تقارير

فتاوي "جمعة" الرمضانية اجتهادات سائغة أم آراء فاسدة؟

أثار مفتي مصر السابق، وعضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، الدكتور علي جمعة جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب فتاويه في برنامجه الرمضاني (نور الدين).. (وسائل تواصل اجتماعي)
أثار مفتي مصر السابق، وعضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، الدكتور علي جمعة جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب فتاويه في برنامجه الرمضاني (نور الدين) الذي يعرض على قناة (CBC) المصرية، والذي يجيب فيه عن أسئلة حساسة وصريحة يطرحها عليه المشاركون من الفتيان والفتيات.

اللافت والمثير أن أسئلة المشاركين من الناشئة والأطفال أسئلة إشكالية وجدلية، وجاءت إجابات الدكتور جمعة هي الأخرى لتثير ردود فعل متباينة، بين مؤيد له، ومدافع عنه ومطالب بتفهم كلامه ومراده على وجهه الصحيح، وبين معارض ومنتقد له بشدة، ومفند لفتاويه وأجوبته بنقاش علمي وفقهي.

الأسئلة الإشكالية دارت حول العلاقة بين الجنسين في سن المراهقة، وعن الصداقة بين الولد والبنت والالتقاء والخروج معا، وهل الجنة حكر على المسلمين فقط، وكانت أجوبة جمعة وفتاويه إباحة الصداقة بين الشاب والشابة، كأن يلتقي بها ويحدثها وتحدثه، أو تجري بينهما محادثة (الشات) بما فيها من عبارات حب، فلا بأس بها ما دام أبوها يعرف ذلك، وما دامت في إطار العفاف، وهو ما دفع إحدى المشاركات لسؤاله عن معنى العفاف في هذا السياق.

هل الشات بين ولد وبنت يعتبر خلوة أو حرام؟.. فضيلة الدكتور علي جمعة: هناك أشياء تقدح في عفاف العلاقة



فضيلة الدكتور علي جمعة: العفاف هو الحد الفاصل في العلاقة بين الشاب والفتاة إن غاب أصبحت العلاقة حرام



أما كلام الدكتور جمعة عن أن الجنة ليست حكرا على المسلمين فجاء ردا على سؤال إحدى المشاركات "هو ليه بس المسلمين اللي حيدخلوا الجنة" فكان جوابه "مين قالك إن المسلمين بس هما اللي هيدخلوا الجنة؟ دي معلومة مغلوطة عندك، لأن ربنا قال غير كدة، قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يبقى الآية واضحة جداً إنه ربنا سبحانه وتعالى إنّ الدين عند الله الإسلام، كلّه اسمه إسلام عندنا".

نور الدين - مين قال إن المسلمين بس هما اللي هيدخلوا الجنة؟ شاهد رد فضيلة الشيخ علي جمعة



فتاوى الدكتور جمعة، لا سيما الإشكالية والجدلية منها هل تُعدّ من الاجتهاد السائغ المقبول، الذي يصدر عن أدلة شرعية معتبرة، أم أنها خروج عن حد الشرع والمقرر عند أئمة الاجتهاد؟ وهل يمكن أن تكون نموذجا لتجديد الخطاب الديني حسب مواصفات التجديد الذي تسعى السلطات السياسية الحالية لترويجه وإشاعته؟ وماذا وراء هذا النمط الديني الجديد؟

الأكاديمي والباحث الأزهري، الدكتور أحمد الدمنهوري اختار مناقشة الموضوع في إطار تحديد منهجية الدكتور جمعة، مقررا أن "من يتتبع طريقة ومنهج جمعة يعلم جيدا أن لديه بعض الأصول التي يمكنك أن تلمسها في جلسة واحدة، وهذا المنهج قائم على أمرين يمكنك بهما فهم الكثير من آراء الرجل، هما: التصالح مع الواقع، وتصحيح أعمال المسلمين قدر الطاقة".

وتابع في منشوره عبر صفحته على الفيسبوك، الذي أحال "عربي21" عليه لبيان رأيه في الموضوع مبينا مظاهر تصالح جمعة مع الواقع، بتقديم طريقة مغايرة للخطاب الإسلامي الشائع منذ الزمن، القائم على الشعور بالغربة..، وبناء عليه جعل معتمد الفتوى في دار الإفتاء ليست المذاهب الأربعة السنية المجمع عليها، بل جعل معتمد الفتوى ما سماه "الفقه الوسيع" الذي يرجع إلى المذاهب الثمانية، بل يفتي بمذاهب الصحابة والتابعين المروية عند الحاجة".


 
وتعليقا على مقولة "الجنة ليست حكرا على المسلمين، قال الدمنهوري "نعم، يمكن أن يقال إن الجنة ليست حكرا على المسلمين الحاليين المؤمنين بالنبوة الخاتمة.. وهم المسلمون بالمعنى الأخص، بل يكرم الله بالجنة: أتباع الأنبياء السابقين، وهم المسلمون بالمعنى الأعم، وأهل الفترة، وأطفال المشركين، والملحقون بأهل الفترة..".


 
وفي ذات الإطار رأى الباحث والمحقق الأردني، صالح سهيل "أن التقويم الصحيح للشيخ علي جمعة أنه تجاذبت آراءه مدرستان: مدرسة الإصلاح، ومدرسة الغماريين (علماء ومحققون مغاربة، من أبرزهم أحمد صديق الغماري وعبد الله صديق الغماري، وعبد العزيز صديق الغماري..)، وهما مدرستان يجمعها خلع التقليد والانتهاض للجديد ضمن الضوابط المعتبرة بالجملة، ويفرق بينهما منهج الفهم والأسلوب".

وأوضح في منشوره الفيسبوكي، الذي اطلعت "عربي21" عليه، مواضع تأثره بالمدرسة الغمارية، ومواضع تأثره بالمدرسة الإصلاحية، فمن معالم تأثره بالأخيرة "أنك تجد الشيخ يرتاد الأفق الفقهي، ويمقت التمذهب والتقوقع على أراء معينة، ويترخص في الرخص المعتبرة التي بها العلماء..".


 
من جهته دافع الدكتور أشرف سعد، من علماء الأزهر وأحد تلاميذ الدكتور علي جمعة، عن فتاوى الأخير دفاعا شديدا، وهو دائما ما يصفه بالإمام والمجدد، فكتب واصفا طريقته في مناقشة أسئلة الأطفال والمراهقين في برنامج "نور الدين" بالقول "كما انتزع مولانا الإمام قضايا السياسية الشرعية كالحاكمية والولاء والبراء والخلافة من براثن الإخوان والعلمانيين، وكما قذف حجرا في مياه التيار الوسطي الأزهري الذي كان يتجاهل هذه الأمور، أو يتكلم عنه بخجل واستحياء..".

وأضاف: "فعل مولانا الإمام نفس الشيء في قضية العلاقات، وتأمل معي ما حدث، شيخ قدره كبير مفتي مصر الأسبق، عضو هيئة كبار العلماء من أكثر الشخصيات المؤثرة في العالم يخترق كل الحواجز، ويقلب الموازين، ويقتحم عقول الأطفال والمراهقين ويجلس معهم لا ليحكي لهم حكايات، ولا ليمنحهم الهدايا كما نفعل جميعا، بل ليسمع منهم أسئلة وجودية وفلسفية واجتماعية ويقترب من عقولهم..".

وامتدح سعد ما قام به جمعة بالقول "وكل ما فعله مولانا أن كسر هذا الجمود، وحاور الأطفال واستمع إلى ما يرقى أن يسمى بفلسفة الطفل، وما يدور في خلده وما يحدث في مجتمع المراهقين، وما يدور بينهم في حيز العلاقات لم يقل لهم هذا كفر وضلال، بل أرشدهم إلى العفاف، ووضع لهم خطة ورسم لهم طريقا لهذا العفاف، وبيَّن لهم ما الذي يقدح في العفاف..".


 
في المقابل كتب الداعية المصري (الأزهري) الدكتور عبد الله رشدي عدة منشورات، يرد فيها على فتاوى جمعة الرمضانية، من غير أن يذكره بالاسم، جاء فيها "لا علاقة غرامية يبيحها الشرع بين الجنسين دون عقد الزواج، ولا يرد في كتاب ولا سنة جواز العلاقات الغرامية خارج الزواج بدعوى أنها "عفيفة لا خلوة فيها".

وأضاف: "العلاقة الوحيدة التي يعرفها الشرع والتي لها وجود في الفقه الإسلامي هو (الزواج)، وأما أيُّ غرام وحب بالكلام والنظرات في مكان عام أو خاص قبل الزواج فلا يعرف الشرع إباحته بدعوى معرفة الأهل والمجتمع".

واستنكر رشدي خروج "الفتيات مع الشباب يتضاحكون ويتمازحون بدعوى أن نياتهم صافية، ولا يقبل هذا على محارمه رجل مسلم غيور" مبينا أن "النبي صلى الله عليه فصل بين الرجال والنساء في مسجده، فجعل للنساء بابا يخصهن لا يدخل منه الرجال، ونهى الرجال عن الانصراف من المسجد بعد الصلاة حتى تنصرف وتخرج النساء منه أولا" متسائلا "فما بالنا بالخروج والتنزه والتضاحك وتبادل النظرات والإعجاب بين الشباب والفتيات بدعوى أن "النية صافية".





 
من جانبه انتقد الباحث في العلوم الشرعية، بلال النجار، أحد تلاميذ المنظر الأشعري الدكتور سعيد فودة، ما قاله جمعة من أن دخول الجنة ليس حكرا على المسلمين، رافضا محاولات بعضهم تخريج كلامه "على أكثر من نحو، كالإجمال والتفصيل، والاعتذار بأنه لا يمكن أن يساء الظن بهذا الولي فينبغي حمل عبارته هذه على معنى حسن مقبول..".

وأكدّ في سياق رده على جمعة فيما كتبه على صفحته في الفيسبوك أنه "على جميع المشارب التي ينتسب إليها الدكتور علي عقدا وفقها وأخلاقا، وليس بيني وبينه شيء مما يمكن أن يتوهم أنه يبعثني على مناقشة مقالته والاعتراض عليها.." وأنه يكتب من باب النصح لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم".

ووجه كلامه لجمعة قائلا "والمفروض أنك يا د. علي وقد افتتحت العقد الثامن من عمرك تعلم أنك لم تستمد موثوقيتك، ووزن كلامك وقيمته إلا بسبب من كونك عالما منتسبا للمذهب الشافعي والفقه المذهبي عامة، وكونك عالما منتسبا للمذهب الأشعري ومذهب أهل السنة، وكونك صوفيا شاذليّ المشرب تنتسب للشاذلية والتصوف السنّي".

وتابع النجار: "فحين تتكلم يا د. علي المفروض أنك تصدر عن هذه المرجعيات التي تنتسب إليها، هذا الذي يكون حاضرا في ذهن قارئك، ومن يستمع إليك، وإنه ليتوقع منك الانضباط بأصول وضوابط تلك المرجعيات التي نلت مكانتك التي أنت عليها واحترام الناس لك بسبب التزامك بها، فإن لم تصدر في مقالاتك عن تلك المرجعيات لم يكن لذلك الانتساب من معنى ولا قيمة، وكان حينئذٍ اسما بلا حقيقة، وهذه مقدمة ضرورية يستوي في معرفتها الخواص والعوام، والأذكياء والطغام" وفق عبارته.

وأردف: "فإن كانت المذكورة مرجعيات لك فعليك أن تصحح قولك هذا وأقوالك القديمة، وما سيصدر عنك من أقوال في قابل الأيام بالاستناد إلى أصول تلك المرجعيات التي لست غافلا عنها ولا جاهلا بها ولا محتاجا لمثلي لكي يذكرك بها، وعليك أن تنضبط بضوابطها، وتسلك سيرة أئمة الدين والهدى في البيان الواضح الكافي وتنأى بنفسك عن الشبهات، وتتقي الشذوذات، وتدع الإبهام والإيهام في بعض المسائل، لأنك محل اقتداء وصاحب كلمة مسموعة..".


 
وفي ذات الإطار قال الباحث في العلوم الشرعية، نور الدين العطار "لا يشك مؤمن درس علوم الشريعة أن ما قاله المفتي السابق يعد نفيا لأمور قطعية في الشريعة، وليست من قبيل الظنيات التي يكون الخلاف فيها سائغا، بل إن مسألة عدم دخول من أدرك البعثة المحمدية من أهل الكتاب الجنة هي مسألة اعتقاد، فإن كان المفتي يقصد ظاهر كلامه فهذا من الكفر بشهادة شيوخه الذين يعتز بالانتساب لهم، كالعلامة الجليل الشيخ عبد الله بن صدّيق الغماري، وغيره من العلماء"ز

وأضاف: "فالشيخ عبد الله له رسالة في هذه المسألة خاصة بيّن فيها حكم من ينكر ذلك، وأرجو أن يكون المفتي إنما صدر منه ذلك الإطلاق في الكلام غير قاصد، وأرجو أن يكون فعلا كما يقول من يدافع عنه "إنه يقصد الذين عاشوا على الديانة النصرانية الصحيحة وماتوا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك من عاشوا على الديانة اليهودية دون تحريف وماتوا قبل بعثة عيسى عليه السلام، لكن ينبغي أن يخرج ويبين ذلك، ولا يترك الناس تتخبط، ورحم الله امرءا جبَّ الغيبة عن نفسه".

وردا على سؤال "عربي21" إن كان ما يقدمه الدكتور علي جمعة يعد من تجديد الخطاب الديني، نفى العطار أن كذلك، ووصف ما يفعله بأنه نوع من ثلاثة أشياء: أولها تعجُّله في الإجابة قبل فهم ما يطرح عليه من سؤال، وقبل تحرير عبارة الجواب كي لا تكون حمّالة أوجه، وثانيها: محاولة تصحيح أفعال الناس وما يفعلونه تأثرا بعادات الغرب، فهو بدل أن يعظ الناس ليقوي إيمانهم ليقبلوا شريعة الله، فيرفعهم إلى الشريعة، يحاول أن ينزل الشريعة حسب أهوائهم".

وختم كلامه بذكر الأمر الثالث، ألا هو أن "كثيرا من فتاوى جمعة هي عبارة عن خصومات سياسية، يلبسها لبوس الدين، وهذا من تحريف الشريعة، وكمثال على ذلك قوله عن حركة حماس في بدايات وقوع الانقلاب في مصر أنها خوارج، لأنه مخالف للحركة التي تعد قريبة جدا أو أساسا لحركة حماس، مع أنه ليس في فلسطين حاكم شرعي مسلم أصلا لتوصف الحركة بأنها خرجت عليه، وإنما هي حكومة جاءت بانتخابات شعبية، والأمثلة على ذلك كثيرة".