كتاب عربي 21

بلادنا طاردة وبلادهم حاضنة

1300x600
هذه حكاية من أرشيفي، عثرت عليها في قصاصة صحفية لا أثر فيها ل"تاريخ"، وقد ظللت محتفظا بها لأهديها اليوم الى عباقرة التربية والتعليم في بلداننا، وهي عن نابغة كندي كان يبلغ من العمر خمس سنوات، ومن قرؤوا عن ذلك الفتى سيصيحون محتجين: لا إنه لبناني!

وسأرد عليهم: كان، فأمه وأبوه كانا لبنانيين وهاجرا إلى كندا  هرباً من آذار، الثامن منه والرابع عشر منه، حيث ولد صاحبنا هناك، وبدأ يتكلم وعمره سبعة أشهر، وفي سن الثانية كان يعرف استخدام الأطلس، ويعرف مواقع نحو 100 دولة وعواصمها وأعلامها.

أما جدول الضرب الذي ما زال أبو الجعافر يستعين عليه بالآلة الحاسبة، فقد حسم الصغير أمره قبل أن يكمل الثانية أيضاً، وهو الآن يتحدث العربية والفرنسية والإنجليزية بطلاقة، ويستطيع أن يستذكر أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين خلال أقل من 90 ثانية.

وما أن ذاع أمره حتى انهالت عليه العروض من مدارس النوابغ والمتفوقين في الولايات المتحدة حتى فازت إحداهن به، وأثار ذلك حفيظة بعض نواب البرلمان الكندي الذين قالوا إن ذلك النابغة اضطر إلى الذهاب إلى الولايات المتحدة لعدم وجود مدارس خاصة بالموهوبين في كندا، وأنه لا بد من إنشاء مدرسة خاصة به على وجه السرعة، يكون هو تلميذها الأوحد إلى أن يلتحق بها غيره لاحقاً، ولكن العرض الأمريكي كان مغرياً، فقررت أمه النزوح به من كندا إلى الولايات المتحدة؛ لأنه سينال الجنسية الأمريكية حتى يتسنى له البقاء فيها كي تستفيد منه البلاد مستقبلاً.

أرجو الرجوع إلى الجملة التي جاء فيها أنه "يبلغ من العمر الآن خمس سنوات"!! لم تقل جهة ما في كندا أو الشيطان الأكبر، ما كان سيقوله سلاطين التربية والتعليم عندنا: اللائحة لا تسمح، لأن هذا الولد دون السادسة، ولن يدخل المدرسة إلا على جثتي!! ثم علام العجلة؟

ولكن ما حدث هو أن المؤسسات التعليمية في بلدين كبيرين وغنيين ومليئين بالمواهب والنوابغ تصارعت للفوز به، وتفهمت سلطات الهجرة الأمريكية أهمية اجتذاب شخص موهوب، فسمحت لعائلته بدخول الأراضي الأمريكية كمهاجرين قانونيين، رغم أنهم يحملون الجينات الإرهابية لكونهم مسلمين وعرباً. وتعالوا ننتقل إلى حفل مهيب في جلينلاند في ولاية أريزونا الأمريكية، حيث تسلمت أماندا الجمل وعمرها 8 سنوات جائزة التفوق، ورسالة تقدير من الرئيس الأمريكي، وهذه البنية هاجر أهلها من مصر مؤخراً، وقد تصبح علماً مثل أحمد زويل، فنتذكر عندها أنها "كانت" مصرية!!

إنهم استشرافيون، وعندهم الفيوتشرولوجي أي علم المستقبل، بينما نحن نستهدي بالـ"شيشبيشولوجي"، فأمورنا شيش بيش، وكل شيء بالحظ والمصادفة، ورهن ما تسفر عنه رمية النرد، والتخطيط عندنا فيه الكثير من الطيط، والقليل من ال"تخ"، الذي هو الضرب في الصميم. 
                       
بصفة عامة يمكن القول بأننا نقامر في شؤون حياتنا العامة كافة: نكلف شركة بإنشاء جسر علوي، ويكتمل المشروع ونكتشف أنها اكتفت بإقامة نفق، فنقول: نفق، نفق... خلاص يؤدي الغرض!

وقس على ذلك: نقامر بثرواتنا وقضايانا وبمستقبل أولادنا وأحفادنا، ولا نفكر في الغد بحجة أنه "ليس في اليد"، والآدمي عندنا يصبح مجرد رقم او إحصائية منذ اليوم الأول لالتحاقه بالتعليم النظامي، وشيئاً فشيئاً يتحول إلى دمية تتحكم فيها اللوائح والقوانين التي صاغها ساديون، فتضيق بلداننا على اتساعها بأبنائها وبناتها فيهاجرون ويطفشون، وتحتضنهم بلاد لا يعرفون ألسنتها ولا عاداتها، فتعيد برمجتهم ليتفوق بعضهم فتتباهى بهم بلاد المهجر، فلا يبقى لنا سوى أن نصيح: بس من أصول عربية!