الظلم عنف، وهو يبرر كل عنف مضاد له. وما تفعله
إسرائيل في القدس منذ سبع وأربعين سنة، وخمسة أشهر وسبعة عشر يوماً، عنف يبرر كل عنف مضاد له، وما عنف إسرائيل إن قارنته بعنف ضحايها إلا كالليل تقارنه بمشاعل السارين فيه.
غزت إسرائيل المدينة وحكمتها على غير إرادة سكانها، ثم ضمتها قانوناً إليها، ورفضت مع ذلك أن تعطي سكان المدينة
العرب المسلمين والمسيحيين حقوقاً كالتي أعطتها لليهود الآتين من بروكلين، الذين تسميهم مواطنين، ثم امتنعت عن منح العرب تراخيص لبناء البيوت، ومنحتها لليهود، فإن بنى العربي بيتاً أو وسعه أو زاد عليه طابقاً دون ترخيص، هدمته، وصادرت أراضي العرب وأعلنتها محميات طبيعية، ثم منحت المحميات الطبيعية للدخلاء يبنون فيها المستوطنات، ثم سمحت لأحد هؤلاء بالدخول إلى المسجد الأقصى عام تسعة وستين فأشعل فيه النار، واحترق منبرالملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، الذي كان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وضعه في المسجد، بعد استرداده من الفرنج قبل سبعمائة وإحدى وثمانين سنة، ثم ارتكبت إسرائيل في المسجد الأقصى مجزرة تلو الأخرى، ثم لم تكف عن إدخال المستوطنين إليه، والحفر تحته ومنع العرب من الصلاة فيه...
لو كان لأهل القدس سلاح طيران أو سلاح بحرية أو سلاح مدرعات، لاعترف لهم العالم بحق الرد على هذا الظلم الواقع عليهم، ولكن، لأنهم لا يملكون إلا أيديهم العارية، فهم مدانون بالإرهاب.
بل إن لأهل القدس أكثر من سلاح طيران، وأكثر من سلاح بحرية، وأكثر من سلاح مدرعات؛ لأن أهل القدس، كما هو مفترض، ليسوا سكانها فحسب، بل إن العرب وكثيراً من المسلمين من غير العرب، يزعمون أنهم أهلها، والمنطقة المحيطة بالقدس من أكثر مناطق العالم إنفاقاً على التسيلح، ولكن هؤلاء الأهل القريبين البعيدين مشغولون عنها، وليتهم انشغلوا عنها بما يفيدهم، بل هم مشغولون عنها بقتل أنفسهم.
لقد ترتب الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط وفي دول الطوق تحديداً، بحيث أصبح كل راغب في مواجهة إسرائيل أو قادر عليها مشتبكاً في حروب جانبية، فمن أراد قتال تل أبيب، أياً كان، اضطر إلى أن يخوض حرباً على جبهتين أو أكثر.
أما في الشمال والشرق، فالسنة والشيعة في العراق وسوريا ولبنان منشغلون بحرب أهلية انتحارية لن ينتصر فيها أحد، وإن انتصر فيها أحد فإن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ستحاربانه وهو مرهق ثم تهزمانه، وما قصة حرب العراق وإيران عنا ببعيد. يطيل الأمريكيون الحرب بين الغريمين، ثم ينقضون على المنتصر المرهق ويجهزون عليه. إن واشنطن وتل أبيب لن تسمحا بإيران أخرى على سواحل المتوسط ولا بأفغانستان أخرى على منابع النفط.
وأنت إن طالبت الإسلاميين السنة أو الإسلاميين الشيعة بنصرة القدس التي تعني لهم الكثير، اعتذروا إليك بأن جماهيرهم يرون الخطر الوجودي آتياً من جهة إخوانهم في المذهب الآخر لا من جهة إسرائيل، ثم يزعم لك الطرفان أنهم ما إن يفرغوا من قتال إخوانهم، ولا أدرى كيف يفرغون من صراع مذهبي استمر أربعة عشر قرناً، فإنهم سيقاتلون من أجل القدس.
وينسى الطرفان أن هذه الحرب التي يخوضانها حرب متطوعين، وأن أتفه اللاعبين فيها وأضعفهم هي الجيوش النظامية، وأن المتطوعين يأتون اقتناعاً لا جبراً، وأنه لا شيء يقنع شباب هذه الأمة بصواب خيارهم السياسي كمواجهة إسرائيل، ولا شيء يقنعهم بخطأ خيارهم السياسي كأن يجدوا أنفسهم يقاتلون في صف إسرائيل. فإن احتججت عليهم بهذا، أخبروك، بأن لبنان شهد حرباً أهلية وقف فيها بعض ميليشياته مع إسرائيل، ولكن من يقل ذلك يغفل عن الإسلاميين السنة والشيعة، بأنهم يختلفون، ولو بعض الشيء، في خطابهم وفي عواطف جمهورهم، عن أمثال بيير جميل وبشير جميل وأنطوان لحد.
وأما في الجنوب والغرب، فالحكومة
المصرية ترى أن التهديد لأمنها القومي يأتي من أهل سيناء المصريين، ومن أهل غزة الفلسطينيين لا من إسرائيل، وهي في حلف عسكري وسياسي وأمني معلن غير خفي مع إسرائيل ضد مواطنيها وضد الفلسطينيين.
إن تعريف القاهرة للأمن القومي عاد كما كان في عهد حسني مبارك، فالأمن أمن النظام، لا أمن البلد. إن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل تمنع الجيش المصري من التمركز بكثافة في شرق سيناء، وكان الطبيعي والحال هذه، أن يكون أمر الدفاع عنها موكلاً لأهلها، فتعمل الدولة على أن يكون أهل سيناء كثيرين وقادرين على الدفاع عن أنفسهم ضد أي توسع إسرائيلي محتمل، خاصة وقد علمنا كيف تفشل الجيوش النظامية الغازية في التعامل مع الكثافات السكانية والأراضي الوعرة.
وكان الطبيعي أيضاً أن ترى القاهرة في السلاح الفلسطيني في غزة ميزة لها ودفاعاً عنها، فغزة تشكل الكثافة السكانية الأكبر بين الإسرائيليين وسيناء، كما أن التجارة بين أهل سيناء وأهل غزة تؤمن رواجاً اقتصادياً، يسمح بتنمية الصحراء وزيادة كثافة السكان فيها. إلا أن الحكومة المصرية فعلت عكس هذا كله، فعملت قصارى جهدها أن تنزع السلاح الفلسطيني، الذي هو حماية لمصر، واعتبرته تهديداً لها، ودمرت التجارة بين غزة وسيناء فوق الأرض وتحت الأرض، ثم قامت بإخلاء المنطقة الحدودية من سيناء واعتبار أي جهة تملك فيها وسائل دفاع عن النفس خطراً على القاهرة، لا على تل أبيب.
لكل ما سبق، ولانشغال العراق والشام ومصر بالانتحار، فمن غير المستغرب أن تقوم الحكومة الإسرائيلية بكل ما من شأنه التوسع في القدس، سواء التوسع في الاستيطان ومصادرة الأراضي، أو التعدي على المسجد الأقصى. وإنني أدعو كل عربي مشغول بقتل أخيه، أن يفكر في هذا السؤال، إن قامت الحكومة الإسرائيلي بهدم المسجد الأقصى غداً، من سيجابهها؟
السنة الأقوياء في العراق والشيعة الأقوياء في لبنان يقاتل أحدهما الآخر، والحكومة السورية لا ترد ولو قصفت إسرائيل دمشق، والحكومة المصرية في حلف استراتيجي مع إسرائيل، حتى إن البيوت في رفح المصرية حين تقصفها الطائرات لا يُعرف إن كان القصف جاء من الشرق أم من الغرب.
الفلسطينيون في مقاومتهم لعدو الأمة كلها، وحدهم للمرة الألف. وللمرة الألف، هم، وحدهم، على صواب.