لم تعد ايران الدولةَ العقدةَ بالنسبة لمحيطها العربي في معظم أقطاره الرئيسية بل باتت واحدة من أهم عقد السياسة الدولية فليست إشكالية التخصيب النووي سوى الرأس الظاهر الطافي على سطح أعماق طافحة بالعديد من تراكمات الصراعات البينية مع هذه الدولة منذ أن اعتنقت عقيدة الخمينية، باعتبارها عنواناً لنوع من سلطنة دينية كليانية تتوسل بعالمية الإسلام، كتغطية لنزعة توسعية جديدة لاتخلو من رواسب عرقية فارسية عائدة إلى ذاكرة إمبراطورية كسرى أنوشروان كان اجتاحها الفتح الإسلامي العربي قبل خمسة عشر قرناً.
الثورة الشعبية العارمة التي قوضت الدولة الشهنامية وأحلامها بإحياء الأمبراطورية الكسراوية هذه الثورة الكبرى التي اشتركت في تفجيرها وقيادتها معظم حركات المعارضة العلمانية واليسارية، استطاع لفيف من مشايخ ملالي (قُمْ) اختطافها وهي في خطواتها الأخيرة الصاعدة نحو عرش الشاه، وكما يحدثنا تاريخ تلك المرحلة، المعتّم علمياً على تفاصيلها حتى اليوم .فقد كانت الثورة
الإيرانية جماهيرية في أصلها، وكان التيار الديني واحداً من مكوناتها الكثيرة ولعله كان من أشدها صلابة تربوية وتنظيماً منسوخة عن نموذج تحشيدي انضباطي أقرب إلى صياغة الأحزاب الفاشية، في حين كان اليساريون والعلمانيون كعادتهم متفرقين ومتنازعين فيما بينهم، كان سقوط الشاه السريع، وانفتاح الطريق نحو المراكز السلطوية العليا أمام قادة الفصائل والشخصيات المعارضة، قد ضاعف من تناقضات طروحاتهم الآنية حول صيغ السلطة الثورية القادمة، ما جعل الخميني ورجاله المقربين هم الأسرع في المبادرة، والإمساك التدريجي ثم الكلي بمفاتيح السلطة العليا واحتلال مفاصلها الرئيسية.
ثم حان دور التصفيات الجذرية لشركاء النضال السابقين، ليس من العلمانيين وحدهم، بل شمل التطهير السلطوي الجديد كلِّّ الشخصيات الدينية الأخرى، المخاصمة أو المنافسة لمدرسة الخميني وأتباعها وخاصة لشخص زعيمها الأوحد، لم تكن هذه الزعامة مكتفية باحتلال قمة الهرم الدولي كان عليها أن تعيد صياغة هيكلية هذا الهرم من أعلاها إلى أدناها، أن تفرض على مكوناته الإجتماعية تراتبيةً تبعية تناظر نوعاً ما تراتبية مؤسسة الحوْزات المذهبية القائمة.
هنالك مكتبة كاملة من الدراسات والمؤلفات التي أنتجها مثقفو المجتمع الأهلي الإيراني السابق على الثورة والمصاحب لتطوراتها الأولى المقيم بعضه في هوامش البلاد، أو المهاجر أكثره بالملايين إلى منافي
الغرب.
وقد تم نشر القليل من تلك المؤلفات والوثائق في اللغات الأوربية. ومع ذلك لا تزال معظم تطورات الخمينية وسلطانها المتأصل، شبه مجهولة للرأي العام الخارجي. ونحن العرب لم نطلع إلا على شذرات من حقائق النشوء والتطور الذاتي لهذه التجربة الفريدة في قيام أحدث إمبراطورية دينية باسم الإسلام الذي صار على العرب أن يتعرفوا عليه كما لو كان عقيدة أخرى مختلفة قليلاً أو كثيراً عمّا ألفوه من إسلام غالبيتهم العظمى.
العرب اليوم هم بين مشروعين يحاصران المشرق، وقد يقال أنهم باتوا بين نارين حقاً، هما الصهيونية الغازية من ما وراء البحار والمقيمة بل المحتلة لمساحة من فلسطين، ومشروع الإمبراطورية الكسراوية المتجددة تحت عباءة المذهبية العصبية. في حين استبشر العرب جميعاً بمولد الديمقراطية، عندما تهاوت ديكتاتورية الشاه المتصالحة والمتحالفة علناً مع اسرائيل والتي كانت حاملة لإيديولوجيا الإمبراطورية الكسراوية بألف باء عنصرية عرقية صارفة.
لكن تلك الثورة الجماهيرية الأولى من نوعها في عمق الجغرافية الإسلامية لم تستطع أن تؤسس سلطة تلك الديمقراطية التي كانت هي المحرك الأساس لانطلاقة الشعب، كأنما كان خلاص الشعب آنذاك من نير الإستبداد الإمبراطوري العنصري، مُبرمَجاً له أن يقع هذا الشعب ثانيةً تحت نير الإستبداد الآخر المحروس بالمؤسسة المذهبية التي اختطفت الثمرة العليا لثورة الجماهير، أمسكت وحدها بتلابيب الدولة، طردت واضطهدت، وحتى أبادت كل النزعات السياسية الأخرى، استحوذت وحدها على مصالح الدولة والناس، ثم تغلغلت (عقيدتها) في نفوس الغالبية من العامة، حتى جعلت الناس كأنهم مستبدون بأنفسهم تلقائياً.
هكذا إذن تم إعداد النموذج الأول للدولة الدينية في عمق المجال الجيو سياسي للعرب وربما للعالم الإسلامي كله. لم يتبق إلا تعميمُ هذا النموذج على الجميع، بمختلف وسائل التدمير الذاتي. حتى كاد أن يدخل الجميع تقريباً تحت جبروت النقلة الخبيثة من المشروع النهضوي الجامع إلى نقيضه المشروع الديني المذهبي المفرّق والمبدِّّد. افتتح هذا المشروع الجديد عهدَه المشؤوم بالحرب الإقليمية بين إيران الملالي والعراق. وفي الجهة المقابلة كانت الحرب الأهلية في لبنان تتابع ابتكار أدوات الجحيم الحارق للجميع. ومنذ ذلك الوقت حتى يومنا يعيش المشرق تحت مرحلة الإنتقال العصيّة هذه ما بين المشروعين النهضوي المتهالك ولكن الصامد، والمذهبي الصاعد ولكن المتعجل في افتضاح نكباته، واحدة بعد الأخرى.
ما يمكن قوله أن (إيران) لا تزال ساعية إلى انتزاع إعتراف العالم بمشروعها المذهبي كبديل محتوم عن وحدة النهضة العربية وقيادة هذه النهضة للقارة الإسلامية الممتدة أطيافها من المحيط الأطلسي غرباً إلى العمق الآسيوي شرقاً. تريد إيران هذا الاعتراف العالمي أساساً من قبل طليعته السياسية المتمثلة بقادة ما يسمّى المجتمع الدولي هؤلاء الذين وافقوا أخيراً على تعديل سياساتهم الإستراتيجية خاصة بما يجعلها تعيد تلاؤمها مع معطيات الإنقلاب الأمريكي نحو مناهج الدبلوماسيات الناعمة.
إنه حلم الخمينية أن تغدو منهجية إيران ليست البديلة فقط عن النهضة العربية ومفاجآتها (الثورية) و(الإيديولوجية) المشاغبة، بل يمكنها أن تستقطب كل أدوار التموضع
الإسرائيلي في جانب من جغرافية المنطقة. فحين سيأتي وقت الإنكفاء الغربي الكامل عن المنطقة لن يتبقَّى لها أية أحلام استراتيجية في اختراق قلاع العرب، لن يستديم لإسرائيل ثمة مستقبلٌ من دون تلك الحماية المستوردة من قوى الشمال. بينما تتمتع إيران بالوجود الدهري، في هيكل تاريخ المنطقة وجغرافيتها معاً..
فمن هم الباحثون اللاهثون وراء أية صفقة، عبر هذه المفاوضات الماراتونية في جنيف؛ كلا الفريقين الغربي والإيراني أمسيا في أمسِّ الحاجة إلى بعضهما، فإذا لم ينعقد الإتفاق بينهما اليوم، فسوف ينعقد غداً أو بعد غد. لن تقف إسرائيل كإعاقة لا يمكن تجاوزها رغم انها أشد خوفاً من بعض العرب الآخرين الذين يتوجسّون مسلسلاً جديداً من شرور المذهبية الفتاكة، في حال رفع الحجز عن الإختراقات المذهبية لما وراء حدود معظم أقطار المنطقة في مرحلة ما بعد الصفقة الغربية. الرعب الإسرائيلي ليس من النووي الإيراني وحده بل أعظم هذا الخوف هو أن إسرائيل الدولة، قد لا تبقى المعتمدة الفريدة، والحارسة المفضلة للغرب، المنتدَبة على كنوزه العربية.
أما الخوف العربي؟ فلن يكون من شأن أحد أن يهتم به إلاّ بالطريقة الوحيدة التي كادت طلائع شبيبة الميادين الثائرة أن تكتشف معانيه وأن تخترع وسائله المباشرة. لولا أن المذهبية الإيرانية وأشباهها اتخذت لنفسها أدوار النقيض المجرب لبوادر الربيع العربي. هكذا يمكنها أن تجهض ثوراته بانطلاقها إلى ما وراء خطوطها. وإطلاقها معاً، بإرادتها وغيرها، لعواصف التدين الشعبوي، تحت كل شعار ثوري زائف.
وأخيراً وليس آخراً، قدمت هذه الموجة برهانها الأكبر على استحقاقها لصفقة الإعتماد الإقليمي من قبل الغرب، عندما مدَّت لمركب الديكتاتورية الآفلة في دمشق خشبةَ الإنقاذ من نهايته المحتومة.
أقطاب المفاوضات في جنيف قبضوا وتوزّعوا جميعاً أثمانَ الصفقة سلفاً، فلماذا يكفّون عن الهرولة، كلهم أو بعضهم. فمن هو الفريق الذي سيسبق الآخرين إلى التوقيع على وثيقة الصفقة، هل هذا هو السؤال الأخير!
(عن القدس العربي)