مقالات مختارة

مصر والضفدعة

1300x600
مصر الآن تشبه العصب المكشوف، في معظم الأيام يهدأ الألم من الروتين التقليدي. وقد جربت أن أتجاهل الألم ولكن الآن حتى بعد ثلاثة أعوام من ثورة 25 يناير مصر تدق مثل العصب المكشوف، وبالرغم من إقامتي في نيويورك إلا أن المسافة لا جدوى لها.

يقول الفيلسوف البريطاني ألان واتس في نصيحة له حول كيفية العيش في سعادة: "على حد علمنا كل شخص منا سوف يعاني ويموت في النهاية." باختصار تجنبوا القلق غير المجدي حول المستقبل.

أحاول اتباع هذه النصيحة وأنجح في معظم الأحيان. وفي الحقيقة غالبا ما أعاني من العكس: أي عدم القلق بشكل كافي. فأنا أفشل في استيعاب الحاجة الملحة لمعظم الأشياء. وطريقتي في التعامل مع جدول أعمالي هي: إذا كان هناك شيئا مهما فسوف يفرض اولويته على جدول الأعمال. أقول لنفسي: لست بلا مأوى ولا أتضرر جوعا، ولابد أن تكون هذه الاستراتيجية نجحت بشكل ما. كما تقول لي شريكتي في السكن الجامعي: انا أكثر إنسانة طموحة كسولة عرفتها.

ولكن مصر عصب مكشوف.
صوت أختي متقطع على الهاتف.
قلت لها: "الصوت عالي جدا عندك".
قالت: "نعم عذرا أنا في طريقي إلى المنزل والانترنت ضعيف."
وتلاشى صوتها فجأه ثم قالت: "لحظة تلقيت رسالة، تقول أنهم وجدوا قنبلة بالقرب من دار الأوبرا."
صمتنا لحظات.
ثم قالت لي وبالطبع لنفسها: "أنا قادمة للتو من دار الأوبرا."
شعرت بالتجمد.

أختي تعيش في مصر وكذلك بقية أسرتي: أمي وأبي وأخي الأصغر الذي أشعر بالمسئولية الشديدة عنه. وهي تعيش على بعد أميال طويلة مني وهناك فرق سبع ساعات بيننا. وربما كانت هناك مصيبة على وشك الحدوث، ولم تلك المرة الأولى التي حدث فيها هذا الأمر وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة. 

غيرنا الموضوع.

مرت ثلاثة أعوام على الثورة المصرية، وأصبحت الأخبار القادمة من مصر مزيج من كل أنواع الميلودراما: الغضب والخوف والاستسلام واللامبالاة والهستيريا. 

أحد العناوين في الصحف المصرية: "مصر تضيف الدمى إلى قائمة أعداء الدولة."

أدى أحد الإعلانات التجارية لشركة فودافون إلى ذعر قومي. فالدمية التي في الإعلان على حد قول الإعلام المصري ترسل رسائل مشفرة لعمل إرهابي وتتحدث بالنيابة عن الارهابيين. 

وقال لي أحد المعارف: "ما الذي يجعلنا متأكدين أن هذا غير صحيح؟" فتركت الحوار.

وهذه هي الأخبار الجيدة من مصر، وهي عبارة عن كوميديا سوداء. أما الباقي فهي أخبار مأساوية للغاية: "تفجير دموي يستهدف حافلة سياحية"، "انفجار قنبلة بالقرب من أكاديمية الشرطة بعين شمس"، "مقتل جنود في حادثة إطلاق نار بالقرب من القاهرة"، "أربع تفجيرات تودي بحياة ستة أشخاص"، "انفجار يدمر متحف الفن الإسلامي".

ولكن على الأقل هذه أخبار حقيقية. فأغلب الإعلام المصري مليء بالهراء: الخلايا النائمة، الطابور الخامس، نظريات المؤامرة التي تهدف إلى بث الذعر في النفوس: "أسلحة كيماوية في اعتصامي رابعة والنهضة"، "أوباما عضو في جماعة الإخوان".

أحيانا أشعر بالاستغراب عندما أجد أصدقاء مصرين خريجين كليات علوم سياسية عالمية منفصلين عن الواقع في مصر. ولكن لماذا أهتم بمتابعة الأخبار المصرية؟ أنا صحفية وابنة صحفي ولكني قضيت شهور في مطالعة مجلة عن شكل الجسم المثالي في الصالة الرياضية. وأتابع وسائل التواصل الاجتماعي بشطل تطفلي حيث أتابع فقط بدون مشاركة شيء. ولكني مثل الكثيرين أدمنت وسائل التواصل الاجتماعي بعد ثورة يناير ولكني سئمت من تويتر بعدها بفترة. وأصبح تفكيري مشتت بشكل ما يتخلله بعض نوبات القلق بسبب بعض الأخبار التي تأتي من مصر.

أحدى صديقاتي حاولت مرة أن تشرح لي قرارها بالذهاب إلى الدوحة للسفر في الخارج بدلا من الذهاب إلى أوروبا أو الولايات المتحدة مثل أغلب الناس. فقالت لي: "هذا أبعد مكان يمكنني الذهاب إليه."

مرت سبعة أعوام على حديثنا هذا، وأشك أنها حتى تتذكر، ولكني أشعر بأهمية ما قالته لي بمرور الوقت. فالآن دوري للتفكير في أبعد مكان يمكنني الوصول إليه. ليس هناك الكثير من زملائي من المهتمين بالشأن المصري وهذا جيد للغاية.

ولكن هناك جانب مظلم للعيش بعيد عن مصر الآن: أصبح من الصعب تخيل مدى سوء الموقف في مصر الآن. ليس بسبب قلة الأخبار ولكن لأن إحساسك بالموقف يقل حيث تفتقر إلى الرؤية والاستنشاق والاستماع إلى نبض الشارع، وهذا لا علاقة له بمدى قلة أو زيادة رد فعلك ولكنك لا تعرف كيف يجب أن يكون رد فعلك. ولذلك ألتفت إلي مصر لأحاول أن أستوعب كيف أقرأ الاخبار وإلى أي مدى يجب أن أقلق.

ولكن هناك شيء مقلق عن أبي وأمي: فهما ليسا من النوع الذي يقلق. وأنا شاهدة على ذلك، فشعوري الدائم بعدم الاكتراث هو أمر موروث منهما. أقلق أن لا يكونا قلقين بما فيه الكفاية. وأخشى من الخيانة التي تشبه ما يحدث عندما توضع الضفدعة في إناء من الماء قبل أن يغلي. في البداية يتم وضع الضفدعة في الماء وتزيد درجة الحرارة بشكل تدريجي. والضفدعة لا تلاحظ الخطر المحدق بها. ولا تقفز من الإناء. ثم يتم غلي الماء حتى تموت الضفدعة. 

يدق هاتفي. الكريسماس 2013.
"هل سنخرج لشرب القهوة كما اتفقنا؟"
"نعم بالطبع لم لا؟"

"ألم تسمعي عن التفجير الذي حدث اليوم؟ أخشى أن يكون الطريق مزدحما."
"لا لا التفجير كان في مدينة نصر. ليس لدينا مشكلة. تجعليني أشعر أننا في بيروت."
أنا لا أريد أن أكون هذه الضفدعة.