كتاب عربي 21

ليبيا: حرق المراحل في الصراع السياسي

1300x600
كان من الطبيعي أن تصل ليبيا إلى هذا الوضع غير المسبوق، وهو: وجود برلمانين وحكومتين ورئاستي أركان للجيش بعد الخيارات الخطيرة التي فرضتها النخبة السياسية على الليبيين. مع أن الليبيين تطلعوا إلى غد أفضل بعد عقود الجور، لم يكونوا ليتوقعوا أن تضع النخب التي نالت ثقتهم البلاد على حافة الحرب الأهلية والتقسيم.

ومن الواضح أن الاستقطاب تمكن من الكتلتين المتصارعتين بحيث وصل إلى مداه في اعتقاد خيانة الآخر دون تردد.

وتعود أسباب الأزمة الخطيرة اليوم إلى عامين من الصراع قطعا، وكان بالإمكان تلافيها بقليل من الرشد والصبر.

 وإصرار النخبة المنتخبة في البرلمان الجديد على أن تتجاوز ما رسمه الإعلان الدستوري من مسار لانتقال السلطة، هو ما ألهب الموقف، واتجاهها إلى المراهنة على طرف سياسي"حفتر وقواته" في الحرب المستعرة منذ نحو أربعة أشهر، هو الذي قاد إلى ارتفاع الخلافات إلى درجة عالية من التصعيد.

 وبسبب هذا التصعيد صار ممكنا أن توصف قوات درع ليبيا، الخاضعة لرئاسة الأركان، بأنها: "مجموعات إرهابية"، وبأن توجه قوات حفتر التي وصفتها حكومة زيدان ومن بعده عبد الله بالمتمردين على مؤسسة الجيش، توجهها للقضاء على "المجموعات الإرهابية"، وليصبح البرلمان المنتخب في نظر قطاع واسع من الثوار العسكريين والمدنيين برلمانا انقلابيا داعما للثورة المضادة.

هذه هي خطورة الموقف الآن والتي تتمثل في قفز سريع إلى قمة السلم في الصراع، وحرق المسافات التي يمكن استغلالها لطي النزاع أو جسر الهوة.

ويسود اعتقاد عند أنصار البرلمان، وأنصار عملية الكرامة، بأن الإسلام السياسي خسر معركة الانتخابات، فلجأ إلى القوة؛ للحفاظ على مكاسبه وفرض إرادته، في مقابل اقتناع الطرف الآخر بأن مواقف البرلمان في دعم الثورة المضادة لا تسمح بغير "تكفيره سياسيا" وبالتالي إلغاؤه من ساحة الانتقال السياسي.
  
ومعضلة هذا الخيار أنه يكرس مصادرة إرادة الشعب ويدفع بالخيار الديمقراطي إلى الهاوية، ويلغي إمكان النزول عنده واعتباره المسار الصحيح لبناء الدولة.

وهذا منحى خطير ونتائجه كارثية لأنه ببساطة سيطيل مرحلة الثورة بانعطافاتها الخطيرة التي يختصرها التحول الديمقراطي ليلج إلى مرحلة البناء بأقل الخسائر.

وتورطت النخبة البارزة في البرلمان، والنخبة التي تعارض عملية فجر ليبيا من خارجه، تورطت في تكريس فكرة التعالي على مخرجات آليات الديمقراطية. فقد كرس العديد من هذه النخب ثقافة الاستهانة بالمؤسسات الشرعية المنتخبة زمن المؤتمر الوطني العام، واعتبروا قرارات المؤتمر الوطني لا قيمة لها وفي مقدمتها قرار التمديد  -الذي جاء عبر أغلبية دستورية- استنادا على شرعية الشارع الذي خرج قطاع منه رافضا التمديد، وصرح بعضهم بأن لا شرعية لأي مؤسسة زمن الثورات، وأن الشرعية الحقيقة للرأي العام.

وهذا الاتجاه الخطير في تبرير مواقفهم زمن معارضتهم للمؤتمر الوطني تم توظيفه من قبل معارضي البرلمان بالحيثيات نفسها والمبررات ذاتها، فالبرلمان لم يُقابل فقط بمظاهرات في كثير من مدن ترفض قراراته، بل تورط في مخالفة صريحة للإعلان الدستوري، وبالتالي يواجه البرلمان اليوم من قبل خصومه تماما بنفس السلاح الذي استخدمه أبرز رموزه ضد المؤتمر الوطني العام خلال الأشهر التي سبقت انتخابات الأول.

إذن نحن أمام نخبة سياسية متعنتة، وصراع بلغ درجات عالية من التصعيد تمظهر في تخوين كل طرف للآخر، وتخندقه خلف مبررات وجوده، وتشبثه بمؤسسات مدنية وعسكرية لفرض توجهاته، فهناك برلمان طبرق والحكومة التابعة له برئاسة عبد الله الثاني، وهناك رئيس أركان مناصر لعملية الكرامة.

 ويبحث البرلمان استكمال تشكيل المؤسسات السيادية وفي مقدمتها المصرف المركزي والمحكمة العليا، في مقابل برلمان انعقد في طرابلس وعين رئيس حكومة، ويتبعه رئيس أركان ولا يحتاج أن يؤسس لبقية المؤسسات السيادية فهي موجدة بمقارها وكوادرها.

ويدرك الطرفان أن المال هو القوة الحقيقية، وليس من المستبعد -في حال الفشل في الوصول إلى توافق- مراهنة الطرفين على وضع اليد على مصدر الثروة الأساسي وهو النفط. ويشكل هذا الخيار معضلة للطرفين، فبالنسبة للبرلمان وعملية الكرامة لا يمكنهما ذلك برغم قرب منابع النفط ومواقع تصديره؛ لأن بنغازي التي يتحكم فيها مجلس شورى ثوار بنغازي، تقطع الطريق عليهم.

أما المؤتمر وقوات فجر ليبيا فيشكل العامل الجغرافي والجهوي عقبة رئيسية أمام تمكنهما من فرض إرادتهما على النفط، وباعتبار أنه خيار حيوي فقد يدفع هذا إلى مجابهات أوسع.

وفيما يتعلق بالخروج من المستوى المتقدم من التأزيم، أعتقد بأن الحل في المدى القصير لن يكون محليا، فمن الواضح أن الأوراق المحلية لنزع فتيل الأزمة باتت محروقة، لذا فإن الخيار الذي يمكن أن يعول عليه في فرض حل يوقف المجابهات ويمنع سيناريو التقسيم، هو نزول المجتمع الدولي وأطراف دولية فاعلة إلى الحلبة وممارسة ضغوط لإنهاء التأزم، ويكون في مقدمة بدائل الحلحلة إعادة إطلاق المرحلة الانتقالية الثالثة بشكل صحيح دستوريا، والتوافق على آليات بناء الجيش بما يسمح بتأسيسه بشكل مهني، ويقطع الطريق على توظيفه لأهداف سياسية، والاتفاق على آليات دمج الثوار بشكل لا يلغي دورهم ومشاركتهم.