كتاب عربي 21

كآبة ما بعد الحرب!

1300x600
حدثني "عابرٌ" فقال:

في العام 2002 في قسم (6) في سجن مجدو؛ جاءني أحد رفقاء السجن بشريط قد وجده في مكتبة القسم، فيه تسجيل خارجي للشيخ محمد صديق المنشاوي، رحمه الله، يتلو فيه سورتي "ق" و"الرحمن"، ولست أدري بعد ذلك، لماذا في هذا المكان بالذات وفي هذا الوقت بالذات، اكتشفت صوت الشيخ شلالاً يهبط علي من أعلى، يغسلني من كل كدر، وينفذ إلى أعماقي حتى أحسّ كل ما في صدري يَسْبَحُ في بَرْدِه، فأخرج من زمن إلى آخر، وأَنخلِعُ مما كنت فيه، معافى قليل البلاء، حتى إذا كنت قد فقدت دوائي وهبني الله هذا الدواء الجديد.

وكنت قبل ذلك أستشفي بالعزم الذي لا يفارق عيون رجال، وباليقين الذي جُبِلَتْ منه كلماتهم وتعطرت به أصواتهم، حتى إذا بَسَطَتْ علينا بأس ظلمتها ليلاً ونهارًا انشقت بنورهم، وانفتحت في قلبي طريق لاحب يشرقون عليها فتضيء بهم، فلما أن صدقوا ما عاهدوا الله عليه وصعدوا بنوروهم، تركوا لي بقية من نور، وأما نظرات العزم في عيونهم ودفق اليقين في أصواتهم فاستحالت صورًا في الذاكرة، تصارعها الأيام، تنهش في ملامحها، وتلقي أثقالها على خيط النور الذي تبقى وامتد من لحظاتهم في قلبي يئن تحت وطأة أثقال الظلمات.. وإذا بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي، يأتيني فجأة، يدفع أثقال الظلمات عن خيط النور فيعود سَرْبًا واسعًا، ويشعل الحياة في الصور التي انطفأت ملامحها.

وفي العام نفسه، وفي المكان نفسه، اجتاحني سؤال الجدوى، ولأني لا أنفك أتفكر في أيامي، فإنني كلما مر يوم تبدت لي أسباب ملأتني بهذا السؤال، وقد كنت أحسب يومها أني عرفت الأسباب كلها، فقد جرب الشاب الصغير في سجنه مرة واحدة كل التكاليف التي يتصدر لها الكبار، حتى ملّها واستفقد قيمتها، فلما لم يجد قيمة تملأ نفسه؛ هرب منها إلى سجن النقب، مستنكفًا عن كل عمل، مختليًا بنفسه يحفظ القرآن، ويسمع الشيخ محمد صديق المنشاوي.

ولكنه بعد سنوات، تذكر أنها الأيام التي كان يرحل فيها الرجال كل يوم، وهو في سجنه يخطب ويدرس ويدير، حتى إذا خرج استمر رحيل الرجال، وبقي هو، ولكنه ترك مسافة بينه وبين صوت الشيخ، حتى لا يفقد الدهشةَ بالاعتياد، متكئًا على رحمة خالقه أن يسمعه الصوت فجأة في الوقت الذي يحتاجه، وكثيرًا ما كان، حتى نفذ مرات من جدار زنزانة "الأخوة" فكانت تتسع ويسيح فيها قلبه ثم يأوي قنديلاً إلى جسده المتعب!

وعاد "عابرٌ" يقول:
ولأني كثيرًا ما أتفكر في أيامي؛ فقد ظهر لي أنني بعد كل انشغال مكثف تغزوني الكآبة وأصارعها، وأحتال عليها وأغالبها، فيطول مقامها ويقصر، ولما وجدت نفسي منعزلاً بعد الحرب، غارقًا في شتاتي، ظننت أنها كآبة ما بعد الانشغال المكثف، حينما حسبت أن للمقاوم حقًا على قلمي الكليل، فكتبت وتحدثت أتشرف به، وأسرفت في الحديث، ولكني وكأني تنبهت فجأة إلى حبل أيامي المتصل، وتلك القطعة منه التي امتدت على سجن مجدو والنقب في ذلك العام العجيب، وسألت نفسي عن الوخز الذي كنت أشعره كلما كتبت وقلت أيام الحرب، وأسرفت، وردني هذا الوعي إلى ما قبل اثنتي عشرة سنة، حينما سألت سؤال الجدوى أول مرة، وكأن هذه السنوات قطعة واحدة، وإذا بوخز اليوم سؤال الأمس.

سكت "عابر" فجأة.. نظرت إليه، وإذا برجل مكسو بالشرود، يطير على جناح من "النهوند" تتسع به الغرفة، وصوت المنشاوي يتلو قوله تعالى: "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون".