كتاب عربي 21

التطبيع مقابل الغذاء

1300x600
صورة الفتيات الصهيونيات يرفعن علم الكيان على أرض تونسية موجعة لكل ذي قلب سليم، وقد أعادت إلى السطح مسألة التطبيع مع الكيان ولكن من غير المنتظر أن تخرج المسألة في هذه المرحلة من التنابز السياسي والتوظيف الرخيص بغاية الإرباك المتبادل في أفق انتخابي يقترب. 

لقد نظر رئيس الحكومة المؤقتة مهدي جمعة إلى الأمر ساخرا "التطبيع ليس من القضايا الكبرى".. لذلك فهو يعمل بكرامته على التجاوز والعمل على القضية الأكبر أو أم المعارك أي تدبر قوت الشعب المصاب بمجاعة أين منها مجاعات الصومال. الصورة واضحة لديه التطبيع  بما هو تخل ارادي عن القضية العربية الكبرى والتعامل مع  السياح الصهاينة على انهم جنسية عادية  مرحب بها في موسم سياحي مفيد ليس قضية كبرى؟ ما هي القضية الكبرى لديه انها انجاح الموسم السياحي وحساب غنائمه النقدية  في آخر الصيف.

انه على حق... لقد ورث نظاما اقتصاديا يتنفس بالسياحة و يرى ألا مخرج له إلا  النقد الأجنبي الذي يغنم من الموسم وهو ينافس في ذلك جيرانه ويقدم بضاعة مزجاة ويأمل أن ...لكن يفوت السيد رئيس الحكومة أن هناك ثورة قد  حصلت  وطرحت  مطلبين مهمين الكرامة اولا  ثم الغذاء.
  
الكرامة  تقتضي تعديل مسارات تحصيل الغذاء بتأسيس منوال تنمية  جديد  لا يعتمد بالدرجة الأولى على عائدات السياحة المرهونة دوما للسياسة الخارجية  للوكالات السياحية العالمية  التي تقع تحت هيمنة صهيونية خاصة منها الموجودة في الغرب الاوروبي. وقد رأينا أن هذا الوكالات ضغطت على بلدان مثل تونس ومصر والمغرب كلما تبين لها أن سياسة هذه البلدان الخارجية ليست ملائمة لما تريده الصهيونية العالمية.انها وكالات مسيسة  ولها أجندتها في توجيه أفواج السياح طبقا لاملاءات صهيونية في الأعم الأغلب منها والتعامل معها كان ولا يزال مرهونا بتخفيف التوتر على جبهة معاداة الكيان الصهيوني.

سيقول انصار مهدي جمعة والمتحمسين لسياسته انه ميراث ولا يمكن تغييره بضربة سيف خاصة في ظرف اقتصادي حرج. ونرد على هؤلاء بما يلي:

هب أننا أجلنا الحسم هذه السنة  وغضضنا الطرف عن  تطبيع سنة أو سنتين (على أنه لا يمس من المبادئ الراسخة ولا يمس القضايا الكبرى أو طبقا لفتاوى الضرورات التي تبيح المحظورات)  فهل يعتبر ذلك حلا ؟ كيف سنبرر التوقف عن ذلك  في قادم السنوات؟ هل يمكن  التخلي عن المبادئ  سنة والعودة اليها  لاحقا كما لو أنها لباس فصلي يغير بتغير المناخ.

لقد ترادف مطلب الكرامة  الوطنية  مع مطلب الحرية  ولأننا أحرار فسنقول ما يرين على قلوبنا من أجل تحصيل كرامتنا ومن كرامتنا  الراسخة أن الكيان الصهيوني عدو ماحق للأمة لا يمكن التعامل معه كأنه دولة صديقة.

إن المنوال الذي طالبت به الثورة يقتضي الالتفات أولا إلى الموارد الداخلية  وتنميتها وبدء الاعتماد على الذات انتاجا وتصديرا. والموارد الداخلية  ليست قليلة ولا منعدمة ولا يمكن أن ينحط هذا البلد إلى حالة المجاعة مهما ساءت إدارة الاقتصاد مرحلية أو هيكليا. لذلك فإن مواصلة التأكيد على ثقل الميراث يجر سؤالا آخر  مهما إلى متى نبرر بالميراث الثقيل وقد حصلت ثورة؟ 

لقد طرحت الثورة مشروعها ومنه تخفيف وزن السياحة في تغذية الاقتصاد الوطني بالعملة الصعبة. والشروع في تنويع المصادر الاقتصادية  بالتصدير للمواد الفلاحية  و الصناعية و تصدير الخبرات البشرية  لرفع منسوب التحويلات إلى الداخل بما يجعل السياحة تصبح مصدرا ثانويا دون العمل بالضرورة على تقليص الاستثمار فيها لكن بجعلها رافدا ثانويا وليس أساسيا بحيث  يخرج الاقتصاد من الارتهان للوكالات السياحية المسيسة. وهم أمر لا يتناقض مع تغيير  التوجه إلى أسواق سياحية  أخرى لا تخضع لهذه الوكالات منها السوق الآسيوية  (الصينية والكورية  واليابانية) فضلا عن ضرورة إحداث اختراق فعال في السوق الغربية عبر انشاء وكالات عربية مشتركة لتسويق المنتوج التونسي والعربي دون المرور بوكالات ذات أجندة سياسية صهيونية. فليست الأفكار هي التي تنقص المشهد ولكن ارادة التغيير طبقا لمطالب الثورة هي التي تخرج مطلب الكرامة  من جدول أعمال حكومة ما كان لها أن تكون لولا الثورة. 

يتعلق الأمر في تقديرنا بسياسة محافظة  تفتقد شجاعة الإيمان بالتغيير و تحمل كلفته في المدى القريب والمتوسط فضلا عن عدم استشراف أبعاده فتميل إلى التبرير بما هو آني ومستعجل بعد طول تخويف من الأزمة. يتبين من خلال مشاهد الدعاية الفجة في إعلام  مأجور أن القائمين على الأمر ليسوا مستعدين لتحريك حجرة واحدة من طريق الثورة لتمر إلى تنفيذ أجندتها لتحقيق الكرامة وهم يثبتون كل يوم وفي كل ممارسة أنهم يعملون بجد على إعادة نفس النمط الاقتصادي التابع الذليل العاجز عن حل أزماته من داخله وبإمكانياته الذاتية وهو النمط الذي يضع الإدارة كلها ويضع البلد برمته في خدمة طبقة المستثمرين في السياحة والمناولة ويمهد لهم الطريق لمزيد صناعة ثرواتهم الذليلة المذلة وهذه الطبقة في الأعم الأغلب منها غير معنية برفض التطبيع مع الكيان الصهيوني وغير مشغولة بقضايا التحرر والانعتاق وتحقيق الكرامة. إن هذه ليست مطالبها ولذلك قبلت بالدكتاتورية الغاشمة وزينت لها فعلها وتقاسمت معها البلد غنيمة وسخرت لاحقا من الثورة ومن مطالبها وهددتها في مسارها ووجودها وما استقبال الصهاينة يرقصون في جزيرة جربة إلا استعادة لمشهد سابق حصل بنزول الطائرة التونسية رافعة العلم الصهيوني فقد تم اصدار نفس التبريرات من الانفتاح والتعايش لدعم السياحة في بلد حديث.

إذن التطبيع معركة بين مطلب الكرامة ومطلب المنفعة الذليلة. وقد انحازت الحكومة إلى شق المذلة على حساب الكرامة لتعيد علينا دروس النفعية الرخيصة متجاهلة كل ثقافتنا عن جوع الحرة التي لا تأكل بثدييها لأنها ترى بعين ساخرة أن هذه من القضايا الكبرى التي لا حل لها أو التي تصلح لغير هذا الزمن.

ربما يكون تواطؤ السياسيين في هذه المرحلة ضد دسترة تجريم التطبيع قد شجع هذه الحكومة على المضي في مشاريع الاستثمار المذل وهي في هذا على حق أو لا يزايد عليها خاصة من قبل الأحزاب والجماعات المطبعة لكن الطبقة السياسية المناورة على حق وعلى باطل ليست كل الشعب فالكرامة ليست مطلبا نخبويا وهي ليست بالخصوص مطلب رجال أعمال  يهمهم تنمية ثرواتهم ولو ببيع كرامتهم مادام لها ثمن محتمل.

عامة الناس لا تستفيد من السياحة ومن دخلها فالعائدات لا تدخل الميزانية العامة ومن يدعي غير ذلك مبطل كذاب. فحتى النزل السياحية مغلقة في وجوهها حماية  للسياح من العامة  المستقذرة.

وهذه وقائع يومية على الأرض يعرفها الجميع. لذلك فإن تنمية السياحة بإذلال البلد وإجباره على التطبيع سيعتبر خطوة أخرى في اتجاه القطيعة بين هذه الحكومة والطبقة السياسية التي بوأتها المناصب. 

ولحكومة القضايا الصغرى فقط نقول لقد فرض التطبيع مع الامريكان على نظام صدام حسين فبدأ سلسلة التراجعات لإنقاذ نظامه وربما لإنقاذ بلده لكن كل تنازل كان يجر قائمات من طلبات التنازل حتى انتهى النظام في حفرة... والتطبيع السياحي في تونس مطلب أول ستتبعه مطالب كثيرة لكننا نميل الآن إلى يقين أن لن ننتهي في حفرة  القضايا الصغرى فالثورة بدأنا التأسيس لحل القضايا الكبرى ولن تحلها بحكومات الاختصارات المذلة.