في الفلسفة بـ "العلة الفاعلية"، وبُعد من ناحية الهدف هو ما يسمى بـ "العلة الغائية".. وبُعد من ناحية الأرضية وامتداد الفعل ليشمل الأمة هو ما يسمونه بـ "العلة المادية". هذا العمل ذو الأبعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ، وهو عمل الفاعل التاريخي المتمثل في العمل التغييري الجماعي الذي عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ."

*كاتب وباحث مغربي