مقالات مختارة

من بركة خان إلى ملالا يوسف، مرورا بتوكل كرمان: تألق المؤمنات

1300x600
كتب عبدالوهاب الأفندي: يوم الجمعة الماضية أصغر الحاصلين على جائزة نوبل للسلام. معظمكم بالطبع يعرف كذلك توكل كرمان، أول امرأة عربية تمنح جائزة نوبل (للسلام أيضاً). ولكني أكاد أجزم أن أي منكم لم يسمع قبل اليوم اسم بركة خان.

أنا أيضاً لم أسمع بهذه الشابة البريطانية ذات الاثنين وعشرين ربيعاً إلا بعد أن حدثنا عنها خطيب الجمعة في مسجد مدينة كامبريدج قبيل إعلان حصول ملالا على جائزة نوبل. أبلغ الأطباء في أيلول/سبتمبر من العام الماضي هذه الفتاة التي تخرجت حديثاً من جامعة كامبريدج بأنها تعاني من سرطان الرئة المستفحل، فكانت أول فكرة خطرت لها بعد أن أفاقت من الصدمة هي ما ستخلفه من ذكرى في هذا العالم الفاني وما ستدخره لأخراها من أجر، بعد أن أيقنت بدنو الأجل. تلقفت مقترحاً من والدها بأن تعمل على جمع التبرعات لجمعيات خيرية، وخلال فترة قصيرة، جمعت ما يقارب ربع مليون جنيه إسترليني لثلاثة أعمال خيرية، أحدها مركز لعلاج السرطان. وكان ثالث الأعمال التي اجتهدت فيها – وهو ما جعل نبأها يبلغنا- هو مسجد مدينة كامبريدج الجديد، وهو مسجد مست الحاجة إليه بعد أن ضاق المسجدان الصغيران بالمصلين، ويواجهان مشاكل عدة بسبب وقوعهما في قلب منطقة سكنية. 

وبحكم وجودها في المدينة ومداومتها على حضور المسجد، كانت الشابة بركة على علم بهذه المشكلة، ولهذا جعلت جمع التبرعات للمسجد أولوية. وخلال بضعة أسابيع، بلغ ما جمعته بركة من تبرعات للمسجد أكثر من خمسين ألف جنيه إسترليني، وهو مبلغ لا يستهان به، جاء إلى لجنة المسجد من حيث لا تحتسب. وقد حددت بركة مبلغ مائة ألف جنيه كهدف تريد أن تبلغه في إطار هذه الحملة. ما يجمع بين ملالا وبركة وتوكل هو هذه العزيمة الإيمانية التي تبهر، وهذه الشجاعة في تحدي الصعاب، مع تميز كل من هؤلاء النسوة بمزايا تخصها. فعندما يتأمل المرء موقف بركة خان، وهي شابة في مقتبل العمر، يتطلع من هو في وضعها لمستقبل حافل بما يسعد ويحقق الطموح، إلا أنها تصارع الآلام المبرحة، ومصاعب العلاج الكيمائي الذي يزيد المعاناة. ولكنها لم تجزع وتندب حظها، بل تعاملت بإيجابية مع محنتها، ونجحت بسرعة في تحويلها إلى نعمة بالنسبة لكثيرين، فضربت المثل في البذل حتى وهي تتوقع الجود بنفسها. ولا يسع المرء وهو يتأمل هذه الظاهرة، إلا أن يقف إجلالاً لهذه الشجاعة المعطاءة والبذل الشجاع، نسأل الله أن يكتب لها شفاءً بقدرته، وأن يعظم أجرها لما قدمت وبذلت وضربت من مثل.

أما ملالا يوسف زاي فإن من منحها الجائزة بحق كان مسلحو حركة طالبان الباكستانية عندما أوقفوا الباص الذي كان يحملها وزميلاتها في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2012، ثم سألوا عنها بالاسم، وقاموا بإنزالها من الباص وإطلاق النار على رأسها. كانت الطفلة عندها في الخامسة عشرة من عمرها، ولم يكن ذنبها عند هذا الجيش المغوار من «المجاهدين» إلا أنها فضحت ما ارتكبوا من كبائر في حق المدنيين، وتحديداً النساء والفتيات، في وادي سوات الذي هيمنوا عليه بين عامي 2007 و2010 قبل أن يخرجهم الجيش الباكستاني من المنطقة أذلة وهم صاغرون. 

كانت ملالا في الحادية عشرة عندما بدأت في عام 2009 نشر مدونة على موقع البي بي سي باسم مستعار تصف فيها تجربتها تحت حكم الطالبان. وفي العام التالي، نشرت النيويورك تايمز فيلماً وثائقياً عنها وبدأت أجهزة الإعلام الدولية تجري مقابلات معها. وقد أصبحت ملالا، وهي ابنة ناظر مدرسة في المنطقة، الصوت الأبرز للمدافعين عن حق الفتيات في التعليم، مما أثار حقد الطالبان عليها ودفعهم للبحث عنها ومحاولة قتلها، ولكن الله نجاها لحكمة يعلمها، حيث نقلت إلى بريطانيا للعلاج، وشفيت إلى حد كبير من إصابتها واستأنفت الدراسة في مدينة بيرمنغهام البريطانية، حيث تقيم الآن. وقد دعيت في عيد ميلادها السادس عشر لإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحصلت على عدة جوائز، أبرزها جائزة من البرلمان الأوروبي، قبل أن تمنح جائزة نوبل هذا العام.

أما توكل عبدالسلام كرمان، المناضلة والصحافية اليمنية، فقد أصبحت الوجه الأبرز والرمز الأرفع لشباب الثورات العربية، حيث وحدت الشارع اليمني حولها بمنطقها الهادئ الرصين، وبصمودها وثباتها في ساحات الاعتصام، وإصرارها على المنهج السلمي في وجه استفزازات النظام اليمني وزبانيته. وقد أبدت توكل نفس الشجاعة في وجه برابرة صعدة الجدد، حين تحدثت بشجاعة ضد هجمتهم على صنعاء وابتزازهم الدموي لبقية اليمنيين، مذكرة بأن الشعب اليمني الذي صمد لأعوام في وجه نظام دموي فاجر لا يمكن أن ترهبه ميليشيا طائفية قادمة من عصور الظلام وذاهبة إليها. وقد أثبت كرمان بموقفها الشجاع والصارم ضد الميليشيات، حين صمت الآخرون، لماذا وكيف استحقت الاعتراف الدولي بتميزها وتفردها ومقدرتها القيادية. وقد كافأها برابرة صعدة، كما فعل أشياعهم الطالبان، بالهجوم على منزلها واحتلاله قبل أن يخرجوا منهم كما أخرج الطالبان من سوات بعد موجة استنكار عارمة. ورفضت توكل اعتذار المتحدث باسم طالبان اليمن عن الاجتياح قائلة إنها ستقبل الاعتذار «بشرط أن تعتذر أيضاً لكل الذين قتلتهم جماعتك، وهجرتهم، وهدمت منازلهم ومراكزهم ومساجدهم، والأهم من ذلك أن تتوبوا عن ارتكاب مثل هذه الخطايا بحق أبناء شعبنا مستقبلاً».

لا نستطيع بالطبع تجاوز أن معايير منح جائزة نوبل هي في نهاية المطاف معايير غربية، ولكن هذا لا يبرر تسويغ نظريات المؤامرة. صحيح أن هناك أجندة سياسية-أخلاقية غربية ذات طابع ليبرالي تحكم مؤسسة نوبل والمؤسسات المشابهة. ولكن الحصول على جائزة نوبل وغيرها من الجوائز لا تتأتى إلا لمن ملك التأثير في محيطه. فلا يمكن مثلاً منح جائزة نوبل للآداب لأديب عربي لا يقرأه العرب قبل غيرهم. فالحصول على نوبل هو تعبر عن مقدرتنا على إقناع الآخرين بوجود قامات بيننا تستحق الاعتراف الدولي، وهذا إنجاز حضاري بامتياز. 

والمشترك بين توكل وملالا في هذا المجال هو تمسك كلتيهما بقيم الإسلام وعدم المساومة عليهما. فملالا تركز في اعتراضاتها على طالبان على استلهام قيم الإسلام الصحيح الذي يجعل العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وقد أكدت مراراً أنها لا تحقد على طالبان، بل وطالبت بالتفاوض معهم. ومعروف عن توكل انتماؤها الإسلامي الذي لم تساوم عليه. فنحن هنا أمام نساء مؤمنات تألقن وفرضن على العالم احترامهن عبر احترام هويتهن الدينية التي يرمز لها بوضوح الزي الإسلامي والخطاب الإسلامي.

ولكني أود أن أختم بالعودة إلى بركة التي لا تطلب أي جائزة دنيوية، وإنما ضربت المثل باتباع الحديث الذي يدعو إلى غرس فسيلة النخل حتى لو قامت الساعة. فقد اختارت لنفسها صدقة جارية، فجعلها الله باباً للخير. وأدعو كل من يقرأ هذه المقالة إلى دخول صفحتها على موقع (Just Give)، والمساهمة بما استطاع حتى يشاركها هذه الصدقة الجارية، وقبل ذلك وبعده، أن يدعو لها ولكل مريض بشفاء تام وعاجل.


(القدس العربي)