مقالات مختارة

فيروس "الخوف واليأس والانتقام"

1300x600
تجنّبت الإدارة الأميركية تماماً توصيف ما يحدث في اليمن، من استيلاء الحوثيين على السلطة بالقوة المسلحة، بأنّه "انقلاب عسكري". وبالرغم من أنّ واشنطن تدرك تماماً أنّ الحوثيين هم امتداد للنفوذ الإيراني في اليمن، وأنّ انتصارهم يعني سيطرة طهران على منطقة استراتيجية مهمة، إلاّ أنّ الإدارة الأميركية تتحدث عن تواصل مع الحوثيين، وعن خطر واحد هناك يتمثّل في تنظيم القاعدة.

الموقف الأميركي من "القاعدة" ليس جديداً؛ إذ قامت الولايات المتحدة باستخدام الطائرات بدون طيار، والتدخل العسكري المباشر في أوقات عديدة، لمهاجمة هذا التنظيم الناشط والفعّال. إلا أن هذا الإصرار الأميركي على عدم إرسال أي رسالة مزعجة للحوثيين والإيرانيين، بل والتواطؤ معهم في سبيل مواجهة "القاعدة"، هو إحدى النتائج المهمة في التحول البنيوي في السياسات الأميركية في المنطقة، بالبحث عن صفقة إقليمية مع إيران والتحالف معها!

تتمثّل المفارقة اليمنية، كشقيقتيها السورية والعراقية، في أنّ هذا التمدد الحوثي سينجم عنه صراع اجتماعي بلباس طائفي، ما يوفّر البيئة الحاضنة تماماً لنمو تنظيم القاعدة رداً على ذلك، إذ يتمدد التنظيم في المحافظات الجنوبية والسُنّية.

ما هو أسوأ من ذلك، ويمثّل أكبر هدية اليوم لتنظيم "داعش"، هي تلك الأخبار المؤلمة عن المذابح التي يتم ارتكابها في المناطق التي ينسحب منها التنظيم بحق العراقيين السُنّة. ففي ديالى، أفادت التقارير بأنّ عناصر من الميليشيات المتحالفة مع الجيش العراقي نفّذت مذبحة بحق قرابة 70 شخصاً من المدنيين، بحسب ما أكد شيوخ عشائر في تلك المحافظة. أمّا في بعقوبة، فقد قامت مليشيات بإعدام 15 شخصاً (سُنّياً) وتعليق جثثهم على أعمدة الكهرباء. وفي نينوى، شاركت قوات من الأزيديين والبشمركة في مذابح بحق السُنّة بعد انسحاب "داعش" من تلك المناطق.

ولمن لا يعرف "داعش"، فإنّ التنظيم سعى إلى مثل هذه الحرب الداخلية الطائفية منذ ما يزيد على 10 أعوام، خلال مرحلة أبو مصعب الزرقاوي، وهو ما صرّح به جليّاً في رسالة سرية لأسامة بن لادن (تم اكتشافها لاحقاً)، يتحدث فيها الزرقاوي (مؤسس "داعش" الأول) عن أولوية العداء للشيعة على العداء للأميركيين، ويصرّ على قلب أولويات "القاعدة" بالتركيز على الشيعة أكثر من الولايات المتحدة. وهو ما رفضته قيادة "القاعدة" آنذاك، بالرغم من قبولها ببيعة الزرقاوي لابن لادن.

بيت القصيد أنّ قوة "داعش" تعتمد بدرجة رئيسة على نشر الخوف والهلع لدى المجتمع السُنّي من الشيعة. وهي الهدية التي قدّمتها بكرمٍ كبير تلك الميليشيات لتنظيم داعش خلال الأعوام الماضية. لكن قيمة الهدية تأتي اليوم مضاعفة مع التطورات الأخيرة؛ إذ تخلق قناعة لدى المجتمع السُنّي بأنّهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بداعش، أو الانكشاف أمام القتل والاعتقال والذبح والذل. ولا أدلّ على ذلك مما فعلته تلك الميليشيات في الأيام الأخيرة.

ما يحدث حالياً هو تجذير لأزمة المنطقة. فتركيز الأميركيين على مجابهة تنظيم "داعش" عسكرياً، وغض الطرف عن النفوذ الإيراني، بل والتعاون غير المباشر مع الحرس الثوري والفصائل التابعة له، وهي الحال نفسها في سورية مع نظام الأسد، حتى إن الأولوية أصبحت تتمثل بهزيمة "داعش"؛ كل ذلك سيضع المجتمعات السُنّية في العراق وسورية واليمن في جيبة "داعش"، طالما أنّه الخيار الوحيد للنجاة والبقاء!

بالطبع، الحل الوحيد يتمثل في اجتراح حلول سياسية توافقية داخلية عربية. وهذا هو الشرط الذهبي لهزيمة هذا التنظيم والفكر والنموذج، الذي أصبح بمثابة "فيروس" ينتشر في مناخات التهميش والإقصاء والشعور بالظلم والخوف على المستقبل. ومن دون ذلك، فإن منطق الانتقام والهويات البدائية سيتسيّد المشهد العربي المقبل.



(نقلا عن صحيفة الغد الأردنية)