مقالات مختارة

العمى السياسي حين يتجلى

1300x600
كتب فهمي هويدي: الذين في قلوبهم مرض من المقاومة الفلسطينية يصرون على أن يصموا آذانهم ويغمضوا أعينهم، لكي لا يسمعوا شيئا من الذي أحدثته المقاومة من أصداء سياسية ولا أن يروا شيئا مما حققته على الأرض، ولأنهم اعتادوا أن يكونوا أبواقا للسلطة وسائرين في ركابها فقد حصروا أنفسهم في المبادرة المصرية وعجزوا عن أن يروا شيئا أبعد منها ولا أن يرصدوا دورا فاعلا لغيرها. لذلك فأسهل شيء يرددونه الآن أن الصواريخ التي أطلقت من غزة بلا نتيجة، وأن المقاومة لو أنها هتفت للمبادرة وانصاعت لها لما سالت الدماء الغزيرة ولما وقع المحظور.

يمهد هؤلاء لكلامهم بالحديث عن أنها معركة حماس وحدها، والادعاء بأن رفض المبادرة المصرية مدفوع بموقف الإخوان من السلطة القائمة وصراعهم معها (البعض في مصر ذكر أن الرفض تم بتعليمات من تركيا وقطر). الأدهى والأمر أن أحد الجهابذة ذهب إلى أبعد وذكر في جريدة الأهرام أن الصواريخ التي أطلقت من غزة صوب إسرائيل هدفها الأساسي إسقاط السلطة في مصر (!!)
لا يريد هؤلاء أن يخرجوا من مربع الصراع بين السلطة والإخوان، ولا يريدون أن يروا في حماس سوى أنها امتداد للجماعة، مع أن الحدث من أوله إلى آخره لا علاقة له بهذه الخلفية، فحماس في صدارة المشهد بوصفها فصيلا مقاوما انتخبته الجماهير يوما ما بصفتها تلك وليس بصفتها الإخوانية.. ثم إن حماس لم تكن وحيدة في المعركة الراهنة ولكن حركة الجهاد الإسلامي كانت إلى جوارها في الصدارة منذ اللحظات الأولى، والعمليات التي قامت بها سرايا القدس الذراع العسكرية للجهاد لا تقل في أهميتها وبسالتها عن تلك التي قام بها المنتسبون إلى كتائب القسام الذراع العسكرية لحماس. 

وإلى جانب هؤلاء وهؤلاء كان هناك مناضلون آخرون من فتح ومن الجبهة الشعبية والديمقراطية، الشاهد أن الذي قاوم في غزة هو الشعب الفلسطيني وليس حماس وحدها، وتسليط الضوء على حماس دون غيرها خطأ مشكوك في براءته، لأن المراد به تشويه المقاومة وتحميلها بالصورة النمطية السلبية عن حماس التي تشكلت في الإدراك المصري لأسباب مفهومة.

إن الكلام عن أن الصواريخ التي أطلقت من غزة كانت بلا نتيجة هي من تجليات تشويه الوعي الذي أشاع درجة ملحوظة من العمى السياسي، حجبت عن البعض مختلف الأصداء التي حدثت في الداخل الفلسطيني وفي الساحتين العربية والدولية.. فالصواريخ التي يتحدث بعض هؤلاء عنها باستخفاف ولا يرون منها جدوى أعادت الروح إلى الشارع الفلسطيني، وأثبتت أن جذوة المقاومة لم تنطفئ، وقدرتها على مقارعة إسرائيل وتحدي جبروتها لم تندثر.. ثم إنها نقلت رسالة الرعب إلى إسرائيل حين وصلت إلى مشارف تل أبيب وشلت الحركة في مطار بن جوريون لمدة ثلاثة أيام. ودفعت بملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ، وكنت قد أشرت في هذا المكان (يوم 3/ 8) إلى ما كتبه المعلقون الإسرائيليون عن ارتدادات تلك الصواريخ في الداخل، وكيف أنها فتحت الباب لإثارة العديد من الأسئلة حول أوجه القصور في أداء الحكومة وتوقعاتها، الأمر الذي يمهد للتحقيق في الموضوع حين تجيء لحظة الحقيقة.. وهذا الذي رآه المعلقون في معاريف وهاآرتس ويديعوت أحرونوت والقناة الثانية الإسرائيلية، عجز عن رؤيته الذين أعربوا عن أسفهم وشماتتهم لأن المقاومة أطلقت صواريخها دون أثر أو جدوى.

كما أنهم عجزوا عن رؤية ما أحدثته الصواريخ في إسرائيل، فإنهم أغمضوا أعينهم عن فشل المخابرات الإسرائيلية في إدراك مدى قوة المقاومة وتطور تسليحها في غزة، وفشلها في اكتشاف الأنفاق المدهشة التي حفرها الفلسطينيون على عمق تجاوز 20 مترا تحت الأرض للوصول إلى الداخل الإسرائيلي، وهو الاكتشاف الذي أحدث رعبا في أوساط المستوطنين الذين هجر بعضهم مستوطناتهم خشية تعرضهم للهجوم من جانب المقاومة من خلال الأنفاق بعدما تخوفوا من أن تلاحقهم من حيث لا يحتسبون.

لم يسمعوا بحملة المقاطعة لإسرائيل التي أعلنتها جهات عدة في أنحاء العالم، ولا قرأوا أخبار دول أمريكا اللاتينية التي سحبت سفراءها من إسرائيل أو تلك التي اعتبرتها دولة راعية للإرهاب، بل إنهم لم يسمعوا بأخبار التوافق الفلسطيني الذي حدث حول كيفية تجاوز الأزمة، كما لم يسمعوا بالمتغيرات الاستراتيجية التي شهدتها تحالفات المنطقة وفي ظلها تكشفت أمور جرى سترها طويلا، الأمر الذي شجع إسرائيل على الحديث عن «شرعية عربية» توفرت لها لأول مرة في تاريخها وساندتها فيما ذهب إليه.

حين يقال بعد كل ذلك أن صواريخ المقاومة بلا نتيجة، فإننا نصبح بإزاء جرأة على التغليط والتدليس تلبست أولئك الذين استسلموا للعمى السياسي، فانفضح أمرهم بأكثر مما أصابوا هدفهم في الاستخفاف بالمقاومة والتهوين من شأن جهودها. يكفى أن نجد أن بعض كتابات المعلقين الإسرائيليين كانت أكثر موضوعية ونزاهة من كتاباتهم.

< اعتذار: أخطأت خلال اليومين الماضيين حين ذكرت أن الأستاذ راجي الصوراني مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في الضفة، والصحيح أن المركز في غزة وليس في الضفة، كما قلت إن خبير الشؤون الفلسطينية ومندوب جريدة السفير في القطاع هو الأستاذ حلمي سالم، والصحيح أنه حلمي موسى.. لذا لزم التنويه.

(بوابة الشروق المصرية)