عندما تنتهي الحرب الإسرائيلية على
غزة، وستنتهي يوما، لا شك في ذلك، سيصطدم العالم بأسئلة حول من يُعمّر القطاع ومن يديره وكيف.
اليوم يبدو سؤال من يحكم ومن يُعمِّر متواريا لأسباب منها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يمتلك أي فكرة حول «اليوم التالي» وفي حالة إنكار تمنعه من تخيّل ذلك اليوم الذي يعني حتما نهايته المذلّة.
مشكلة «اليوم التالي» أن كل خياراته صعبة وربما مستحيلة. خيار عودة حماس لتحكم كما كانت قبل السابع من أكتوبر مرفوض من خصومها. السلطة
الفلسطينية مشلولة وعاجزة عن أن تدير القطاع كما تريد لها بعض الأطراف الدولية. حكم العشائر الذي تحبذه إسرائيل فاشل وهو استنساخ لتجارب أخرى ماتت في المهد.
من الأفكار التي طُرحت نشر قوات دولية تتولى الإدارة الأمنية للقطاع بمشاركة قوة عربية.
في البداية رفضت الدول العربية هذا الخيار، خصوصا الدول التي جرى التلميح إلى احتمال مشاركتها في القوات الدولية المفترضة. وزير خارجية الإمارات، الشيخ عبد الله بن زايد، استنكر حديث نتنياهو عن مشاركة محتملة لأبوظبي في إدارة القطاع. تعلّمنا في هذه المنطقة إذا نفى مسؤول عربي خبرا أو معلومة فاعلم أنها صحيحة أو في الطريق لتصبح كذلك. صحيفة «الفاينانشال تايمز» تحدثت الإثنين الماضي عن «ليونة» عربية لم تكن موجودة، ونقلت عن دبلوماسيين عرب استعداد بعض العواصم العربية للمشاركة في القوات الدولية المحتملة. قالت الصحيفة إن هذا الاقتراح واحد من مجموعة أفكار سُلِّمت حديثا للإدارة الأمريكية.
لم يحدد الدبلوماسيون الذين تحدثوا للصحيفة دولا بعينها، لكن من السهل تخيّل أنها لن تخرج عن دائرة الأردن ومصر والإمارات والبحرين والمغرب.
نظريا وبعيدا عن تعقيدات الحالة الفلسطينية وغزة، يبدو الاقتراح مثاليا، إذ لا يوجد أفضل من قوة عربية متجانسة لمهمة كهذه على أرض عربية. لكن على الأرض سيكون الاقتراح وصفة مثالية لكارثة وإخفاق آخر من الإخفاقات الكبرى التي مُنيت بها المنطقة.
ليس من الظلم للجيوش العربية أن يقول المرء إنها تصلح لأي شيء إلا الحرب أو فرض السلام. لقد تعرضت هذه الجيوش للإهانة خلال حروبها مع إسرائيل. كما برهنت عن إخفاق فادح في مواقف ميدانية أخرى مثل حرب تحرير الكويت (مثلا: نشرت مصر فرقتين مدرعتين لكن سرعان ما قامت أمريكا بتهميشهما عندما عجزتا عن التعامل مع مقاومة محدودة من الجيش العراقي. الجيش السعودي غارق في مستنقع اليمن منذ 2015 على الرغم من الدعم الأمريكي المستمر له).
ولا يوجد ما يوحي بحدوث تغيير نحو الأفضل رغم الأموال الباهظة التي أنفقها العرب على التسلح والتمارين الميدانية.
المشكلة لم تكن يوما مالية. إنفاق الجيوش العربية مجتمعة ليس بعيدا عن إنفاق دول حلف شمال الأطلسي. وتقديرات مجلة الإيكونومست العريقة تفيد أن إنفاق دول مجلس التعاون الخليجي الست، ومعها مصر والأردن، على التسلح والخدمات العسكرية، بلغ العام الماضي 120 مليار دولار، وهو ثلث ما أنفقت دول حلف شمال الأطلسي الـ30 مجتمعة في العام ذاته.
كل هذا وعند أول امتحان عسكري أو استراتيجي تسارع الحكومات العربية للاستنجاد بأمريكا وبريطانيا.
جوهر المشكلة أن الإنفاق العسكري العربي يذهب غالبا لشراء ولاءات في العواصم الغربية وكسب ودّ المجموعات واللوبيات النافذة هناك. لهذا كثيرا ما شملت المشتريات عتادا وأسلحة لا حاجة لها أو تجاوزها الزمن. وهذا سببه أن إرادة صاحب القرار السياسي تطغى على خبرة القائد العسكري ورأيه، فيوافق السياسي على صفقات من دون العودة إلى العسكري أو حتى إبلاغه.
وسينسحب هذا الخلل على غزة فيطغى رأي السياسي الجالس في قصر فخم على رأي العسكري الذي يواجه تعقيدات الميدان الأمنية والسياسية والنفسية.
قبل أيّ حديث عن تفاصيل عملية وفنية، يجب القول إن أكبر عائق أمام تنفيذ الفكرة معنوي: العار الأخلاقي المرافق لها.
عمليا، الحديث عن قوات حفظ سلام يتطلب وجود طرفين متحاربين. لكن المنتظر أن إسرائيل لن تكون موجودة في غزة بعد الحرب الحالية، فأي صراع يُخشى منه وإسرائيل غير موجودة؟ هل المقصود حفظ الأمن والنظام العام؟ هذا يعني الخوف من وجود جهات غير نظامية تكدّر الأمن العام. هل المقصود حماس أم «داعش» مثلا؟ هل يُخشى من اضطرابات اجتماعية من أجل الخبز والكرامة وحرية التنقل؟ في هذه الحالة، هل ستتصدى القوة المقترحة إلى سكان غزة إذا ما احتجوا على أوضاعهم المعيشية التي ستكون أكثر من مأساوية؟
العقبة الأخرى هي أن إسرائيل لم تُبد أي اهتمام بموضوع القوات الدولية المُطعَّمة عربيا. إسرائيل، كما يتسرب في إعلامها المحلي، تفضل أن يتولى إدارة الشؤون المدنية في غزة بعض قادة العشائر من الجنوب.
أما العقبة الأكبر فهي أن العرب، بسبب ظروفهم المعقدة وخلافاتهم العميقة وهشاشتهم، غير مؤهلين ليكونوا قوة قائدة تفرض رأيها وقرارها. ناهيك عن أن الجيوش العربية لا تمتلك أي خبرة في حفظ السلام بالطريقة التي دأبت عليها الأمم المتحدة. لهذا فالأرجح أن تكون القوة العربية مجرد تابع للقوات الدولية كما كانت في حرب الخليج وغيرها.
أما إذا تعلّق الأمر بحفظ النظام العام، فأين هو الجيش العربي (وحتى الشرطة) الذي يمتلك هذه الخبرة والحنكة؟
كيفما قلبنا الأوراق النتيجة واحدة: نحن أمام مشروع استعماري لغزة يريح إسرائيل من الصداع اليومي. إنه فخ تنصبه أمريكا للعرب بعد فخ تمويل إعادة الإعمار. إذا ما خرجت الفكرة إلى النور ستكتفي إسرائيل بترف السيطرة على الجو وتتولى أمريكا السيطرة على البحر (من خلال الميناء العائم الذي يجري بناؤه) بينما يتحمل الآخرون، ومنهم العرب، تبعات المواجهة اليومية مع أهالي غزة الذين لن يستطيع أحد أن يُنسيهم أن هذه القوة هي ثمرة صفقة أمريكية لئيمة.
الجيوش العربية مكوَّنة في العادة من أبناء عامة الناس الذي تسكن المعاناة الفلسطينية وجدانهم. وهذا يجعل من الصعب أن يرضى جندي عربي بأن يجد نفسه في مواجهة مع سكان غزة أو جزء منهم. إن أقل واجب تجاه سكان غزة بعد الأهوال التي عاشوها أن يُمنحوا حق اختيار مَن يحكمهم.
(
القدس العربي)