في خضم فشل
الاحتلال بتحقيق منجزات على أرض المعركة في
غزة، حتى بات مستحيلا في نظر الكثيرين إنهاء حكم حماس للقطاع كما كان يتوعد نتنياهو، بدأ الاحتلال محاولات للالتفاف على أهدافه التي لم يحققها بالطريقة العسكرية.
منذ اليوم الأول للعدوان، صرحت حكومة الاحتلال أن أهداف الحرب ثلاثة، الأول استعادة الأسرى بالقوة، وقتل قادة المقاومة، وإنهاء وجودها في القطاع عبر القضاء على حركة حماس.
لم تتحقق الأهداف الثلاثة رغم مضي ستة أشهر على العدوان، وبدا أن ما راهن عليه نتنياهو من انقلاب الحاضنة الشعبية على حماس بسبب الحرب وقسوتها، فشل مجددا.
يحاول الاحتلال استنساخ تجربة الجيش الأمريكي في العراق، من خلال إنشاء ما يعرف بـ "
الصحوات"، وهي مليشيا مسلحة كانت رأس الحربة للقوات الأمريكية في العراق بمواجهة الفصائل المسلحة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة.
ورقة السلطة الفلسطينية
مثلت سيناريو اليوم التالي للحرب عقدة لنتنياهو، فمجريات المعركة لم تكن كما خطط لها جيشه بالقضاء على المقاومة، من الشمال ثم غزة المدينة ثم الجنوب والوسط.
وبرزت السلطة الفلسطينية كخيار بديل لحكم أنقاض غزة بعد الحرب كما ذكر محمود الهباش، كبير مستشاري رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
واصطدمت رغبة السلطة بحكم غزة بعدة عراقيل، أولها رفض الاحتلال للمقترح، الذي حوره فيما بعد لشكل آخر، والثاني كان الرفض الأمريكي الواضح أن تستلم مقاليد الحكم في غزة سلطة عباس بشكلها الحالي.
وكان صمود المقاومة وثباتها في الميدان العائق الأول والأكبر أمام هذا المخطط، وهذا ما ترجمه خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، عندما كرر عبارة "وهم وسراب" وهو يصف ترتيبات في الأراضي الفلسطينية، دون حماس وفصائل المقاومة منتصف كانون الاول/ديسمبر الماضي.
القفز إلى الخلف
رفض نتنياهو تولي السلطة حكم غرة، تلاشى أمام صمود المقاومة، وهذا ما دفعه للتراجع والاعتماد على شخصيات في السلطة لإنشاء قوة عسكرية مناوئة لحماس.
وكشفت تقارير إسرائيلية، أن مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، بدأ العمل على بناء قوة مسلحة جنوب قطاع غزة، تتكون من عائلات لا تؤيد حركة حماس، ومهمتها الحالية توزيع المساعدات من جنوب وشمال القطاع. بدعم وتفويض إسرائيلي.
وبرز اسم رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية، ماجد فرج وغيره من مسؤولي السلطة الفلسطينية، في إطار بحث الاحتلال عما يسميه اليوم التالي للحرب على قطاع غزة.
وتصنف حكومة الاحتلال فرج وبعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية بـ"المعتدلين"، وتم طرح اسمه في مداولات أمنية لبحث الجهة التي يمكن أن يوكل إليها الاحتلال مسؤولية الإدارة المدنية لقطاع غزة، والقيام بتوزيع المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى القطاع المحاصر.
ووفق تقارير أوردتها مواقع "كان"، و"ريشيت بيت"، الثلاثاء، فإن ماجد فرج مطروح بقوة ورشحه وزير الحرب، يؤاف غالانت لإدارة شؤون قطاع غزة خلال مداولات أمنية مغلقة عقدت مؤخرا.
وعلى إثر ذلك، كشفت "كان" أن ما يسمى برئيس مجلس الأمن، تساحي هنغبي، التقى مؤخرا فرج بموافقة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو.
ونقلت التقارير عن مصادر مطلعة، أن المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين يعتقدون أن حماس تعمل على زيادة سيطرتها على قطاع غزة، ومن ثم يجب الدفع بحلول والتقدّم بها سريعا. وفق الرؤية الإسرائيلية.
ورقة العشائر
وبدا الاحتلال مدفوعا بفشله في تحقيق أهدافه، لمحاولة إنشاء قوة من العشائر والعائلات الكبيرة في غزة لإدارة القطاع كبديل عن حركة حماس.
وكشفت قناة "كان" العبرية، أن الخطة تتمثل بتقسيم القطاع إلى مناطق ونواح تحكمها العشائر، وتتولى مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية، بحيث تسيطر كل عشيرة على منطقة.
وأوضحت أن هذه "العشائر المعروفة لدى ’الجيش’ وجهاز الأمن العام ’الشاباك’، ستقوم بإدارة الحياة المدنية في غزة لفترة مؤقتة (دون تحديد المدة)".
والخطة التي وضعها وزير الحرب، يوآف غالانت تحت عنوان إنشاء "لجنة مدنية" تابعة لـ"الجيش الإسرائيلي"، تشرف على قطاع غزة، مهمتها الأساسية إبعاد حركة حماس عن الإدارة المدنية الفلسطينية، ومنعها من السيطرة على المساعدات التي تدخل القطاع في ظل الحرب.
وغالانت الذي قدم الخطة إلى وزراء حكومة الاحتلال ومجلس الحرب، اعتبرها تجربة أولية، على أن يتم الشروع في تطبيقها في شمال ووسط القطاع، وتُنفَذ أولا في حي الزيتون بمدينة غزة.
يرى الكاتب والباحث السياسي العراقي نظير الكندوري، "أن قوات الاحتلال الإسرائيلية بعد فشلها في تحقيق ما أعلنته من أهداف في حربها على قطاع غزة، بدأت تبحث عن خيارات أخرى تكون بديلا لسلطة حماس في القطاع، التي فشلت في استئصالها من القطاع".
وأوضح في حديث لـ "عربي21"، "أن أحد هذه الخيارات، هو تمكين بعض العوائل ليكون لها دور بمعزل عن حكومة حماس وأجهزة الشرطة التابعة لها. وجعل توزيع المساعدات على أهالي غزة من خلال هذه التنظيمات العشائرية، وتدريجيا ينتهي تأثير حركة حماس في القطاع كما تتخيل حكومة الاحتلال".
واستدرك: "لكن هذه الطريقة محكوم عليها بالفشل مسبقا، فقد سبق أن جربها الاحتلال قبل انسحابه من القطاع عام 2005 لكنها لم تنجح، ونجحت حماس في تجريد هذه العوائل أو العشائر من سلاحها، وجعلت الشرطة الفلسطينية هي المسؤولة المباشرة عن أمن القطاع".
وأردف الكندوري: "الأمر الأخر، أن حماس بالرغم من خوضها الحرب مع القوات الإسرائيلية منذ خمسة شهور، إلا أنها ما زالت تسيطر أمنيا على القطاع، ولن تستطيع أي عائلة أو عشيرة تجاوز حماس والذهاب إلى التعاون مع سلطات الاحتلال؛ لان ذلك سيدخلها في مواجهة مع حماس وباقي فصائل المقاومة".
تماسك غزة
وعلى النقيض من رغبة الاحتلال، جاءت تصريحات عشائر غزة برفض التعامل معه، كما أكدت حركة حماس أنها على علم بتلك التحركات.
ونقلت وسائل إعلام عن مسؤول أمني في حماس قوله؛ "إن قبول التواصل مع الاحتلال من مخاتير وعشائر للعمل بقطاع غزة، خيانة وطنية لن نسمح بها".
وأضاف، "أن سعي الاحتلال لاستحداث هيئات تدير غزة، مؤامرة فاشلة لن تتحقق".
من جانبها، أكدت العشائر أنها تقف بصف واحد مع المقاومة، حتى قال رئيس الهيئة العليا لشؤون العشائر في المحافظات الجنوبية من قطاع غزة، أبو سلمان المغني: "لن نكون بديلا عمن اختاره شعبنا ممثلا له، وسنظل مع اختيار شعبنا حتى إجراء الانتخابات".
وكشف المغني في تصريحات لوكالة شهاب الفلسطينية، عن إجراء الاحتلال وجهات إقليمية ودولية اتصالات بالعشائر لتكون بديلا عن الجهات الحكومية في غزة.
وأوضح المغني أن موقف العشائر "ثابت وواحد لا يمكن أن يتغير، وهو أن جميع العشائر وأنا أتحدث باسمهم جميعا، لا يمكن أن تقبل بأن تكون بديلا عن الحكومة".
وتابع: "العشائر لا تستطيع أن تحكم وليست مؤهلة لهذا الأمر، هي فقط لإصلاح ذات البين، ومساندة الحكومة في تأدية أعمالها"، مؤكدا أن بعض الذين تعاونوا مع الاحتلال، "ليسوا مخاتير ولا وجهاء ولا ممثلين عن عوائلهم".
وأردف قائلا: "هؤلاء ليسوا منا كعشائر ولسنا منهم، ولا ينتمون لفلسطين ولا لأهل غزة، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا من أهلنا".
وعن وحدة الجبهة الداخلية للقطاع، يقول الكندوري؛ "إن الفلسطينيين في غزة لديهم من الحس الوطني والإرادة في التحرر من الاحتلال، ورغبة عارمة لفك الحصار عنهم، ما يجعلهم بغنى عن رمي أنفسهم بأحضان الاحتلال ليقاتل بعضهم بعضا كما يريد الاحتلال، لا سيما أن الفلسطينيين قد جربوا مسار السلام والتعاون مع المحتل لنيل الحد الأدنى من حقوقهم من قوات الاحتلال".
وأوضح، "أن ذلك لم ينفع ولم يسفر عنه أي فائدة تذكر للفلسطينيين، ونقصد بهذا هو اتفاقات أوسلوا التي أنتجت السلطة الفلسطينية، بل حدث العكس وبدأ الاحتلال يقضم بالأراضي الفلسطينية شيئا فشيئا، وتم تسخير السلطة الفلسطينية لتعمل على اعتقال المقاومين الفلسطينيين، بدلا من أن تحميهم من بطش الاحتلال والمستوطنين الذين يستولون على أراضيهم".
استنساخ الصحوات
أنشأت القوات الأمريكية في العراق مجالس ما يعرف بـ "الإسناد أو الإنقاذ أو الصحوة"، هي تجمعات عشائرية أوكلت لها مهمة قتال الفصائل المسلحة في العراق، وخصوصا تنظيم القاعدة.
وظهر أول "مجلس للصحوة أواخر العام 2006 في محافظة الأنبار غرب العراق، ومنها انطلقت فكرة المجالس إلى محافظات أخرى مثل محافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى.
ودربت القوات الأمريكية عناصر الصحوات ومدتهم بالمال والسلاح، سواء بطريقة مباشرة أو عبر الحكومة العراقية، ونجحت هذه المجالس إلى حد كبير في تقليل نفوذ الفصائل المسلحة، وتقليل الهجمات على القوات الأمريكية.
وعن إمكانية إعادة التجربة في غزة، يقول الكندوري: "أما استنساخ تجربة الصحوات في العراق وتطبيقها في غزة، فالأمر مختلف كثيرا في العراق عن أوضاع القطاع".
وأضاف: "في العراق، كان هناك تعاون من بعض العشائر العراقية مع خطة الأمريكيين بإنشاء الصحوات؛ لكون الهدف منها كان محاربة تنظيم القاعدة، وهو تنظيم أضر كثيرا بالشعب العراقي وحارب فصائل المقاومة العراقية أيضا، بينما في غزة من يقوم بهذا الدور التخريبي، هي قوات الاحتلال نفسها، فكيف يطلب منها التعاون معها؟".
وتابع: "كما أن قوات الاحتلال تريد من قوات العشائر التي تريد إنشائها، محاربة حركة حماس، لكن شتان ما بين تنظيم القاعدة الإرهابي وما بين حركة حماس التي هي حركة تحرر وطني بشهادة غالبية الفلسطينيين والأحرار في العالم، لذلك فإن هذا الأمر صعب المنال، وستذهب خطة تنظيم العشائر لتعمل لصالح الاحتلال أدراج الرياح، مثلها مثل كثير من الخطط التي فشلت طيلة الخمسة شهور الماضية".