عمل الخطاب القرآني منذ بدء نزوله على النبي –صلى الله عليه وسلم- على تصحيح التصور المنهاجي للإنسان من خلال البناء الإلهي لمرجعيته النهائية وعقيدته المكونة لتصوراته، فبيّن الوحي للإنسان ماهية الحق والإله الواحد الأحد –سبحانه وتعالى- وحثه على عبادته في صورة توحيدية خالصة مفارقة لجميع المخلوقات والماديات ليتجلى مفهوم (الحق) عند الفرد المسلم كقيمة متجاوزة أسمى للوجود وعلة نهائية يدور المسلم -كما تدور جميع المخلوقات- في فلكها.
فالقرآن يغرز في النفس الإنسانية مركزية قيمة (الحق) في حياته لتصبح هي الغاية والوسيلة والبداية والنهاية لكل فعل من أفعاله الإنسانية.
يظهر الخلل في التصور العقدي/الحركي للفرد المسلم عندما تحل قيمة أخرى كقيمة (الأسرة) أو (التنظيم) أو (الذات) أو (القوة) لتحل مكان قيمة (الحق) كمحرك للأفعال الإنسانية، فيبدأ المسلم في تسيير حياته وفقاً لهذه البنية العقدية/الحركية الجديدة مما يؤول إلى وقوع المسلم في مخالفة صريحة مع الحق رغم المحاولات الساذجة لشرعنة هذه المخالفات.
ربما يكون من أكبر ما ابتليت به الأمة أن بعضاً من قادتها وحركاتها رفعوا قيمة (القوة) على قيمة (الحق) فصارت القوة هي المركز الذي يدور الإسلاميون في فلكه أيا من كان مالك هذه القوة، فيأتمرون بأمرها ويدعون إلى ما تفرضه القوة من نظم، بل ويبررون شرعا الركون إليها حتى وإن خالفت صريح الدين.
الأمثلة التاريخية لمثل هذا التبديل لا تحصى، فمن ابتداع مبدأ ولاية العهد في خلافة المسلمين، إلى نشوء طبقة فقهاء السلاطين، إلى أمراء المسلمين الموالين للصليبيين، إلى المستسلمين للتتار المقاتلين تحت راياتهم .. يتبين مدى الفساد الذي يصيب دين المسلم (والذي يصل في كثير من الأحيان إلى الخروج عن دائرة الإسلام بالكلية) جراء تهميش قيمة (الحق) مقابل مركزة قيمة (القوة) وهيمنتها حتى ولو على حساب الحق.
لسنا بصدد مناقشة مدى صواب هذه الأفعال أو خطئها من الناحية الشرعية، ولكن ما نود الإشارة إليه هو أن هذ العملية لم تنحصر في التاريخ القديم فحسب، بل امتدت لتشمل حركات إسلامية معاصرة في عالمنا الإسلامي.
- فعند قدوم الاستعمار الغربي هب المسلمون لدفعه وجهاده، في الوقت الذي قام فيه بعض المتصوفة بموالاة المستعمر تحت زعم أنه الغالب والمسيطر وصاحب (القوة)، حدث ذلك خصوصا في المغرب الإسلامي من شيوخ الطريقة التجانية التي قوت شوكة المستعمر وآزرته وأصبحت جزءا عضويا من كيانه المحارب للإسلام، فكانت تقاتل المجاهدين وتطاردهم وتبلغ الفرنسيين عن أماكنهم مدّعين أن المستعمر أصبح (قوة) لا يمكن مقاومتها.
- لم يتوقف الأمر عند المتصوفة، ففي عام 1992 وأثناء العشرية السوداء في الجزائر التي تلت الانقلاب العسكري على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في الوقت الذي وقف المجاهدون أمام مذابح الجيش النظامي وأبلوا بلاء حسنا (إلى أن حدث ما حدث)، نجد الشيخ محفوظ نحناح وتنظيمه (حركة مجتمع السلم) التابعة رسميا للإخوان المسلمين يقفان في صف الجيش منذ اللحظة الأولى للانقلاب، ويقدمان له الدعم الشرعي لمواقفه، والتبرير الديني لحكمه، مع غض الطرف عن مذابحه الجماعية للإسلاميين، تحت دعوى أن الجيش صاحب (القوة) وأن مصلحة الدعوة تقتضي الوقوف في صفه والتعايش معه.
- وإبان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 قام تنظيم الدولة الإسلامية في العراق (قبل امتداده إلى سوريا) بمواجهة الاحتلال الأمريكي، فتوجه الأمريكان نحو تشكيل (الصحوات) من أبناء العشائر القبلية العراقية، فانضم العديد من البعثيين والسلفيين والإخوان إلى الصحوات لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، بدعوى أن الأمريكان هم أصحاب (القوة)، وأننا يجب أن نرضخ إلى الواقع الذي يفرضه صاحب القوة.
-وفي مصر في 2013 رأينا السقوط المخزي لمشايخ السلفية العلمية المتمثلة في المدرسة السكندرية (حزب النور مؤخراً) الذين كانوا يُدرّسون لمريديهم قواعد الولاء والبراء وأحكام الشريعة والموالاة والنصرة الخ، قام هؤلاء المشايخ بموالاة الانقلاب العسكري، ووفروا له الدعم الشرعي لمجازره، والواجهة الدينية المجتمعية المطلوبة لجرائمه، وصاروا يناصرونه ويؤيدونه بالفعل وبالقول في كافة أمور دعوتهم، لأنه في نظرهم صاحب (القوة) والمتغلب الذي يجب أن نسمع له ونطيع.
- وأخيرا في 2014 في تونس، بعدما قررت حركة النهضة مقاطعة الانتخابات الرئاسية، وكانت سببا في فوز السبسي بالرئاسة، كان أول تبرير قدمه الغنوشي لفعلته هو أنه خضع لقيمة (القوة)، مبررا مخالفات النهضة اللاأخلاقية (السياسية، والشرعية ابتداءً) أنها ائتمرت بأمر (القوة)، وأن هذه المخالفات هي الطريق الأسلم والأسهل لتجنب التضحيات، مرة أخرى يتم رفع قيمة (القوة) إلىى مستوى المرجعية النهائية الحاكمة للأفعال.
هناك نماذج أخرى عديدة، كاعتراف حركة فتح في فلسطين بالكيان الصهيوني استسلاما لأصحاب القوة، ومشاركة تكتل من الإسلاميين في حلف الشمال في أفغانسان لمواجهة التيار الجهادي، وتنظيم شيخ شريف أحمد الرئيس الصومالي الحالي (الإسلامي) الذي تعاون مع الاحتلال الإثيوبي في حربه ضد المسلمين، وغير ذلك مما لا يتسع المقال لذكره.
إن الأزمة تبدأ من تنحية قيمة (الحق)، وتغليب منطق الدوران حيث دارت (القوة)، دون اعتبار لأي ضوابط شرعية لهذه القوة أو لمالكها، هذا الخلل المادي في التصور العقدي/ الحركي للإسلاميين يحتاج إلى معالجة شرعية من خلال استقراء الخطاب القرآني ودراسة المنهاج النبوي في تطبيقه، حتى يتم استبيان طريق الحق وطريق الباطل كما أقرّها الوحي، ومن ثمّ يتم بناء تصورات المعركة على هذا الأساس.