كتاب عربي 21

التوافق التونسي المغشوش

1300x600
لهجت الألسن بتمجيد التوافق السياسي التونسي الذي أنتج الدستور والحكومة الانتقالية المعنية لتمهيد الانتخابات نحو الوضع النهائي كما لو أن الأمر معجزة حقيقة مؤذنة ببناء الديمقراطية الكاملة.  

وللتمتع بهذا التوافق روجنا جميعا لكل خطاب يراه بصيغة المعجزة التونسية. ولنتمتع بمداعبة الذات المغرورة قارنّا الأمر بالحالات المصرية والسورية والليبية، فرأينا انتصارا خارقا للمألوف التاريخي العربي، وروجنا للاستثناء العبقري بتلذذ كشف آلية أيديولوجية هي الهروب من الحقيقة. فليست هذه الزفة إلا هروبا من معارك مؤجلة  ومن كلفتها المحتملة من البشر، وخصوصا في القيادات الفاشلة  العاجزة عن التصدي لبناء بلد قام بثورة وأعطى لعالم راكد فرصة خلخلة مسلمات كونية. إني لا أرى توافقا بقدر ما أرى نفاقا.

لقد حصل توافق سياسي مرحلي بين طرفين أولهما التوليفة السياسية الحاكمة وأصدقاؤها في الداخل، وبعض من ينصح لها في الخارج، وبين من كان يصنف نفسه معارضة ومن يلقي إليه بالتعليمات من الخارج ويدعمه بالضغط المالي والعلاقات الدولية الواعدة بإعادة الأمور إلى نصابها الذي كانت عليه. وانتهى التوافق بإفراز حكومة لا يعرف التوانسة معظم وزرائها المنعوتين بالتكنوقراط، وما هم إلا موظفون سامون يمكنهم لعب دور رئيس مصلحة يعد بما لا يستطيع، أو ينفذ ما لا يتفق عليه في الداخل ولكنه يستجيب لمصلحة خارج الحدود.

وقد تجلى الارتباك في لهجة السيد مهدي جمعة وهو يقف بين رغبات الاستئصاليين الذين فرضوه بديلا لسلفه النهضوي، وبين النهضويين أنفسهم الذين يمسكون باحتمالات بقائه في المنصب. فهو إذ يشخص الأزمة الاقتصادية يرجعها إلى كثرة الاضرابات والاضطرابات، لكنه لا يسمي النقابة التي نظمت كل ذلك. وهو يتجنب ذكر فشل النهضة في التزام خط الثورة وقبولها بالمناورة بدل المواجهة مع فلول النظام الذي تعاضد مع النقابة المسيسة بما جعل الحكومة ترزح تحت مطلبية النقابة غير المتواففة مع نسق نمو فعلي. لقد حققت بعض القطاعات المهنية غنائم وتمترست لوبيات اقتصادية بمواقعه بما جعل الخطاب مرضيا لمراكز الثقل السياسي/ الاقتصادي. ولم ينشغل المتوافقون بأنه خطاب يفرغ الثورة الاجتماعية من مضمونها ويحيد عن مطالبها الاجتماعية التي أثارتها.

دخل الجميع في حالة من الاندهاش أو التظاهر بالدهشة كأن الأمور تسير طبقا للبرنامج الثوري الذي أوصل جميع هؤلاء الى مركز القرار السياسي، لكنها بهتة ممسرحة، فالجميع يزعم المعارضة والموالاة، وهم على كرسي النقد، لكنهم لا يعترضون على الجوهر. ويصر الشق الاستئصالي في المعارضة (سابقا) على مواصلة استعمال حكومة جمعة لتصفية مراكز قوة الخصم النهضاوي بدعوى تنظيف الطريق أمام الانتخابات.

ما هي حظوظ استمرار هذا التحالف؟

كان هذا التحالف ذريعة لاستمرار شكلي للدولة. فالذين عارضوا سابقا أفقدوا الذين حكموا القدرة على الاستمرار في إدارة البلد بما هدد استمرار الدولة وأوشك أن يسلمها من جديد إلى شارع بلا قيادة  تنتج مشروعا ديمقراطيا اجتماعيا جذريا أو تكتفى بالفوضى المهددة لمصالح الكثيرين ممن يختفون خلف خطاب التوافق واستمرار الدولة. التهديد بانهيار الدويلة على رؤوس الجميع وضع الحاكمين في وضع الإحساس بالذنب مقابل إحساس معارضيهم بغنم سهل، فكشف فقر الجميع إلى البديل، فانتهوا إلى بديل لا يلبي مطالب الثورة وينحاز في بقائه لمن يملك أن ينفق عليه في الإعلام وفي الإدارة. 

لقد كشف الخلاف والاتفاق الذي أنتجه أن الفرقاء أدخلوا بينهم طرفا ثالثا في نزاع داخلي هو الممول الخارجي وأهملا كلاهما الطرف الوطني المعني بجوهر الخلاف (صاحب القضية). لقد صار الحاكم الفعلي من خارج الحدود بزعم رعاية التوافق وإسناده بموقف سياسي دولي وموقف مالي. هكذا وصلت حكومة جمعة منبتة عن شعب لم ينتخبها وإن رضي بها من قلة حيلة وتنظيم، فهو مستسلم لقدر غشوم وضعته فيه الجهة التي اغتالت ورتبت على الاغتيال استثمارا سياسيا انتهى بعزل المنتخبين وتولية غير المستوردين بما يجعل التوافق غشا محضا ومؤذنا ككل عمل  مغشوش بنهاية غير مربحة لطرفيه.

حظوظ استمرار حكومة جمعة 

يوجد حالمون كثر بإعادة إطلاق الثورة من جديد، لكن  التوافق المبرم في الكواليس سيحمي هذه الحكومة لأن سقوطها يعري التوافق، ويعري الأطراف المسندة لها في الداخل، ولن يكون بمقدورهم إعادة بناء توافقات سياسية قابلة للبقاء أمام من ارتضوا شراكته الخارجية حكما بينهم، وهم في ورطة مركبة من الضعف السياسي الشعبي ومن الهشاشة الاقتصادية في الداخل بما يجعلهم عرضة للابتزاز السياسي من الخارج لمزيد رهن البلد بالديون. لقد وصل التوازن في هشاشته حد أن كل طرف يحتاج لتكملة ضعف خصمه لكي يستمرا واقفين. فهم لا يستندون لبناء قوة بل يتحامون من ضعف. أطراف التوافق الداخلي تحمي عورات بعضها المكشوفة لتستمر في السلطة توزع غنائمها، ولكنها مضطرة إلى الإلحاف في حق الجماهير المستغباة التي أوصلتها إلى سدة الحكم، بما يجعل التهديد حقيقيا ومتوقعا في كل لحظة، لذلك فإنها بمجرد الاستلام سارعت إلى الالتفاف على الحريات القليلة المكتسبة تمهيدا لمحقها والعودة إلى مربع العصا والجزرة. وما أكثر الطامعين في الجزرة لكن ما أكثر المتحدين للعصا.

هذا هو المعطى الذي لم يقدره التوافق المغشوش حق قدره. توافق تونس المغشوش يقدم فصلا جديدا من استيلاء نخب المال والمناولة والطبقات الوسطى المتمعشة من ريع الدولة على جهاز الحكم ورد مطالب الثورة الاجتماعية على وجوه أصحابها. وهو مشهد صراع اجتماعي جذري انتزع بحيل السياسة القصيرة الأمد سلاح التظاهر الحر من شارع بلا نخبة ثورية وبلا برنامج ثوري. وهنا بيت الداء. لكن ما هي إلا معركة. لقد حدثت ثورة وانكسر الخوف، ولم يقع ذلك من أجل مزيد من تفقير الفقراء وإغناء الأغنياء، بل من أجل عدالة اجتماعية تحفظ الكرامة الفردية والسيادة الوطنية في لحظة قادمة وشيكة لن يصمد أطراف الاتفاق أمام شارع متوثب. وساعتها لن يكون بإمكان الطرف الخارجي أن يكون حكما بين الناس وبين سراق الثورة.

• أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية