مقالات مختارة

بكائية على أطلال حِمصْ

1300x600
كتب فهمي هويدي: استعاد النظام السوري مدينة حمص بعدما حولها إلى جثة هامدة، إذ كان «النجاح» الوحيد الذى حققه أنه حاصرها طوال سنتين وظل يقصفها بصورة شبه يومية بكل ما يملك من قذائف وصواريخ وحمم، حتى أغرق المدينة في بحر من الدماء. وحولها إلى خرائب وأنقاض. وأحال حياة سكانها جحيما، قتلهم وجوعهم وشردهم وقطع عنهم سُبُل الحياة.

لكن الصمود الأسطوري للحماصنة احتمل كل ذلك ببسالة خرافية، حتى غدت المدينة رمزا لإصرار الثورة على تحدي نظام الأسد، ونموذجا فذا للاستعصاء والصمود، الذي دفع ثمنه الجميع بلا استثناء. الرجال والنساء والشيوخ والأطفال والمرضى والأصحاء، إذ تجمدوا في البرد القارص، وأكلوا حشائش الأرض حتى المسموم منها، وشربوا المياه الملوثة والمخلوطة بالطين.

حين قامت الثورة فى شهر مارس من عام 2011 ارتفعت راياتها بسرعة فى حمص، بعدما انطلقت شرارتها فى درعا. ومنذ ذلك الحين صارت مدينة الوليد (نسبة إلى الصحابى خالد بن الوليد الذى دفن فيها ودمر القصف قبره وضريحه) هى عاصمة الثورة وايقونتها. وهو ما أثار غضب النظام ونقمته. فحمص هى ثالث أكبر وأهم مدينة فى سوريا، بعد دمشق وحلب، ثم انها تمثل حلقة الوصل بين العاصمة دمشق وبين مناطق الساحل التى يشكل العلويون (الذين ينتمى إليهم الرئيس بشار الأسد) غالبية سكانها.

وباستعادتها فان خريطة الإقليم العَلَوى تبدو أكثر تجانسا وتماسكا، علما بأن ذلك الإقليم موصول بمنطقة البقاع اللبنانية من الجهة الشمالية، ومعروف ان البقاع تمثل المعقل الأهم لحزب الله، الحليف الأساسى لنظام الأسد.

إزاء طول الحصار واستمرار القصف الوحشى واستعصاء المدينة على السقوط، فان بوادر كارثة إنسانية لاحت فى الأفق جراء الدمار والجوع والأمراض إلى جانب تزايد أعداد المصابين والجرحى، وهو ما لم يبال به النظام الذى قصد كل ذلك، وأبدى استعدادا لإبادة السوريين وتدمير البلد عن آخره، فى سبيل القضاء على معارضيه ولضمان احتكاره للسلطة، حين أنهك النظام الذى فشل فى إسقاط المدينة، فى الوقت الذى فاض فيه الكيل بالحماصنة الصابرين والمقاتلين الصامدين، فان الباب انفتح للوساطات التى يفترض أنها تمت تحت رعاية الأمم المتحدة، فى حين تتحدث التقارير الصحفية عن دور أساسى للإيرانيين والروس فى انجازها. وهم حلفاء النظام الذين دعموه منذ قامت الثورة وحتى الآن. وكان محور الصفقة هو إطلاق الثوار لعدد من المعتقلين المحسوبين على النظام، مقابل تأمين خروج المقاتلين بأسلحتهم من المدينة وانتقالهم إلى أماكن أخرى فى أطراف المحافظة. وهو ما بدأ تنفيذه يوم الأربعاء الماضى 7/5.

لا يستطيع نظام الأسد ان يدعى انتصارا على الأرض، وان عُدَّ خروج المقاتلين من المدينة انتصارا معنويا للسلطة. وبالمثل فاننا لا نستطيع ان نقول ان الثورة فشلت كما ادعى البعض، وان كان غاية ما يقال ان المقاتلين خرجوا مرفوعى الرأس فى حمص دون ان يسلموا أنفسهم أو سلاحهم. وكل الذى حدث انهم انتقلوا من عاصمة المحافظة إلى اطرافها، وهو ما اضطر النظام إلى القبول به مع ذلك فبوسعنا ان نقول ان النظام دخل إلى حمص وقد أعلن ضمنا عن عجزه عن هزيمة المقاومين فيها. كذلك فإن المقاومين خرجوا معلنين ضمنا عن عجزهم عن الاستمرار فى الدفاع عنها. وحول هذه النقطة الأخيرة لغط كثير فى أوساط المعارضة أرجع ما جرى إلى الخلافات الحاصلة بين فصائل المقاومة، وإلى التدخلات الإقليمية التى أضعفت صف الثورة وقوت من شوكة خصومها.

لم يقصر من قال ان حمص «شهيدة الثورة» وكونها قدمت للسوريين والسوريات ما لم يقدمه غيرها فى تاريخ العرب القديم والحديث. حتى ظلت منذ قامت الثورة منارة لكرامة الوطنيين حين لم تبخل عن تقديم كل ما يتطلبه انتصار الشعب فى معركته من أجل الحرية وتكبدت من الخسائر ما لم يتكبده غيرها جراء القتال والحصار (ميشيل كيلو ــ الشرق الأوسط 10/5).

أحد الأسئلة المثارة ما يلى: لماذا استمات النظام لكى يستعيد حمص سواء بالقصف والتدمير والتجويع أو من خلال قبول الوساطة مع الثوار لأول مرة وتأمين خروجهم بأسلحتهم تحت أعين ممثلى قواته النظامية؟.. الاحتمال الأرجح انه أراد ان يستعيد المدينة المهمة لكى يضمن التواصل بين دمشق والشريط الساحلى الجبلى الذى تقطنه الأغلبية العلوية. وبذلك التواصل يتشكل ما يمكن ان يسمى إقليميا علويا تحت سيطرة نظام الأسد يمكن ان يكون سندا داعما له فى الانتخابات الرئاسية التى ىفترض اجراؤها فى الثالث من شهر يونيو المقبل. ذلك ان دوائر السلطة تشك فى ان الجزء المتبقى من القطر السورى بأغلبيته السنية ليس مضمون الولاء للأسد. من ناحية أخرى يتحدث بعض المحللين عن ان ذلك الإقليم العلوى المفترض الموصول بالبقاع اللبنانية يمكن ان يشكل قاعدة للدويلة العَلَوية التى يتصور البعض انه يمكن تأسيسها إذا ما تدهورت الأوضاع وأدى الأمر إلى تقسيم سوريا فى نهاية المطاف، وفى ذلك الوضع المستجد فان حمص مرشحة لان تكون عاصمة الدويلة الجديدة.

رغم أن حمص تحولت إلى خرائب وأطلال تتناقل وسائل الإعلام صورها هذه الأيام، إلا أن ذلك لا يقلل من مكانتها الشامخة فى الوعى والذاكرة. ذلك ان تلك الخرائب والأطلال هى التى عززت مكانتها فى التاريخ. إذ كتبت شهادة الصمود الذى تحلت به والبطولة النادرة التى سجلتها.


(الشروق المصرية)