لا شك أن قصة الانقلاب على حكم الرئيس
محمد مرسي في
مصر لها سوابق في التاريخ الحديث العربي الإسلامي، لكن هناك مثالا شديد القرب، والشبه ربما لا يتفطن إليه الكثيرون.
فقد حكم
ليبيا 18 سنة الملك محمد إدريس السنوسي، وهو ابن حركة إسلامية عريقة، كان لها اشتغال بسياسة الشأن العام، بل خاضت غمار العمل المسلح في السودان الليبي المسمى تشاد مع الغزاة الفرنسيين، وفي مصر مع الغزاة الإنجليز، وفي ليبيا مع الغزاة الطليان، بل ناصر أحدُ أئمتها السيد أحمد الشريف الأتراكَ على اليونان في الأناضول.
كان فكر هذه الدعوة يجعل من الحياة كتلة واحدة لا تمييز فيها بين الروحي والسياسي والاقتصادي والعسكري في الانتظام وفق المنهج الإسلامي، وكان فيها مجال واسع للتربية والصقل الشخصي للأفراد المنتمين إليها، وكانت معنية بالتنظيم الحركي القائم على التراتبية ودقة التكوين.
وكانت أيضًا تؤمن بالجامعة الإسلامية، وترى بلاد الإسلام موطنا لجميع المسلمين، وترى المسلمين أمة واحدة يجمعها رباط العقيدة والشريعة.
حين تولى زمام الأمر في هذه الدعوة السيد محمد إدريس السنوسي بعدما فرض الإنجليز والطليان على زعيمها ابن عمه السيد أحمد الشريف مغادرة ليبيا، بعد جولات من الصراع معهم، نحا السيد إدريس نحو العمل على استقرار القطر الليبي، واستعان بالحلفاء في نهايات الحرب العالمية الثانية على دخول الأراضي الليبية وطرد الطليان منها.
واجتهد، رحمه الله، على قدر طاقته في بناء الوطن الليبي وإخراجه من الفوضى والجهل والفقر والمرض، فتألفت الجمعية الوطنية لوضع الدستور، وأنشئت بناء عليه المؤسسات، وسارت البلاد في اتجاه تأسيس الدولة الليبية التي يحكمها دستور، وتقوم فيها حياة برلمانية، وتبنى فيها مؤسسات الدولة على قواعد علمية حديثة، وتهتم اهتماما بالغا بالتعليم، وتولي عناية كبرى لتحديث معيشة الناس.
فهل تُرك هذا الحكم الناشئ ليستكمل طريقه بعدما انشغل فقط ببناء القطر الليبي والارتقاء به بمعرفة مستعمري الأمس ومساعدتهم؟
حدث انقلاب على هذا الحكم الشرعي الدستوري الوطني، بمواطأة وموافقة إن لم نقل بمؤامرة من دول العالم الحر، ونهج الانقلاب الذي يقوده شبان أغرار في العقد الثالث من أعمارهم لا خبرة لهم ولا قدرة، نَهَجَ نَهْجَ التدمير لكل شيء بني في 18 عاما فقط (1951-1969) هي عمر الحكم الوليد، فأُلغي الدستور، وألغيت المؤسسات، وألغيت القوانين، وعاشت البلاد أربعين سنة في العراء تحت شريعة الغابة، واستبيح كل شيء فيها، الأموال والدماء والأعراض، فضلا عن القوانين والمؤسسات، ووصل سكّين التقطيع إلى الأخلاق ففُتحت المدارس الرسمية لتعليم الرشوة والسرقة والفواحش وتعاطي المخدرات وعدم الاعتراف بكل سلطة إلا سلطة القوة والمال، حدث هذا برعاية كريمة من القيادة، عفوا، أقصد بتخطيط وتنفيذ!
والنتيجة هي ما وصلت البلاد إليه اليوم من مجتمع ما قبل الدولة، ولم يكتفوا بأنهم أوصلوه إلى هذه الحالة البدائية من العيش، بل إنهم بعدما أطيح بهذا الحكم الأربعيني الغاشم في ثورة شعبية حقيقية عفوية غير مسيسة ولا مؤطرة، ما زالوا وراءه بثلاث أدوات، طيلة أربع سنوات، هي عمر الثورة:
- بالاغتيال السياسي الممنهج لصناعة واقع جديد وإثارة الرأي العام.
- وبالإعلام المحرض على الكراهية بين مكونات المجتمع الفكرية والقبلية والجهوية، ثم المحرض على القتل والتقاتل.
- وبالمال السياسي الذي يُستخدم به كل من يقبل الاستخدام، بدءا من الكتبة الأنذال، إلى مهرجي التلفزيون، إلى مدمني الـ"فيسبوك"، إلى بلطجية الشوارع، إلى المرتزقة المستعدين للقتال في كل الأمكنة والأزمنة.
ما زالوا وراءه بهذه الأدوات حتى أوصلوه إلى الحرب الأهلية، وما زالوا يؤرِّثون نار هذه الحرب ويخربون كل فرصة للتحاور والتفاوض السلميين، حتى تستحكم الثارات والأحقاد بين مكونات المجتمع، ويصعب تطبيب الجراح، أو جبر الكسور، أو رتق الفتوق.
وكان ذلك كله ثمرة الانقلاب على حكم شرعي وطني دستوري، على رأسه أحد أبناء الحركة الإسلامية، هو الملك محمد إدريس السنوسي، رحمه الله، بعدما طرح وراءه فكرة الجامعة الإسلامية، ووجه جهده إلى الجامعة القُطْرية، وبعدما قال للغرب الغازي: نريد فقط بناء وطننا الصغير هذا، فساعدونا على ذلك!
لم يشفع له كل هذا، وسلّمت البلد بعد الشريف إدريس، إلى حكم الطاغية إبليس!
وما زال رفقاء إبليس وأعوانه وصبيانه يقودون حربًا شاملة لإخضاع الوطن الليبي والإنسان الليبي، وإعادته إلى الحظيرة، بسورها وسياطها وعلفها!