كتاب عربي 21

"كلنا ثورة يناير".. "ثورة تعود"

1300x600
كان مشهد القاضي في إعادة محاكمة المخلوع حينما أعلن البراءة للجميع (من أمر بالقتل أو قَتل) أكبر محنة تواجهها الثورة، وخرجت بعض ردود الأفعال تعبر عن مزيد من القنوط والإحباط، غضب امتزج ببعض من تلاشى بصيص الأمل في ثورة يناير التي حركت الأمور إلى الأمل في تغيير قادم، ولكن آثر ذلك اليوم إلا أن يختم بمشهد ثان شباب الثورة ـ والذين ارتبطت أحلامهم وأشواقهم بهذه الثورة ـ ذهبوا وتجمعوا في ميدان الشهيد عبد المنعم رياض ليعيدوا بعضا من روح الثورة في الخامس والعشرين من يناير، بدأ هذا التجمع العفوي من كل صوب وحدب وتنادى الشباب "لبيك ثورة يناير" بعد أن شهدوا المحاكمة "المأساة ـ الملهاة" التي بدا أنها قد أسدلت ستارا كثيفا بأحكام براءة لا مثيل لها حتى أن القاضي قد قارب الحديث بشكل مباشر أن ثورة يناير صفحة قد طويت ولكن ها هي بشائر "الثورة تعود".  

وبدا للجميع من الشباب الذين توافدوا على التحرير من ناحية ميدان الشهيد عبدالمنعم رياض؛ ليؤكدوا على رمزية هذا الشهيد، الذي مات في ميدان المعركة بيد العدو الصهيوني الغادر، والذي أسهم بكل قوة في بناء جيش جديد لمصر بعد نكسة الخامس من يونيو في العام 1967م، والذي قدم حياته فداء لهذا الوطن وهو بين جنوده يشد من أزرهم ويعد العدة لمعركة جديدة لاستشراف نصر جديد، قُضى عبد المنعم رياض مستهدفا من الكيان الصهيوني الغاصب في الميدان وبين جنوده، هذا الرجل كان يعرف ميدانه ويعرف دوره ويؤكد على حقيقة أن معركته مع عدو غادر صهيوني، حدد العدو وكانت خطته أن يعد العدة لمحو عار نكسة 67، هذا الرجل بتمثاله وهو يشير إلى ميدان التحرير إنما يعبر عن شرف العسكرية المصرية حينما يقف في الميدان ويعرف ميدانه الحقيقي.

تجمع هؤلاء وتوافدوا من ناحية الميدان في رحاب عبد المنعم رياض ليؤكدوا أن نظاما باع الغاز للكيان الصهيوني بأبخس الأثمان، وأسمى الكيان الصهيوني المخلوع بأنه الكنز الاستراتيجي؛ حيث كان المخلوع وصحبه من الفاسدين "ومنهم حسين سالم" في تحالف مقيت بين الفساد والقمع والاستبداد فتعاملوا مع عدو على هذا النحو الذي تبدد فيه الموارد بتقديمها للعدو الصهيوني هدايا وهبات، هذان الرجلان فضلا عن جنود فرعون لم يكونوا إلا صنوفا ثلاثة كانوا جميعا محلا للمحاكمة، وأتى القاضي ليؤكد أن فرعون ليس مسؤولا أنه جعل أهل مصر شيعا، وأنه علا في الأرض وتكبر، وأنه استخف قومه وتصدر، وهو رغم جهله إلا أنه ادعى أنه يهديهم سبيل الرشاد، وها هي شبكات الفساد - في عهده - تنعم بفسادها وتؤشر من كل طريق على أن هؤلاء اتخذوا من مصر "وسيلة" أو "عزبة" يمتلكون مواردها ويتصرفون فيها كيفما شاءوا أو أرادوا، أما من خرج واحتج على مؤسسات الاستبداد أو شبكات الفساد خرجت الجنود تقتل وتنكل به وتسرف في القتل لكل من قال لا، ومع ذلك أطل القاضي علينا ببراءة شاملة وإخلاء ساحة لكل هؤلاء ولم يرد أن يجيب عن السؤال إن كان هؤلاء قد بُرئوا، فمن قتل ومن سرق؟!.   

في ظل هذه الأجواء عادت الاحتجاجات في المساء، عاد هؤلاء الذين يقولون "لا"، رغم أنهم يعرفون أن منظومة مبارك لم تعد فقط إلى مقاعدها ولكنها في حقيقة أمرها ازدادت قمعا وفاشية، وأسرفت في القتل وأمعنت وولغت في الدماء وكممت الأفواه واعتقلت الأبدان وأزهقت النفوس، أرادت بذلك تخويفا وترويعا .. وأن تفرض طاعة وإخضاعا، إلا أن صوتا خرج في الميدان وعلى مقربة من عبد المنعم رياض الذي عرف مهنية جيشه ومؤسسته، ويعرف أن السياسة ليست لهذا الجيش ولكنه يقوم على حماية الحدود والوجود من عدو غادر غاصب يتربص بمصر الدوائر، ويحاول أن ينال من أمنها ومن دورها التاريخي والجغرافي كما أكده حمدان حينما يؤكد أن مصر ليست بموضع، مصر موقع بما يعني أن موقع مصر يكمن في عطائها ومكانها ومكانتها.
 
وفي أرجاء المكان شاعت روح ثورة يناير وكأننا في يوم من أيامها، أتى الجميع يهتفون مرة أخرى "الشعب يريد إسقاط النظام" ويردفون ذلك بهتاف "يسقط يسقط .. حكم العسكر"، فعبدالمنعم رياض الذي يقف متظاهرا ومحتجا يقول أنني أعرف الميدان الحقيقي للدفاع عن الوطن ضد محتل غاصب، أما أي معركة أخرى فهي معركة مفتعلة ومصطنعة حتى لو أسماها من انقلب بـ "إرهاب محتمل"، أطلت ثورة يناير في الميدان تنادي على أبنائها "هلا عدتم فأعود إليكم.. لقد اشتقت إليكم وإلى هتافاتكم وشعاراتكم: عيش كريم وحرية أساسية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية.. إن هذا يوم من أيامي استرجعتموه و تنادي عليهم جميعا "كلنا ثورة يناير".

  ها هي الثورة تعود لا تفرق بين أحد تتعرف على أبنائها الذين أخلصوا إليها وتعرف أن الشباب طاقتها الحقيقية وشرارتها الفاعلة وهي هنا حملت إلى الشباب الذين قاوموا الظلم والانقلاب واحتجوا لمدة ما يقارب العام والنصف بعد قيام انقلاب عسكري غاشم تدثر مدعيا بتأييد شعبي يناوئ به ويكذب، يطلب به تفويضا ويحشد، وعلى قاعدة منه يعتقل ويقتل، تقول الثورة وهي تفتح أحضانها التي تسع الجميع "إنني أنحني لكل أمل أو عمل في سبيل حمايتي والحفاظ علي في سبيل أن لا يقر قرار أو يستقر الحال لانقلاب غاصب أو طغيان غالب أو الخضوع لرضى مصطنع كاذب"، ونادت الثورة على من توافدوا إليها تحتضنهم وتفتح الأذرع لكل أبنائها تبث شجونها لهم؛ قد تحمل العتاب وتؤكد لهم "لا تتخلوا عني .. أنا وأنتم نحمل كل شعار وهدف وندفع لكل سعي وعمل ونصوغ مسار التغيير لتحقيق مستقبل وأمل".

"ألا أيها الأبناء كلكم مني وأنا منكم اصطفوا في رحابي ولا تخافوا سلطة باطشة، أو دولة بوليسية قامعة، أو فاشية عسكرية متحكمة، هؤلاء قد يعرفون لغة البطش والقوة ومن ثم سيستخدمون السلاح لتفريقكم .. اصمدوا فأنتم أهل الصمود، اصطفوا فأنتم أهل الاعتصام، وإذا فرقتكم حينا قوى أمنية لبطش قوتها فلا تتفرقوا في مواجهة طغيان أو جبروت، تستطيعون فقط إذا ما مارستم الإنصاف أن تعملوا بجد واجتهاد للاصطفاف..  إنه حق الشهداء فاجتمعوا عليه، ومطالب شعب فانتصروا لها، ووحدة وطن فاستمسكوا بها، "كلنا ثورة يناير" .. إنها "ثورة تعود".